{الشرق الأوسط} : في مهرجان برلين السينمائي (8): أفلام تتداول أحوال المسلمين في عالم مضطرب

من أفغانستان إلى ألمانيا مرورا بأميركا

«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته
«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته
TT

{الشرق الأوسط} : في مهرجان برلين السينمائي (8): أفلام تتداول أحوال المسلمين في عالم مضطرب

«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته
«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته

وصلت الدورة الرابعة والستون إلى خواتمها، وتوقف عرض الأفلام المتسابقة بانتظار نتيجة لجنة التحكيم التي تعلن، اليوم (الأحد). وإذ تسدل الستارة على دورة أخرى لمهرجان عريق، تستوقف المرء صورة خيالية لما قد تكون عليه الأفلام التي عرضت فيه منذ دورته الأولى سنة 1951 إلى اليوم. ما الذي تكشفه عن الحياة وعن المبدعين الذين اشتغلوا جل طاقتهم لإنجاز رؤاهم الشخصية في المحيط الكبير حولهم وبأساليبهم المتباينة؟!
وإذا ما كانت الأفلام، على نحو طبيعي، تنقسم إلى تعبير عن اتجاهات وتيارات، فإن أحد أبرز هذه الاتجاهات هو تلك المتمثّلة بأكثر من فيلم شوهد هنا (نختار منها ثلاثة عرضتها المسابقة الرسمية) هو ذلك الذي يتناول الإسلام والمسلمين في ثلاثة ظروف اجتماعية متغايرة؛ المسلم المعزول في «رجلان في البلدة»، والشيشاني الباحث عن طريق في «ماكوندو»، ثم المسلم الأفغاني الذي يتعرّض للضغوط بسبب تعاونه مع قوات الغرب في «بين عالمين».

* ربط أفضل
إذا ما كان المخرج الجزائري - الفرنسي رشيد بوشارب وطئ أرضا غير ثابتة في فيلمه الأخير «رجلان في البلدة» متحدّثا عن أميركي أسود مسلم ومشكلاته مع محيطه، فإن بضعة أفلام أخرى وجدت في العنوان الكبير لهذا الموضوع مجالا موازيا، ونافذة تطل على مشهد عريض من لقاء عاصف بين الفرد المسلم والمجتمع.
فيلم «رجلان في البلدة»، كما تقدّم هنا قبل أيام، يتناول حكاية أميركي أسود اسمه ويليام (فورست ويتيكر) خرج من السجن بعد 18 سنة من المكوث داخله، بعدما قتل نائب رئيس الشرطة في بلدة تكساسية قرب الحدود المكسيكية. خلال فترة اعتقاله اعتنق الإسلام وخرج للدنيا بقناعات مختلفة محاولا نبذ العنف في داخله والعيش بسلام مع محيطه وعدم زيارة ذلك الماضي الأسود بعد ذلك. بصواب، رصد بوشارب المواجهات المضادة؛ رئيس البوليس (هارفي كايتل) الذي لم يغفر لويليام بعد قتله لنائبه، وأضاف عليها شعورا عنصريا وطائفيا، عندما علم بأن ويليام بات مسلما. ألم يرتكب مسلمون كارثة نيويورك؟ رئيس البوليس رفض الهدنة التي يرغبها ويليام لنفسه، وأخذ يؤلب عليه الأبواب المفتوحة قليلا لكي يعمل ويعيش ويحب. في النهاية، هو ويليام الذي يخسر المواجهة، إذ اضطر لقتل طرف آخر من المعادلة، ذاك المكسيكي الأصل ترنس (لويس غوزمان) الذي كان يحاول شدّه إلى الجريمة من جديد، وفي سبيل ذلك اعتدى بالضرب على المرأة التي أمنت لويليام وأحبّته (دولوريس هيريديا).
الغائب هو الربط الأفضل لكل هذه الاتجاهات. بدءا برئيس البوليس (الشريف) الذي نراه رؤوفا بالمهاجرين المكسيكيين (وإن كانوا عبروا الحدود بصورة غير شرعية)، وطائفيا بغيضا ضد الأميركي ويليام. جمع التناقض ليس مشكلة بحد ذاته، إلا إذا غاب التبرير أو القراءة الأعمق للشخصية، وهذا ما ليس موجودا هنا. كذلك فإن «إسلام» ويليام لا يجعل الفيلم أكثر حدّة. لا يمنح الفيلم سوى مشاهد الوضوء والصلاة (بقراءة خطأ) إذ ليس هناك مشاهد تجعل المخرج مضطرا لتقديم شخصية مسلمة. يكفيها مثلا أن تكون سوداء، أو حتى يكفيها أن تجد نفسها بين فريقين يحاربانها؛ القانون والخارجين على القانون في الوقت ذاته.
النهاية، مجسّدة بقتله رئيس العصابة ترنس بالنهل عليه بحجارة، كما حادثة قابيل وهابيل، ثم التوجه للماء لكي يتوضأ ويصلي، فإذا به لا يستطع فعل ذلك إذ ارتكب جريمة قتل، هو نوع من ضخ الماء في بحيرة. ذلك لأن القيمة المنشودة من أن ويليام لم يعد قادرا على أداء الفريضة، تدينه حتى من بعد أن يعترف بخطئه للمشاهد. يقفل الفيلم هنا والمشاهد أدرك منذ حين أن المخرج يوصم المحيط الاجتماعي بنقده لرفض التعامل مع بطله، لكن الإسلام لا يزال محشورا في ذلك السياق الذي كان يمكن له أن يكون أبسط وأكثر تأثيرا.

