أحرق المجلس العسكري في مالي الذي يدير البلاد منذ أول انقلاب عسكري في شهر أغسطس (آب) 2020 جميع جسور التواصل بين باماكو وباريس. وشكّلت رسالة الشكوى التي رفعها وزير الخارجية عبد الله ديوب، إلى المندوب الصيني لدى مجلس الأمن الدولي الذي تتولى بلاده رئاسته للشهر الجاري، آخر مسمار دُقَّ في نعش العلاقة بين البلدين بعد تسعة أعوام متواصلة من الحضور العسكري الفرنسي في مالي. وعلقت أوساط الإليزيه على رسالة مالي، والاتهامات التي تضمنتها ومنها التجسس ومساعدة الإرهابيين وانتهاك سيادة البلاد بوصفها «مثيرة للسخرية» وأنها «ترمي اتهامات لا أساس لها من الصحة».
من جانبها، ردّت السفارة الفرنسية في باماكو، حيث نفت «قطعياً» أن تكون قوة «برخان» قد ساعدت المجموعات الإرهابية لا مباشرة ولا بشكل غير مباشر. وفي تصريح لإذاعة فرنسا الدولية، أوضح الجنرال برونو باراتز، قائد قوة «برخان»، أن اتهامات مالي «فاجأته» وأنها «مهينة بعض الشيء لذكرى زملائنا الـ59 الذين سقطوا من أجل مالي ولجميع الماليين الذين قاتلوا إلى جانبنا».
وقالت «الخارجية» الفرنسة أمس، في إطار مؤتمرها الصحافي اليومي، إن فرنسا «ستواصل من غير كَلَل الحرب على الإرهاب في الساحل وغرب أفريقيا لدعم الجهود السياسية والمدنية والعسكرية لمجموعة دول غرب أفريقيا وبلدان المنطقة وذلك بالتعاون مع شركائنا الأوروبيين والأميركيين». كذلك نددت «الخارجية» بـ«حملات التضليل الإعلامية»، في إشارة إلى باماكو التي غرضها «صرف الانتباه عن تدهور الأحوال الأمنية والإنسانية والتي يعد المدنيون أولى ضحاياها». ولم يُعرف حتى أمس ما إذا كان مجلس الأمن سيعقد جلسة استجابةً لطلب باماكو التي لا تستطيع مباشرةً تقديم طلب رسمي لذلك بل يفترض أن يمر عبر دولة عضو. وفي أي حال، فإن باريس تتمتع بحق النقض «فيتو» وقادرة بالتالي على إجهاض أي بيان أو قرار يخصها.
بدايةً كان غرض التدخل العسكري الفرنسي في 2013 بناءً على طلب رسمي من سلطاتها منع سقوط مالي في أيدي التنظيمات الجهادية. ولاحقاً، تحول إلى الاستمرار في مكافحة هذه التنظيمات ثم تمكين باماكو من إعادة السيطرة على أراضيها كافة. ورغم التساؤلات في باريس حول مستقبل عملية «برخان» التي كانت تكلف الدولة الفرنسية نحو مليار يورو في العام وتعبئة 5500 جندي منتشرين ميدانياً، إضافةً إلى مالي، في النيجر وبوركينا فاسو وتشاد، وإلى الدعم الجوي واللوجيستي، كان مقدراً لهذه العملية الأوسع لفرنسا في أفريقيا، أن تتواصل.
بيد أن نقطة التحول جاءت مع الانقلاب العسكري الأول ثم الثاني -في مايو (أيار) من العام 2021- الذي أطاح بالسلطات الشرعية. ولأن القادة العسكريين وعلى رأسهم الكولونيل غايتا، وعدوا، بضغط من دول مجموعة غرب أفريقيا وفرنسا والأسرة الدولية بشكل عام، بانتخابات تشريعية ورئاسية سريعة تعيد السلطة إلى المدنيين، كان ممكناً أن تغضّ فرنسا النظر وتنتظر التحولات الموعودة. إلا أن المجلس العسكري حنث بوعوده. والأسوأ من ذلك أنه أخذ بالتواصل مع ميليشيا «فاغنر» الروسية سيئة السمعة في أفريقيا خصوصاً في جمهورية وسط أفريقيا.
