ما معنى الحياة حقاً؟

الجدل مستمر حولها بين نظرة العلم والدين

ما معنى الحياة حقاً؟
TT

ما معنى الحياة حقاً؟

ما معنى الحياة حقاً؟

ربما توجد وفرة من المعاني المفعمة في الحياة، وهناك من يرى معناها في استهلاكها، طعامٌ وما لذّ من شراب، وزوجةٌ تملأ العين والدار بالعيال، وإلى هؤلاء ينتمي الروائي هيرمان ميلفل، وهو يُعلن صراحة رأيه؛ الحياة هي في الفراش الدافئ والطعام الساخن والسرج الوثير. وقال أحدهم: فخر الحياة في اقتحامها، المغامرة تلو المغامرة تلو الأخرى، في الحبّ والسياسة والعمل والتجارة، وهذه ليست نظرة الفيلسوف شوبنهاور إلى الوجود: «على الإنسان أن يدرك جيداً أن الحياة لم تخلق ليستمتع بها، بل ليتحمّلها، ويتخلص منها في النهاية». إن صاحب نظرية اقتحام الحياة يقف على الضدّ تماماً من الفيلسوف، ويقف بين الاثنين الروائي الأميركي كيرت فونغيت صاحب رائعة «المسلخ رقم 5»: «نحن هنا على الأرض كي نتسكّع فقط، لا تترك أي شخص يقنعك بشيء مختلف». يبدو أن نظرة الشباب اليوم، والناس عموماً، إلى الحياة تتجه مع هذا المعنى الضئيل والتّفِه. الحياة العظيمة تكون عندما يوجد هناك عمل مثمر، ولسان حال صاحبها يقول: «اعمل ريثما ينتهي اليوم، لأنه مع مجيء اللّيل لا يمكن لأحد أن يعمل»، ونتيجة العمل الحتمية هي التعب، والتعب يوقر الروح. شيخٌ تبدو عليه الحيوية والمهابة ويمرّ كلّ يوم في الصّبح أمام داري، ونتكلّم أحياناً، وتشاء الصّدفة في ذلك اليوم أنه أخبرني بهذا السِرّ: «لقد خرّجْتُ من بيتي في هذه السنة الدفعة الرابعة، وهم الآن على أبواب الزّواج».
وتعني الحياة بالنسبة إلى شابّ فقير تعرّفتُ عليه في محلّ عملي لا أكثر من وجبة عشاء دسمة، فإذا لم يحصل عليها غاب عنه النّوم، وبقي صاحياً أبداً. وهناك من يرى المباهاة الفارغة سبب وجوده. في أيام الطفولة والصّبا كان البعض يحاول السّير على يديه وقدميه بالمقلوب، وظهره إلى الأرض ووجهه إلى السماء، وكانت هذه تُدعى «مشية العقرب»، ومنها جاء المثل الذي يُقال لمن يقوم بأفعال لا يحصل منها غير التّباهي: «اِقلبْ عقربْ». كم من الناس ممن نلتقيهم يمشون مثل العقرب، ويهوون هذا الأمر، ولا يتخلّون عنه حتى آخر رمق لهم، وتكثر هذه الطبيعة لدى أهل السّياسة. عندما يكون الوالي ممن لا يُغرمون بتقليد العقارب يصبح الناس بخير. قالت العرب: «صلاحُ الوالي خيرٌ من خصبِ الزّمان».
كان الشّاعر معروف الرصافي يختبر الرّجال في مقدار صدقهم، فإن كذِبَ أحدٌ، سقط مباشرة من نظره. وهناك في كلّ بيئة مَثَل واحد وأكثر مما تقوله العامّة عند محاولة الحطّ من قيمة المرء وتحقيره، والحياء يمنعني من ذِكر هذه الأمثال، لكنها جاهزة حتماً في ذاكرة الجميع.
البعض يرفع الفشل شعاراً لوجوده حتى النهاية، من دفاتر تشيخوف نقرأ: «ممثلة أفسدت كلّ أدوارها بأداء في منتهى الرداءة، واستمرّت على هذا المنوال طوال حياتها إلى أن ماتت. ما أحبها أحد؛ كانت تُودِي بأحسن الأدوار قاطبة، ومع ذلك واصلت التمثيل حتى بلغت السّبعينَ». أكيدٌ أنكم فكّرتم الآن في أسماء ممثلين وشعراء وكتّاب يعيشون بينكم، يشبهون هذه السيدة. وهناك من هم أسوياء في الخلقة، ومع ذلك يختزلون وجودهم في جسد بيولوجي يفتقد أيّ غرض، لا خير فيه ولا قيمة أصيلة، أي أن حالهم حال الذباب. ويصوغ الروائي الروسي ليو تولستوي هذه الفكرة، رغم أنه أبدع ملحمة «الحرب والسلام»: «أنت كائن زائل، مجرد تكتل عشوائي لأجزاء، يشكل الترابط بين هذه الأجزاء، والتغيير فيها، ما تدعوه بالحياة. ستبقى هذه التجميعات العشوائية لبعض الوقت، سيتوقف بعده ترابط هذه الأجزاء وسيصل ذلك الذي تدعوه بالحياة وكل أسئلته إلى نهاية». هل كانت كشوفات السيد دارون في علم الطبيعيات السبب وراء تفكير تولستوي هذا؟ لكنه اعتنق المسيحية في سنواته الأخيرة، وصار يبشّر بها بالقول والفعل، وبقيت تلك الآراء عن أصل الحياة وفنائها سائدة في أوروبا، وكانت تشكل امتداداً لما عرفته البشرية من أفكار تدعو إلى الإلحاد، وهذا الجدل بين نظرة العلم والدين إلى الماهية ما زال مستمرّاً، وتطوّر في القرنين الأخيرين كثيراً، وصارت الغلبة للرأي العلمي لدى أكثرية الناس هي المفتاح الأول في التفكير، وإذا عدنا إلى بدايات عصر النهضة وجدنا الأبحاث التطبيقية تدور في فلك الكنيسة، وكل نظرية واكتشاف هو في حقيقته طريقة لتمجيد الله، ويؤدي هذا النوع من التأويل حتماً إلى تقديس الحياة، لأن الله يحلّ عندها في كل شيء بالوجود، ويحمل معناه. قال عالم الفيزياء نيوتن عام 1713: «هذا النظام الرائع من الشمس والكواكب والنجوم يمكن تسييره فقط بإرادة كائن ذكيّ ومسيطر». كم يشبه هذا المعنى ما بلغه خطيب العرب الفضل بن عيسى الرقاشي، وذكره الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»: «سل الأرض فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً». إن نظرة الإيمان والتقديس الوجودي التي ابتكرها التفكير الديني شعرية في الأصل، أي أن من توصّل إليها امرؤٌ شاعر، كلما زادت نسبة الخيال لديه صار ما يأتينا به أكثر إقناعاً، وبالتالي تداولاً بين الناس في الواقع، وتتشابه جميع الأديان في النظرة الشعرية إلى الوجود.
أكثر البشر لا همّ لهم في المعيشة غير طلب السعادة، وهذه كلمة مائعة ليس لها تعريف واحد، فهي في الشرق غيرها في الشمال، ولدى الطفل تختلف المتعة عن تلك التي يطلبها الرجل أو المرأة. بالنسبة إلى الصينيين القدامى، وكذلك بعض المحدثين، فإن الشقاء الشخصي يُنظر إليه وسامَ شرفٍ، وهو المعنى القيّم الذي لا مثيل له للحياة لأنه يكشف عن التضحيات التي قام بها المرء لصالح أسرته وأمّته. إن هذا السبيل يؤدي بصاحبه يوماً بعد يوم إلى مزيد من المشاعر الإيجابية، وهذه تختلف في جوهرها كثيراً عن إحساسنا بالسعادة، ولمعرفة الفرق بين الاثنين أذكر هذا المثال:
في عام 2019 صنّف تقرير السعادة العالمي فنلندا على أنه البلد الأكثر سعادة، فلدى الناس جميعاً خدمات اجتماعية واسعة النطاق، وحرية في الصحافة وثقة بالحكومة لا مثيل لها. ولكن عندما تمّ اختبار المشاعر الإيجابية لدى الناس انقلب الجدول، وصارت بلدانٌ مثل غواتيمالا وكوستاريكا تحتل القمة، وابتعدت فنلندا كثيراً عنها. أخيراً، وبالنسبة إلى كاتب السطور، فإن كلّ ما مرّ يعطي للحياة معنى، ويبقى أسماها هو طلب العلم، وهذا ممّا لا يُحصّله المرء بواسطة الكتب ودور الدرس، وإنما هو «علم يأتيني من عذاب النّفس» مثلما يقول الفرنسي أليكسيس سان ليجيه.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.


آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
TT

آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

احتشد آلاف الأشخاص ورقصوا حول «ستونهنج» في إنجلترا، بينما ارتفعت الشمس فوق الدائرة الحجرية ما قبل التاريخ، اليوم (الأحد)، في الانقلاب الشتوي.

وتجمعت الحشود، العديد منهم مرتدون زي الدرويد والمشعوذين الوثنيين، قبل الفجر، منتظرين بصبر في الحقل البارد والمظلم في جنوب غربي إنجلترا. وغنى بعضهم، وضربوا الطبول، بينما أخذ آخرون وقتهم للتأمل بين الأعمدة الحجرية الضخمة.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

يقوم كثيرون بزيارة هذه الدائرة الحجرية كل صيف وشتاء، معتبرين ذلك تجربة روحية. ويعد النصب القديم، الذي بني بين 5000 و3500 سنة مضت، مصمماً ليتوافق مع حركة الشمس خلال الانقلابات، وهي تواريخ رئيسية في التقويم بالنسبة للمزارعين القدماء.

وقالت منظمة إنجلش هيريتاج، المسؤولة عن إدارة «ستونهنج»، إن نحو 8500 شخص احتفلوا يوم السبت بالموقع في سالزبوري بلين، على بعد نحو 75 ميلاً (120 كيلومتراً) جنوب غربي لندن. وأضافت أن البثّ المباشر للاحتفالات جذب أكثر من 242 ألف مشاهدة من جميع أنحاء العالم.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

واليوم (الأحد)، هو أقصر يوم في السنة شمال خط الاستواء، حيث يشير الانقلاب الشتوي إلى بداية الشتاء الفلكي. أما في نصف الكرة الجنوبي، فهو أطول يوم في السنة ويبدأ الصيف.

ويحدث الانقلاب الشتوي عندما تصنع الشمس أقصر وأدنى قوس لها، لكن العديد من الأشخاص يحتفلون به كوقت للتجديد، لأن الشمس بعد يوم الأحد ستبدأ بالارتفاع مجدداً، وستزداد مدة النهار يوماً بعد يوم حتى أواخر يونيو (حزيران).


«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
TT

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

يقدّم الفيلم العراقي «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل، مدينة الجراح المفتوحة، بعد سنوات من محاولته الابتعاد عن العراق وصراعاته، فبعد نجاح فيلمه السابق «لا مكان للاختباء» وما تركه من أثر عاطفي ثقيل عليه، كان المخرج يؤكد لنفسه أنه لن يصوّر في المنطقة مرة أخرى.

لكن المُوصل كما يقول لـ«الشرق الأوسط» أعادت جذبه ببطء حين رأى الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب مع تنظيم «داعش»، وواجه أسئلة لم يتمكن من تجاهلها حول كيفية سقوط مدينة بهذا التاريخ أمام 800 مقاتل فقط، وكيف يحاول سكانها اليوم النهوض من جديد.

الفيلم الذي حصد التانيت الفضي للفيلم الوثائقي الطويل ضمن فعاليات الدورة الـ36 من «أيام قرطاج السينمائية»، بتونس، بدأت رحلة مخرجه من فكرة مختلفة تماماً، إذ كان يبحث عن تحفة أثرية، تُعرف باسم «بطارية بغداد»، ظنّ أنها سُرقت بعد عام 2003، قبل أن يكتشف وجودها في قبو المتحف الوطني.

وثّق الفيلم جانباً من الأضرار التي لحقت بالموصل (الشركة المنتجة)

لكن زيارة إلى الموصل بدّلت مسار الفيلم، ففي أحد الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وقف أمام منزل دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى بوابة رخامية، يعلوها أسدان منحوتان، كأنهما الحارسان الأخيران لزمنٍ مضى، هذا المشهد كان كافياً ليقرر أنه أمام قصة أكبر من مجرد بحث أثري، بل أمام ذاكرة مدينة بأكملها.

تعرف أحمد خلال تلك الرحلات إلى بشّار، الصياد ابن الموصل وصاحب المنزل المدمر، 4 أجيال من عائلته عاشت في ذلك البيت، واليوم لم يبقَ لهم سوى هذين الأسدين، في نظر بشّار لم يكونا حجارة، بل كانا امتداداً لعائلته، لذكرياته، لروحه كلها، يذهب يومياً إلى الأطلال ليحرسهما، ويواجه محاولات سرقة متكررة، ويقاوم شعوراً لا ينتهي بأن الدولة تخلّت عنه، وأن مدينته فقدت القدرة على ضمّه، مأساته في الفيلم ليست فقدان منزل فقط، بل فقدان هوية، وفشل محاولات الإقناع بأن الوقت قد حان للبدء من جديد.

رصد الفيلم جوانب مختلفة من الحياة في الموصل (الشركة المنتجة)

وفي مقابل بشار، يظهر فخري، الشخصية التي تضيف بعداً مختلفاً للفيلم، رجلاً ستينياً، جمع على مدى سنوات أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية أنقذها من بيوت مهجورة وبقايا خراب الحرب، وحوّل منزله إلى متحف مفتوح للناس، باع سيارته، ومقتنيات زوجته، ومدخراته كلها ليحافظ على جزء من هوية الموصل. في البداية، كان يحلم بأن يضم باب منزل بشّار إلى مجموعته، معتقداً أنه يحمي تاريخ المدينة من الضياع.

لكن مع الوقت تبدأ تحولات داخلية عميقة تظهر في شخصيته، خصوصاً حين يواجهه صديقه الموسيقار فاضل بأن التاريخ ليس سلعة، وأن ما تبقى لبشّار ليس حجراً بل حياته نفسها، فيصبح هذا الصراع الإنساني بين رجلين يحبان مدينتهما على طريقتين مختلفتين محوراً أساسياً ينبني عليه الفيلم.

أما فاضل، الموسيقار الذي عاش 3 سنوات من الرعب تحت حكم «داعش»، فكان يخفي آلته الموسيقية خشية إعدامه. يخرج اليوم إلى الشارع، يعزف وسط الأنقاض، يعلّم جيلاً جديداً من الشباب ومعظمهم من الفتيات ويعيد الموسيقى إلى مدينة حاول التطرف أن يخنق صوتها، وجوده في الفيلم لا يقدّم بعداً موسيقياً جمالياً فقط، بل يعكس التغيّر الأعمق الذي عاشته الموصل بعد التحرير، انفتاحاً ثقافياً مفاجئاً وغير متوقع، وعودة للحياة المدنية من خلال الفن، لا السياسة.

التصوير كان رحلة محفوفة بالمخاطر كما يؤكد المخرج، فالكاميرا في العراق ليست موضع ترحيب، الناس يخشونها، السلطات تشك فيها، والمخابئ والممرات تحت الأرض كانت لا تزال مليئة بالألغام وبقايا العبوات، كثيراً ما أوقفته الشرطة أو اتهمه البعض بالتجسس، بينما كان يحاول الحفاظ على سلامة فريقه وسلامة الشخصيات التي ترافقه داخل أحياء مهدمة. ومع ذلك، كان الإحساس بأن الوقت ضيق والمدينة تتغير بسرعة دافعاً له للاستمرار، كما لو أنه يصوّر آخر فرصة لتوثيق ما تبقى من ذاكرة شفافة قبل أن تذوب.

خلال 5 سنوات من العمل، جمع المخرج أكثر من 600 ساعة تصوير، لم يكن يعتمد على سيناريو ثابت، بل على تطور القصة من قلب الواقع، وعلى اللحظة التي يلتقطها بعفوية، وعلى مشاهد تنشأ من الصمت أو من جملة يقولها بشّار أو فخري أو فاضل. ولهذا يبدو الفيلم حياً، غير مشكَّل مسبقاً، أقرب إلى تسجيل نبض مدينة تبحث عن روحها.

عودة الروح والموسيقى إلى الموصل بعد تحريرها من أيدي «داعش» (الشركة المنتجة)

يمتد أثر الفيلم إلى ما يتجاوز الشخصيات، فالموصل التي يظهرها أحمد ليست مجرد مدينة مدمرة، بل مدينة تحاول استعادة معمارها وروحها وذاكرتها، حيث نساء يخرجن إلى الساحات من جديد، فنانون يعيدون افتتاح المسرح، موسيقيون يدرّبون أطفالاً صغاراً، ومتحف وطني يُرمَّم بعد أن دمّره «داعش»، كل تفصيلة تتحرك داخل الفيلم باعتبارها جزءاً من سؤال أكبر؛ هل يمكن لمدينة فقدت كل شيء أن تستعيد هويتها؟ وهل يستطيع الإنسان أن يشفى من ذاكرة الحرب؟

ورغم أن الموصل اليوم أكثر أماناً، فإن المخرج يذكّر بأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة، ويرى أن المدينة مثل مرآة للمنطقة كلها، وأن ما يحدث فيها يعكس ما يمكن أن يحدث في مدن أخرى إذا تُركت بلا دعم حقيقي أو دون إعادة بناء للثقة والوعي والانتماء.