* نقطة ناجحة
في «ماكوندو»، الذي عرض صباح الجمعة وجه آخر مختلف وأكثر إقناعا. المخرجة الإيرانية الأصل سودابة مرتضي المولودة في ألمانيا سنة 1968 تلاحق حكاية صبي شيشاني الأصل اسمه راماسان (راماسان منكايلوف) يعيش وأمه (خدا كازييفا) وشقيقتيه الصغيرتين في ضواحي مدينة فيينا. العائلة كانت هاجرت تبعا للحرب وبعد مقتل الأب، إلى النمسا، والأم وجدت عملا وأدخلت أولادها المدارس الحكومية، لكن استقرارها في البلاد محكوم بسيرة ابنها الذي يبلغ من العمر 11 سنة أو نحوها. وهذا، ببحثه الدفين عن عالم يستطيع التأقلم معه ولا يجده إلا في مصادقة لاجئين من أترابه، يشكل الهاجس الذي يؤرق بال الأم لحين. في البداية يبدو رامسان مجرد صبي طيّع ومهذّب، وحين تخفي شقيقته الصغيرة حلوى في جيبها خلال التبضّع، يخرج تلك الحلوى لأنه يرفض السرقة. هذا في نصف الساعة الأولى من الفيلم، لكنه لاحقا، في نصف الساعة الأخيرة، وبسبب اختلاطه بالأولاد الآيلين إلى الجنوح، يقرر سرقة أداة لخلع الأبواب. بعد كشفه، وقيام المسؤولين بتحذير الأم من أن طلبها اللجوء والبقاء سيكون عرضة للإلغاء إذا ما لم يغير ابنها مسلكه، نجده يشترك في محاولة خلع ذلك الباب مع أصحابه. عندما تطارده سيارة أصحاب المكان (مرأب لشاحنات) يهرب إلى الغابة في الظلام. في اليوم التالي، يصل البوليس لسؤاله بصحبة مطارده النمساوي الذي يكاد يقسم بأنه راماسان هو الفتى الذي شاهده ليلة أمس. ينبري الجار عيسى (أصلان ألبييف) ويدّعي أن الولد كان بصحبته طوال النهار. لكن راماسان لديه مشكلة مع عيسى تتلخص في أنه يتهم عيسى بقتل أبيه، ويراه الآن يتقرّب من أمه فيلصق بعيسى تهمة أنه لص، مما ينتج عنه قيادة البوليس لعيسى، الأمر الذي سبب ضيقا كبيرا للصبي بشهادة تلك اللقطة على الوجه.
الفيلم كثير الزلات. لا الأم لها دور كاف ولا تبدو مؤهلة لقيادة العائلة (إذا كانت مؤهلة فإن الفيلم لا يظهر ذلك)، ولا الصبي - بتمثيل خشبي غير مدرّب - قادرا على استقطاب عاطفة حياله. نراه يتصرّف بنزق هو قابل للتصديق في مثل سنه، لكنه بلا تبرير. المخرجة تحسن اختيار أسلوب رصد الصبي طوال الفيلم، لكنها لا تمنح عملها خلال ذلك ما يحتاجه من حدّة أو لحظات راحة. هناك مشهد دال على ذلك. راماسان يدخل الغابة ذاتها في أحد المشاهد ليستلقي على كنبة حمراء مهجورة هناك. يغمض عينيه. ثم يفتحهما. ثم يغمضهما ويقطع الفيلم، على نحو روتيني، إلى مشهد آخر. الغاية هنا كانت تصوير الصبي يخلد إلى راحة نفسية وعزلة بعيدا عما يقع حوله ومعه، لكن المخرجة لا تعرف كيف تؤسس وتنفذ للمشهد ليعبّر تماما، وعلى نحو صحيح، عن هذه الرغبة.
وسط كل ذلك، هناك حقيقة أن الموضوع في لبّه هو مواجهة المسلم الفرد لمحيطه في مثل هذه الأيام. راماسان يلبي دعوة الإمام ويدخل المسجد ويبدو صادقا في رغبته. أصلان يقول له أن يصلي في البيت، والمخرجة تستلهم من هذا أن الإسلام دين مسالم. هذه هي النقطة الناجحة شبه الوحيدة في العمل وهي تفعل في سبيل ربط الأضداد (الإسلام وسواه) أكثر مما يفعله رشيد بوشارب، الذي يجعل هذا التضاد موضوعا له.