وكانت نتيجة ذلك بداية الافتراق بين فرنسا ومستعمرتها السابقة. وأخذ التراشق بالاتهامات يحل محل التواصل السياسي والدبلوماسي. وبالتوازي، ساءت العلاقة بين باماكو وقوة الكوماندوس الأوروبية «تاكوبا» التي كان باريس وراء إطلاقها من أجل انخراط شركاء فرنسا الأوروبيين في الحرب على الإرهاب من خلال مواكبة الجيش المالي في عملياته ضد التنظيمات الإرهابية. ولأن الأمور تدهورت إلى حد بعيد، فقد عمد المجلس العسكري بداية شهر مايو الماضي إلى نقض الاتفاقات الدفاعية الثلاث التي تربط باريس وباماكو وإحداها تتناول قوة «تاكوبا». وكانت النتيجة أن المجلس العسكري الحاكم أخذ يرى أن القوة الفرنسية والأوروبية افتقدت أي أساس شرعي يسمح لها بالعمل والبقاء على الأراضي المالية. وسبق ذلك قرار للرئيس إيمانويل ماكرون أعطى فيه قيادة أركان القوات الفرنسية مهلة ستة أشهر للخروج من مالي فيما «تاكوبا» كانت الأسرع في الرحيل.
ورغم الرحيل عن مالي فإن باريس لن تتخلى عن محاربة الإرهاب ليس فقط في دول منطقة الساحل التي تضم، إلى جانب مالي، موريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد بل أيضاً في دول خليج غينيا والأخرى المطلة على بحيرة تشاد.
وبشكل عام، فإن انخراط فرنسا يشمل منطقة غرب أفريقيا. وحرص ماكرون، خلال جولته في ثلاثة بلدان أفريقية مطلة على خليج غينيا (بنين والكاميرون وغينيا بيساو) نهاية شهر يوليو (تموز) الماضي على أن يكرر التزام بلاده بمواصلة محاربة التنظيمات الجهادية وأن يُطمئن قادتها لأن باريس لن تتخلى عن أفريقيا وأنها جاهزة للاستجابة لكل الطلبات التي تتلقاها من هذه الدول، ووفق أشكال المساعدة التي ترتئيها. وإذ حرص ماكرون على الإشارة إلى أن بلاده «لن تكرر الأخطاء المرتكبة» في مالي، فقد لمح إلى أن القوة الفرنسية ستكون أقل عدداً، وأقل تعرضاً بمعنى أنها لن تكون في المقدمة حتى لا تثير المشاعر المعادية لفرنسا، والتي تعمل جهات منافسة على إثارتها. وترى باريس أن روسيا تعمل في هذا الاتجاه وتستخدم جميع أنواع الحملات الشعبوية ووسائل التواصل الاجتماعي المتاحة لبلوغ هذا الهدف. وتجدر الإشارة إلى أنه في حالة مالي، فإن موسكو تلعب على حبل التواصل الرسمي مع سلطات باماكو (اتصال هاتفي بين الكولونيل غايتا والرئيس بوتين، وزيارة وزير الخارجية ديوب لموسكو في مايو الماضي، ولقاؤه الوزير لافروف الذي قام مؤخراً بجولة واسعة في أفريقيا).
وجاء إعلان الجيش الفرنسي أول من أمس، عن إبقاء ثلاثة آلاف عسكري في منطقة الساحل ترجمة للوعود الرئاسية واستمراراً لسياسة باريس في محاربة التنظيمات الإرهابية، وأهمها اثنان: «القاعدة» في بلاد المغرب و«داعش» في بلدان الصحراء. وأعلن المتحدّث باسم رئاسة الأركان الفرنسية العقيد بيار غوديير، أنه «في إطار إعادة تنظيم (برخان) خارج مالي، سيبقى نحو ثلاثة آلاف جندي في منطقة الساحل، وسيؤدّون مهامهم من قواعد موجودة في النيجر وتشاد، إلى جانب شركائنا الأفارقة».
