هناك دول، ومن أحجام مختلفة، تتصرف كما أسماك القرش الأبيض: إذا توقفت عن الحركة تنتهي. هكذا هي حال روسيا، التي تتأرجح بين المُتخيل والممكن، بين لعنة التاريخ والجغرافيا، وبين الإمكانات والأهداف. تتمثل هواجس روسيا بين وحدة الداخل، كما المحيط المباشر، وبين السعي للأدوار الكبرى على مستوى العالم ككل، وانتزاع شرعية هذا الدور الكوني. إذا تراخت القبضة الحديدية في المركز (الكرملين) تجاه الأطراف في المدى الجغرافي والاثني الروسي، تنزع عادة هذه الأطراف إلى التمرد والانفصال، ليكون العقاب دموياً باستعمال أقصى درجات العنف. فالعنف السياسي والوحدة الروسية توأمان لا ينفصلان. وإذا انفصلا، تشظت الإمبراطورية. يقول «أمير» مكيافيللي في هذه الإطار، «من الجيد أن تكون مُهاباً ومحبوباً، ولكن من الصعب تحقيق ذلك. والأضمن أن تكون مهاباً على أن تكون محبوباً، إذا لم تستطع أن تكون كليهما؟». في الكرملين لا مكان للضعفاء، فصورة الضعف أو الإيحاء بها كفيلة بالإطاحة بساكنه. وكي تلعب روسيا الأدوار الكبيرة، لا بد من أمرين مهمين أساسيين، وهما: إمساك الداخل بقبضة من فولاذ، وتأمين العازل الجيوسياسي في المحيط المباشر. ففي المدى الجغرافي للمحيط المباشر، لا خيارات كثيرة للدول. فهي إما خاضعة وتابعة لإرادة ساكن الكرملين، أو هي عدوة تُشيطَن لتسهيل القضاء عليها. هكذا حال أوكرانيا اليوم. فحاكمها نازي وجب الإطاحة به. وهي، أي أوكرانيا، منصة الغرب و«الناتو» لضرب القلب الروسي.
أوكرانيا والقدر
يرتبط قدر أوكرانيا بما يقرره ساكن الكرملين. فأوكرانيا في الوعي الروسي هي روسيا الصغرى. في عام 1943، جرت معركة كبيرة جداً بين الجيشين، الألماني - النازي من جهة، والجيش السوفياتي من جهة أخرى. وصدف أن تكون مدينة خاركيف ومحيطها مسرحاً لهذه المعركة. انتصر الألمان في خاركيف، وتكبد الجيش السوفياتي 86 ألفاً بين قتيل وجريح. ويُكرر التاريخ نفسه في المنطقة نفسها، لكن بين الجيش الروسي والجيش الأوكراني، وفي ظروف مختلفة. في هذه الظروف يريد الرئيس بوتين تأمين المحيط المباشر، ومن ثم الانطلاق إلى الدور العالمي الذي أسس له من قبل، في كل من سوريا وأفريقيا وفنزويلا، وضمناً التفاهمات مع الصين، فقط للتوازن مع أميركا، وبسبب تقاطع المصالح المشتركة.
معركة الشرق والتداعيات: غرائب وعجائب والكثير من الأسئلة؟
غريب أن يستطيع الجيش الأوكراني استرداد ما يقارب 3000 كلم مربع من الأراضي التي احتلها الجيش الروسي في شرق أوكرانيا. وغريب أيضاً كيف حصل هذا الأمر، وبسرعة فائقة (Space and Time). لماذا لم يستوعب الجيش الروسي الهجمة الأولى، عبر تراجع بسيط، ومن ثم الارتداد بهجوم عكسي مُضاد؟ فهل تفاجأ الجيش الروسي؟ وأين كانت قوات الاحتياط؟ وكيف تحصل المفاجأة لهكذا عملية عسكرية كبيرة، وهي التي تستلزم الإعداد المُكثف في العديد والعتاد ولفترات طويلة، وحتى أنه يمكن الاستدلال حول النيات الأوكرانية، وذلك من نوعية الأهداف التي قصفها الجيش الأوكراني؟ لماذا لم يفعل سلاح الجو الروسي فعله؟ وهل استعمل الجيش الأوكراني سلاحاً يشل الرادارات الروسية (صاروخ Harm)؟ هل انطلت حيلة الخداع على روسيا، عندما فتحت أوكرانيا جبهتين، في الجنوب (خيرسون)، وبعدها في الشرق خاركيف؟ ولماذا اعتبرت روسيا أن الجبهة الجنوبية هي محور الجهد الرئيسي، بينما خاركيف هي جبهة ثانوية؟ ألم يستعلم الجيش الروسي عن جهازية وحركية وتحضيرات الجيش الأوكراني في الشرق؟ فالاستعلام التكتيكي ومؤشراته على أرض الميدان، هما أهم دليل على نيات العدو العسكرية. فعلى سبيل المثال، عندما يضع العدو مدفعيته في مكان قريب جداً من الجبهة، فهذا دليل على نيات هجومية. في المقلب الآخر، لماذا نجح الجيش الأوكراني بهذه السرعة؟ فهل للمعنويات الأثر الكبير؟ أم التحضير والتخطيط، واستعمال السلاح الغربي بطريقة ذكية ومتقدمة جداً؟ هل كان للاستعلام التكتيكي الدور الحاسم؟ وما هو دور الجيش الأميركي؟ وإذا استطاع الجيش الأوكراني تحقيق هذه المكاسب، فكيف سيحافظ عليها، وهو الذي يعاني من نقص في العديد والعتاد أيضاً؟ وهل سينزلق الجيش الأوكراني إلى نفس خطأ الجيش الروسي بتجاوز نقطة الذروة في الإمكانات (Overstretched)؟ هل سيتابع الجيش الأوكراني هجومه على جبهتين، في الجنوب والشرق؟ هل سقوط مدينة إزيوم سيرفع الضغط عن مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك في إقليم دونيتسك؟ وإذا تحرر العسكر الأوكراني من هاتين المدينتين، فأين سيُستعمل، وهو المُصنف من ضمن نخبة الجيش الأوكراني؟
في الختام، كيف سيُترجم هذا النصر سياسياً؟ وهل كل القرارات في يد كييف؟ وكيف سيرد بوتين إذا توالت الانتصارات الأوكرانية، ووصلت مثلاً إلى إقليم الدونباس، والمُعتبر روسياً؟ وإذا كان هذا الإقليم يُعتبر من ضمن الأراضي الروسية، فهو حكماً تحت المظلة النووية الروسية، فهل سيُفعل أحد بنود العقيدة النووية الروسية حول متى وكيف يستعمل السلاح النووي، والذي يقول: «يستعمل السلاح النووي ما دون الاستراتيجي، في حال تهديد الأمن القومي الروسي من المحيط المباشر، حتى ولو كان هذا التهديد تقليدياً».