* أفغانستان
فيلم ثالث في المسابقة يعرض لهذا التناقض الثقافي والديني والاجتماعي ويبرزه هو «بين عالمين»؛ عمل ثانٍ للمخرجة النمساوية فيو ألاداج يأخذنا إلى أفغانستان نفسها. هنا القائد جسبر (رونالد زرفلد) يرأس حامية ألمانية طلب منها الوجود في منطقة مضطربة في أفغانستان دفاعا عن تلك المنطقة ضد هجمات طالبان. الحامية تحتاج إلى مترجم والشاب طارق (محسن أحمدي) يفوز بالوظيفة. جسبر يرتاح إليه بعد حذر موجز في البداية. لكن جسبر مضطر الآن لترك شقيقته الصغيرة وحدها في البيت في المدينة. وهي خائفة لأن هناك عيونا ترصد حركاتها. طارق لا يعرف، في البداية، كيف يتصرّف باستثناء الطلب منها أن لا تترك البيت مطلقا (وهي التلميذة في المدرسة).
من ناحيته، يشعر جسبر (الذي سبق له وأن فقد شقيقه في الحرب ذاتها) أنه يواجه ظروفا غير مواتية ومشكلات نابعة من اختلاف الثقافات؛ حين يساعده مقاتلون أفغان بصد هجوم طالباني على المعسكر، يطلبون منه في المقابل مساعدتهم على صد هجوم آخر على قراهم. لكن القيادة تمنعه من مغادرة المكان، مما يسبب توترا. صحيح أن المخرجة تعفي الفيلم من إبقاء هذا التوتر قائما، لكنها لا تغفل أن السبب يعود إلى تفهم جسبر وصبره كما تفهم المقاتلين الأفغان لظروفه، وإن لم يعكس هذا الفهم قبولهم الكلي.
لاحقا تصل الأمور إلى أزمة كليّة، عندما يعصي جسبر طلب القيادة وينطلق مع مترجمه طارق الذي تعرّضت شقيقته لإصابات خطرة نتيجة محاولة لاغتيالها وشقيقها، تستدعي نقلها إلى المستشفى لعملية مستعجلة وإلا ماتت متأثرة بجراحها. جسبر مدفوع بشعوره الطيب لمترجمه المخلص (وهو يفهم أن مترجمه موضوع في الوسط بين التزامه بالعمل لصالح الجنود الأجانب وبين ضغوط الجانب الأفغاني) والقيادة بعدم اعترافها بمثل هذا الشعور بالواجب الإنساني. خلال غياب جسبر تتعرّض الحامية في جولتها الصباحية إلى إطلاق نار كثيف من عناصر طالبان. تجري معالجة الفتاة ونجاتها من الموت، لكن جسبر يخسر وظيفته، إذ عصى أوامر قيادته.
الفيلم يبحث في محورين؛ الضغط على الألماني الناتج عن تجاوبه مع مسلمي البلاد وحالهم وبعض عاداتهم في مقابل واجباته العسكرية وثقافته الأم، والضغط الذي يعايشه طارق كما تقدّم.
هناك عبارة تلخص ما يدور حوله هذا الفيلم الجيد ترد في مطلع نصفه الثاني، عندما يقول جسبر مفكرا بصوت عال: «أحيانا أتساءل إذا كان وجودنا يحدث أي تغيير فعلا»، بذلك يبدي شكوكه حول جدوى التدخل الغربي في البلاد ويعبّر عن وجهة نظر المخرجة التي ساقت الأحداث بما يعزز هذا التساؤل.

* تاريخ موجز
خلال السنوات العشر الأخيرة أو نحوها عرض مهرجان برلين عددا ملحوظا من الأفلام التي تناولت شخصيات إسلامية تطل على بانوراما عريضة لقضايا ومصائر مختلفة. «في هذا العالم» لمايكل وينتربوتوم (2002) تناول شخصية صبيين أفغانيين حاولا التسلل غير الشرعي إلى الغرب. بعد سنة عرض البريطاني كن لوتش فيلمه عن المسلم الباكستاني الذي يحب البريطانية البيضاء في «قبلة إعجاب». في العام ذاته، قدّم فاتح أكين نظرته إلى الجالية التركية في ألمانيا، وقام برهان قرباني سنة 2010 بتناول الموضوع ذاته في فيلمه الجيد «شهادة».
هذا هو العام الذي سادت فيه أكثر من معالجة للموضوع؛ ففي «عسل» لسميح قبلانوغلو (تركيا) عالج الإيمان ببيئة إسلامية صافية في قرية تركية آسيوية وفي «على الطريق» قدّمت المخرجة البوسنية جاسميلا زبانيتش موضوع التطرّف الإسلامي إذ يضرب بعض جوانب المجتمع البوسني بعد الحرب الأهلية، وهي التي كانت تطرّقت إلى تبعات تلك الحرب على أم وابنتها في «أرض أحلامي» الذي عرضه برلين سنة 2006. ورشيد بوشارب نفسه قدّم سنة 2009 فيلمه الأفضل «نهر لندن» حول الأفريقي المسلم الذي خسر ابنا خلال العملية الإرهابية الشهيرة، وتعرّف على أم ثكلى خسرت ابنتها في الوقت ذاته.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».