ووصف المسؤول العسكري هذه الشراكة بأنها «شراكة عسكرية قتالية وشراكة عسكرية تشغيلية وعمليات لوجيستية»، مؤكداً أنّ «هذا الأمر يندرج في إطار نهج جديد للشراكة مع الدول الأفريقية التي طلبت ذلك». وذكر مثالاً على ذلك النيجر حيث يسيّر الجيشان الفرنسي والنيجري «دوريات مشتركة ويقومان بتدريبات مشتركة». بيد أن كلام العقيد بيار غوديير لا يخرج عن نطاق منطقة الساحل فيما الطموح الفرنسي أوسع من ذلك بكثير. وتجدر الإشارة إلى أن جولة ماكرون الأخيرة كشفت عن رغبة بنين والكاميرون في تعزيز العلاقة العسكرية مع باريس. وتجدر الإشارة إلى أن لفرنسا قواعد عسكرية إضافية في الغابون وساحل العاج والسنغال وجيبوتي إضافةً إلى القواعد التي ذكرها العقيد غوديير في النيجر وتشاد. وثمة قاعدة لا يجري الحديث عنها كثيراً ومقرها بوركينا فاسو. و
السبب في ذلك أنها تستضيف قوة كوماندوس فرنسية. ويمنع القانون الفرنسي تناول أنشطتها ولذا فإنها تبقى خارج الرادار الإعلامي. وحسب رئاسة الأركان الفرنسية، فإنّ باريس لديها حالياً بالإضافة إلى قوة «برخان»، 900 جندي منتشرين في ساحل العاج و350 في السنغال و400 في الغابون. وكانت قوة «برخان» تضم ما يصل إلى 5500 عسكري في ذروة انتشارها في الساحل.
حقيقة الأمر، وفق مصادر سياسية في باريس، أن اهتمام فرنسا بمنع التنظيمات الإرهابية من التجذر في منطقة الساحل بدايةً ونزولاً إلى دول خليج غينيا حيث بدأ بالقيام بعدد من العمليات في شمالي هذه البلدان، مردُّه بدايةً إلى أنها تريد الدفاع عن مصالحها حيث لها مصالح سياسية واقتصادية وتجارية وجيوسياسية باعتبار أنها تقليدياً منطقة نفوذ فرنسي. يضاف إلى ذلك أن فرنسا التي عانت الكثير من العمليات الإرهابية التي ضربت التراب الفرنسي خصوصاً منذ عام 2015 تريد تجنب هذه التجربة مرة أخرى.
ويقول مسؤولوها إن محاربة الإرهاب في أفريقيا يعني حماية التراب الفرنسي منه. وثالث الأمور أن غياب الاستقرار وعجز الدول عن توفير الخدمات الضرورية إضافة إلى العنف وانعدام الأمن، كلها عناصر تدفع السكان إلى الهجرة، أي إلى محاولة الوصول إلى الفضاء الأوروبي. وثمة وعي بأن استقواء تيار الهجرات غير الشرعية ستكون له انعكاسات سياسية واجتماعية في أوروبا وسيوفر دفعة لليمين المتطرف. وتجدر الإشارة إلى أن الانتخابات الرئاسية في العامين 2017 و2022 في فرنسا شهدت وصول مرشحة اليمين المتطرف مارين لو بن إلى الجولة الثانية وأن حزبها حصل على 89 مقعداً في البرلمان المنتخب في يونيو (حزيران) ما يشكّل سابقة في تاريخ البلاد. يبقى أن طموحات فرنسا واسعة ولا تتلاءم مع القوة «المتواضعة» التي تريد الإبقاء عليها في الساحل وأبعد.
ورغم تأكيد سلطاتها أنها «تعلمت الدرس» مما حصل في مالي، فإن الكثيرين في باريس يرون أنه سيكون عليها أن تضاعف عديد قواتها في المنطقة لتتواءم مع أهدافها.
باريس عازمة على البقاء عسكرياً في الساحل ولن تتخلى عن محاربة الإرهاب
«الخارجية» الفرنسية تندد بـ«التضليل الإعلامي» للمجلس العسكري في مالي
باريس عازمة على البقاء عسكرياً في الساحل ولن تتخلى عن محاربة الإرهاب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة