حسب الكاتب البريطاني تيم مارشال، نحن أسرى الجغرافيا. كما يعتبر المؤرّخ اللبناني الراحل جواد بولس، أن للجغرافيا تأثيراً كبيراً على مصير الإنسان. فبمجرّد أن يتفاعل معها يخلق الجغرافيا البشريّة، وبالتالي الحضارة. كذلك الأمر، تختلف نتيجة التفاعل بين الإنسان والجغرافيا باختلاف المكان والطوبوغرافيا والمناخ. فعلى سبيل المثال، هناك شعوب الداخل، وهناك شعوب الساحل. وعادة، كانت شعوب الداخل تطمع دائماً بثروات شعوب الساحل المنفتحة على أقاصي الكون.
واستناداً للجغرافيا والتجارب التاريخيّة للشعوب، إن كان في السلم أو الحرب، فإنها كانت دائماً تُحدّد المُسلّمات الجيوسياسيّة لبلد ما؛ وذلك بسبب التجارب المتراكمة. وانطلاقاً من هذه المُسلّمات، تُرسم استراتيجيّة الأمن القوميّ، وحتى أولويّات السياسة الخارجيّة.
تأثير الجغرافيا في المُسلّمات الجيوسياسيّة
اعتبر المفّكرون الاستراتيجيّون الألمان أن الهاجس الألماني كان (ولا يزال) دائماً في خطورة الحرب على جبهتين، شرقيّة وغربيّة، في الوقت نفسه، أي ضدّ روسيا وضدّ فرنسا في الوقت نفسه. فابتكر القائد الفرد فون شليفن مخطّطه قبيل الحرب العالمية الأولى (سُمّي باسمه)، والذي قضي بتثبيت الجبهة الشرقيّة مع روسيا، ومن ثمّ الالتفاف على فرنسا عبر بلجيكا لإسقاطها. وطُبّق المخطط بظروف مختلفة، فكانت كارثة «حرب الخنادق».
وكرّر هتلر الأمر، وذلك عندما وقّع مع ستالين معاهدة عدم الاعتداء (اتفاق مولوتوف - ريبنتروب). وكان هدف هتلر من هذه المعاهدة تحييد الاتحاد السوفياتي مؤقتاً، ريثما ينتهي من فرنسا، فكانت بعدها كارثة الحملة على روسيا (بربروسا). ولكي تهرب ألمانيا من القتال على جبهتين، بسبب قدريّة الجغرافيا، اقترح المفكّر العسكري الألماني كارل هاوسهوفر أن تتحالف ألمانيا مع روسيا ومع اليابان الصاعدة، وبذلك يتشكّل التحالف الأوراسي (كانت الصين وقتها مُستعمرة من الغرب).
تلامس أميركا محيطين مهمّين، هما: الأطلسي، والهادي. ومن هنا تأتي الأهميّة الجيوسياسيّة لهذين المحيطين في العقل الأمني والاستراتيجي الأميركيّ. ومن هنا السعي الأميركي الدائم للسيطرة على البحار والمحيطات. ومن هنا يبرز التحدّي الأكبر لأميركا اليوم، مع سعي الصين إلى امتلاك قوّة بحرية خضراء وزرقاء (Green & Blue Navy)، القوّة البحريّة الخضراء للمحيط البحري المباشر، والقوة البحريّة الزرقاء للولوج إلى كل البحار والمحيطات من دون عائق (من هنا أهميّة تايوان البحريّة).
في العام 1978، وقّعت فيتنام معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفياتيّ. وبعدها مباشرة هاجمت فيتنام كمبوديا. واعتبرت الصين وقتها أن الاتحاد السوفياتي يريد أن يلعب لعبة الهيمنة. ولتطويع الصين، وقّع السوفيات المعاهدة مع فيتنام كي يتمّ احتواء الصين.
خاف الرئيس الصيني وقتها، دينغ تشاو بينغ، من الحرب على جبهتين: الجبهة السوفياتيّة والجبهة الفيتناميّة، فقرّر الهجوم على فيتنام.
أهداف الرئيس الصيني
أراد الرئيس الصيني اختبار الدبلوماسيّة والاستطلاع بالنار. كما أراد اختبار مصداقيّة الاتحاد السوفياتي تجاه تحالفاته، وما إذا كان السوفيات جادين في مساعدة فيتنام، الحليف الشيوعيّ، ضد الصين. من هنا كانت الحرب سريعة جدّاً (تقريباً شهر).
لم يتدخّل السوفيات إلا رمزياً مع فيتنام. عندها رفض الرئيس الصيني تجديد معاهدة التحالف والصداقة مع السوفيات؛ كونه عبر هذا السلوك العسكري - الدبلوماسيّ، استطاع سبر نوايا وقدرات الاتحاد السوفياتيّ.
لكن قبل العمليّة العسكريّة المحدودة على فيتنام، انفتح الرئيس الصيني أكثر على الولايات المتحدة الأميركيّة عبر مستشار الأمن القومي آنذاك بريجينسكي.
هل يُكرّر التاريخ نفسه اليوم؟
يقول الكاتب الأميركي مارك توين «التاريخ قد لا يعيد نفسه، ولكنه يتشابه كثيراً». وفعلاً، ها هو التاريخ اليوم يتشابه مع نفسه، وبنفس اللاعبين، لكن بديناميكيّة مختلفة. لكن كيف؟
قبل الحرب على أوكرانيا، زار الرئيس بوتين الصين لحضور افتتاح الألعاب الأولمبيّة الشتويّة في الصين. وفي هذا اللقاء أعلن التحالف «دون حدود» مع الرئيس تشي جينبينغ.
وزارت مؤخراً رئيسة الأغلبيّة في مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، تايوان، فجنّ جنون الصين.
قرّر، عندها الرئيس تشي الاستطلاع الدبلوماسيّ - العسكري بالنار حول جزيرة تايوان لتحقيق ما يليّ:
• بعث رسالة لمن يعنيهم الأمر أنه جدّي في استرداد تايوان وضمها إلى الصين
• أراد اختبار ردّ فعل العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركيّة، عسكريّاً.
• أراد في الوقت نفسه اختبار خطط الحرب التي كان يُعدّها لأي سيناريو عسكري مع تايوان. فالاختبار عملي وفعليّ، وليس لعبة حرب (War Game).
• يخاف الرئيس الصيني التطويق وإمكانيّة الحرب على جبهتين: الجبهة الأوراسيّة، بالإضافة إلى الجبهة في شرق آسيا.
• لكن بدلاً عن انفتاح الرئيس تشي على أميركا كما فعل الرئيس دينغ تشاو بينغ في العالم 1979، تبدلّت الديناميكية، وانفتح الرئيس تشي على روسيا للتوازن مع أميركا وتأمين العمق عبر روسيا في مجالات عدّة، أهمّها: العمق الجغرافي الاستراتيجيّ، الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وحتى تأمين الأسواق للبضائع الصينيّة.
هكذا هي الدبلوماسيّة، تبحث عن المصالح، وذلك بغضّ النظر عن الأثمان، خصوصاً البشريّة.
الاستطلاع الدبلوماسي ـ الجيوسياسي بالنار
الاستطلاع الدبلوماسي ـ الجيوسياسي بالنار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة