أشعيا برلين ينقّب في جذور الرومانسية

رغم دعواته المبكرة للتعددية والتسامح فإن اسمه ما زال مغموراً عندنا

أشعيا برلين
أشعيا برلين
TT

أشعيا برلين ينقّب في جذور الرومانسية

أشعيا برلين
أشعيا برلين

كثيرة هي أسماء الفلاسفة الغربيين الذي لهم في تاريخ الأفكار موقع وأثر، وتتفاوت أهمية كل اسم تبعاً لدرجة الوعي الفكري بدور العقل في تحقيق حركات التحديث الكبرى وإحداث تحولات حضارية مهمة في حياة البشر. بيد أن من النادر أن نجد فيلسوفاً يراهن على الخيال الرومانتيكي مثلما يراهن على العقل التجريدي في بلوغ الحقائق كأن الخيال والعقل فعل واحد بلا تحجيم في النظر أو التدبر لأي منهما.
ويعد أشعيا برلين (1909 - 1997) من هؤلاء القلائل الذين تجسدت في أعمالهم هذه التعادلية بين الخيال والعقل من خلال تبني مبادئ الرومانتيكية ولا سيما دور العاطفة والأخلاق في الفكر السياسي. وإيزيا الروسي المولد والبريطاني الجنسية فيلسوف ومؤرخ اجتماعي ليبرالي درس تاريخ الأفكار قديمها وحديثها فوجد أن الفكر الإنساني يحتاج إلى إعادة تنظيم عقلاني يضع حداً للفوضى الفكرية وسيادة الخرافة والانصياع الأعمى للعقائد وحماقات الأنظمة القمعية وطيشها.
وكان اهتمام برلين بالملاحم والروايات قد أمدّه بالأفكار فتمثل كثيراً من نصوص الشعراء والروائيين وتولستوي في مقدمتهم، يقول: «حين كنت شاباً قرأت رواية (الحرب والسلم) وكانت تلك قراءة مبكرة للغاية لم يظهر التأثير الفعلي لهذه الرواية علي إلا لاحقاً». وكان شديد البحث عن المقولات التي تخدم توجهاته، كمقولة هيراقليطس «لا يمكن للمياه أن تتوقف عن الجريان»، ومقولة إيمانوئيل كانت «من نسيج الإنسان الفاسد لم يصنع أي شيء مستقيم أبداً»، ومقولة شيلر «الأملود الأعوج»، ومقولة هيردر «إن لكل مجتمع مركز ثقل خاصاً به»، وكذا الحال مع آخرين كأفلاطون وأرسطو وديكارت وفيكو وفيتشه وفولتير وفرويد.
وعلى الرغم مما في آرائه من أهمية تصب في صميم تطلعاتنا وتلائم مرحلتنا الراهنة من قبيل القول بالكوزموبوليتانية والتعددية والتسامح والتنوع الثقافي، فإن اسمه ما زال مغموراً عندنا وقلّما نهتم بنتاجه والتمثل بآرائه. وليس أدل على ذلك الاضطراب العجيب في ترجمة كتبه إلى اللغة العربية حتى إنك لتجد نفس الموضوعات متكررة في كتابين أو ثلاثة، ولكل واحد منها عنوان مختلف، فضلاً عن الاختلاف غير المبرر في ترجمة اسمه «Isaiah Berlin» ما بين (أشعيا وإيزايا وإيزيا وإيسيا وأزيا، وبرلن وبرلين وبيرلن).
إن ما يجعل لهذا الفيلسوف مكانة خاصة في تاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة أمران مهمان: الأول حماسته منقطعة النظير للرومانتيكية. وهي في نظره ليست مجرد مذهب أدبي أو حركة تنويرية نشأت في القرن الثامن عشر وألهمت منظّري الحركات الأدبية ومؤرخي الفلسفة كثيراً من الرؤى والنظريات ثم ذوت مع ظهور الواقعية، بل هي حركة تصلح لكل زمان ومكان وهي التي «أحدثت تحولاً هائلاً وجذرياً لم يعد بعده شيء كما كان سابقاً»، نظراً لما فيها من ديمومة تتضاد مع العقلانية ولكونها ثورة دائمة التجدد على كل ما هو تقليدي واتّباعي.
وكثيرة هي الأسس الرومانتيكية التي عليها بنى برلين تصوراته الفكرية، منها أن اللاعقلانية آلية من آليات التفكير، والعقل الذي نمجده مجرد «دمية محشوّة، منحتها الخرافة الصارخة واللاعقلانية صفات الألوهية» ومنها أن المعايير القابلة للبرهنة لم تعد طريقاً للوصول إلى الحقائق، بل إن للمفاجئ والبدائي والنائي أن يكون طريقاً للمعرفة والتوق إلى اللانهائية وتمجيد الإرادة في الثورة ضد خرافة العالم المثالي.
ومع إيمانه بأن الحقيقة أجمل شيء في العالم بأسره، غير أن للأخلاق أهمية أكبر، من هنا احتلت القيم الأخلاقية المركز في توجهاته الرومانتيكية وبسببها صار يُعرف بفيلسوف القيم الذي استقرأ تاريخ البشرية فوجد من الضروري الدعوة إلى نظام عالمي جديد وجد إرهاصاته في أعمال الروائيين هكسلي وأوريل، وهذا الأمر يجعله سباقاً في الدخول إلى المرحلة ما بعد الأنوارية الرافضة للأناركية أو الفوضوية.
وبسبب نزعته الأخلاقية، بدا برلين واثقاً أولاً من أفول الأفكار الطوباوية في السعي وراء المثل الأعلى داخل العالم الغربي، ومتشائماً ثانياً مما يراه في العالم المعاصر من نزعات قومية وعواصف آيديولوجية وحكومات استبدادية ونزعات شوفينية وتمييز عنصري وتعصب ديني.
وهو متأثر في نزوعه الرومانتيكي هذا بالفيلسوف الإيطالي جيمامباتيستا فيكو (1668 - 1744) تأثراً كبيراً في وقت لم يكن أحد في جامعة أكسفورد -كما يذكر برلين- قد سمع بفيكو سوى كوليغوود الذي ترجم له كتاب «كروس» وحضه على قراءته. وبالفعل قرأه وأعجبته أفكاره لا سيما فكرة تعاقب الحضارات البشرية. وإذا كان جوهان غوتلب فيتشه هو الأب الروحي للرومانتيكية فإن فيكو في نظر برلين هو الأب الحقيقي لمفهوم الثقافة الحديثة والتعددية الثقافية التي تقرّ أن لكل ثقافة أصيلة رؤية تنفرد بها، وهو الذي لم يفترض أن البشر منغلقون على عصورهم أو ثقافاتهم معزولون في صناديق لا نوافذ لها. وهذه النظرة الانفتاحية التي دشنها فيكو في كتابه «العلم الجديد» سابقة لما أرساه علماء الاجتماع الأنثربولوجيون فيما بعد حول أساطير وسلوكيات المجتمعات البدائية فلم يروها هراء أو بربرية، بل ذهبوا إلى أن أقدم القبائل البدائية كان عندها الخيال قوياً مثلما هي قدراتها العقلية.
وكما تأثر إدوارد سعيد بفيكو في التنظير لما بعد الكولونيالية كذلك تأثر برلين بفيكو في القول بالتعددية والانفتاح والاندماج وهو ما جعله يضيف إلى علم الأخلاق كثيراً من الرؤى الجديدة، وهو القائل: «أمضيت أربعين عاماً من عمري في محاولة أن أقول شيئاً عمّا أقحمني في هذا الشأن خصوصاً عن نقطة تحول نجم عنها تغير حاسم في أفكاري».
إن النقطة الحاسمة في تأثر برلين بفيكو تنبع من هذا التلاقي بين الخيال الرومانتيكي والتفكير العقلي التجريدي. وبسبب ذلك صار برلين مفكراً كوزموبوليتانياً، وشرح الأمر كالآتي: «فكرة أنك تستطيع أن تفهم البشر الآخرين فقط من خلال بيئتهم التي تختلف كثيراً عن بيئتك هذا هو أصل فكرة الانتماء، لهذا السبب كانت فكرة إنسان كوزموبوليتاني يشعر بالانتماء في باريس كما يشعر به في كوبنهاغن أو آيسلندا أو الهند».
ولأن الخيال الخصب المتنوع هو قطب رحى الحركة الرومانتيكية في الفن والفلسفة، ذهب إلى أن الحقيقة ليست واحدة أو لا تتجزأ -كما يرى الفكر الغربي- بل هي قابلة للنقد. ومن هنا آمن بأن للفنتازيا أهمية لا غنى عنها في فهم المعرفة التاريخية، منطلقاً من إيمان صميم بالترابط الوثيق بين فلسفة الأفكار وجماليات الفن ودورها في توجيه النشاط الإنساني، مؤكداً أن التكامل في النظرة الشمولية للفن لا يأتي إلا من التلاقي الخالص والحتمي ببين الفلسفة والفن.
الأمر الثاني في أطروحة الفيلسوف برلين، يتمثل في توجيه نزعته الرومانتيكية توجيهاً قصدياً باتجاه معارضة الماركسية. وإذا كنا نضع في كفة واحدة كل ما تقدم من تأثر برلين بالرومانتيكية كحركة تنويرية وبفيكو كمفكر تعددي، فإن الكفة الأخرى التي تعادلها تتمثل في موقف برلين من كارل ماركس ونقده اللاذع له. وأول ذلك هجومه الصارم عليه بوصفه كارهاً للرومانتيكية والأكثر عداءً للعاطفة، يحب القتال في جميع الجبهات، يرى تاريخ المجتمع هو تاريخ النضال بين طبقات يناوئ بعضها بعضاً ولا بد أن تخرج إحداها منه منتصرة وهي دوماً طبقة البروليتاريا.
وتتبع طفولة ماركس ومراهقته وتنقلاته فوجده مفكراً «كانت تعوزه تماماً صفات القائد أو الزعيم الشعبي العظيم وهو لم يكن داعية عبقرياً مثل الديمقراطي الروسي إسكندر هوزن، ولم تكن لديه بلاغة بامونين العجيبة... فلم يكن معروفاً لدى عامة الناس»، (كتابه: كارل ماركس، ترجمة عبد الكريم أحمد، دار القلم، القاهرة، ص2).
ويتجلى حنقه على ماركس أكثر حين يدخل إلى تفاصيل فلسفته من ناحية أنه تكلم باسم قانون الطبيعة لا باسم البشر وأن هدفه كشف الحقيقة ودحض الأباطيل قبل كل شيء. وأنه كرس حياته لوضع الخطط التي تكفل انتصار الذين وضع نفسه على رأسهم وهو انتصار كان التطور التاريخي -كما يرى برلين- كفيلاً بأن يحققه على أي حال.
أما لماذا صار ماركس رائداً لجيله؟ فلاعتقاده الصارم بضرورة قطع كل صلة بالماضي من أجل إقامة نظام اجتماعي جديد لما بدا لماركس أيضاً من «أن المشاعر الإنسانية المخلصة ستار تترعرع خلفه بذور الضعف والخيانة بعيداً عن الأنظار نتيجة للرغبة في الوصول إلى حل وسط مع الرجعية... يقوم على الخوف من الحقيقة»، (الكتاب، ص 10).
وكثيرة هي مواطن سخرية برلين من ماركس، فالمدة التي قضاها ماركس مثلاً في مكتبة المتحف البريطاني بلندن -وخلالها لم يقابل إلا قلة من الإنجليز فلم يفهم أسلوبهم في الحياة- لا تختلف عن المدة التي يمكن له أن يقضيها في أي مدينة أخرى مثل مدغشقر شرط أن يجد فيها الكتب والجرائد. كما سخر من ماركس وهو يستشهد بحادثة جرت عام 1843 فيها دخل ماركس -وكان محرراً لجريدة راديكالية- في مشادة حول موضوع اقتصادي كان فيه جاهلاً جهلاً تاماً بمبادئ النمو الاقتصادي وتاريخه ثم قام بتعليم نفسه ليظهر عام 1848 كمفكر سياسي واقتصادي يضع نظرية اقتصادية كاملة عن المجتمع وتطوره معبراً بتعالٍ عن أنه سيعطي كل ذي حق حقه. ولإيمان برلين بأن الأشياء لا يمكن أن توصف دون الرجوع إلى أهداف صانعيها، وجد أن كثيراً من المبادئ التي جاء بها ماركس هي ببساطة غصب لأفكار فلاسفة سابقين، ذلك أن القرن الثامن عشر لم يكن مجدباً من مثل هذه المبادئ، وكل الذي فعله ماركس وصار بسببه مشهوراً هو أنه أعطى أجوبة صريحة مألوفة لأسئلة كانت تشغل أذهان الناس في ذلك العهد.
ومن المبادئ المغصوبة (المادية الجدلية) ووجدها برلين بصورتها الكاملة في رسالة كتبها هولباخ قبل ماركس بقرن وكان فيها مديناً بالكثير لسبينوزا ثم أعاد فيورباخ كتابتها بصورة معدلة في عهد ماركس نفسه. ومنها مقولة «التاريخ البشري هو تاريخ الصراع بين الطبقات الاجتماعية» التي تعود لسان سيمون، وأول من قال بحتمية وقوع الأزمات الاقتصادية هو سيسموندي، وأن نظرية القيمة تعود إلى لوك وآدم سمث، ونظرية الاستغلال وفائض القيمة تعود إلى فوربيه وهودجسكين. وتابع برلين قائلاً: «وإنه لمن السهولة بمكان أن نستمر في هذه القائمة إلى أبعد من ذلك»، (ص 12). إن الإخلاص الذي تجمّل به إيزايا برلين تجاه الرومانتيكية جعله متحزباً لها ومتعصباً لمبادئها، ملغياً كل ما سواها من النزعات والحركات المذهبية التي قبلها والتي بعدها. ومن ثم بدا متطرفاً وهو يحاكم ماركس بمقصلة العاطفة ويضعه بين مطرقة الخيال وسندان العقل. ويبقى الأهم من ذلك نظام الأخلاق الذي فيه وجد برلين للقيم مكاناً رئيسياً، به تتوافق حياة البشر.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.