الهوية، أياً يكن نوعها، هي مُنشأٌ ومبنى حكائي. تنسج من خيوط حكائية، وتتغير تبعاً لتغير الخيوط والنسّاج أو النسّاجين والظروف التي يحدث فيها النسج. لا وجود لهوية خارج الحكاية أو دونها سواء أكانت هوية إنسان، أو مكان، أو أمة أو شعب من الشعوب. فعندما يُطلب من فرد أن يُعَرِّف بنفسه، أن يقول من هو، فإن ما يقول أو يكتب عن نفسه يأخذ شكلاً سردياً؛ ويأتي حكاية، قصة، موقعة منها في المركز، لأنه «بطل» حكايته بلا منازع، والشخصية المحورية فيها. وهويات الأمم تنسج وتحاك من مروياتها المتوارثة والمتغيرة، ومن تصوراتها عن نفسها، وعن أهمية موقعها ومكانتها في التاريخ. تتغير الحكايات بتغير الأزمنة والأحوال والظروف، بمحتوياتها ومضامينها التي يختلط فيها الحقيقة والخيال، والحقيقي والزائف، والمستعار أو المسروق في غفلة من حكايات الآخرين، فتتغير الهويات نتيجة لذلك؛ إذ لا توجد هوية في حالة ثبات دائم ومستمر على امتداد الأزمنة؛ كما لا توجد في حالة نقاء خالص.
أعتقد أن هذا ينطبق إلى حد ما على هوية السينما في أي قطر من الأقطار بقدر وبنفس درجة انطباقه على الهويات الأخرى الفردية والجمعية، والقطرية والقومية. لذا أرى أن ما نسميه السينما السعودية أو المحلية، لا هوية لها، والحديث عن هويتها سابق لأوانه لسبب أنها لم تقدم حتى الآن، وهذا شيء طبيعي ولا يثير الاستغراب إطلاقاً، ما يمكن أن يشكل مادة لحكاية أو حكايات عنها، أو موضوعاً لدراسات تتقصى وتستجلي ملامحها وخصائصها الفنية والجمالية ومضامينها الخاصة، التي تؤسس تميزها، هويتها، فالهوية في المقام الأول والأخير هي ما يميز شخصاً عن آخر، وأمة عن أخرى، وما يصنع اختلاف سينما في بلد ما عن نظيرتها في بلد آخر. الاختلاف أس الهوية وجوهرها، ومن الصعوبة بمكان القول إن السينما المحلية أنتجت وقدمت ما يمكن أن يكون أساساً لاختلافها وتميزها. عندما يذكر متحدثٌ أو كاتبٌ كلاماً مثل التالي عن أفلام معينة: تحكي قصصاً تقع أحداثها في الزمن الحاضر وليس في الماضي سواء البعيد أم القريب، تقدم شخصيات من الطبقة الدنيا، تركز على العمال والفقراء، وعلى الإنسان العادي، تنبع أزمات وصراعات ومشاكل الشخصيات المحورية «الأبطال» فيها من اضطرابات نفسية داخلية وليس من الخارج، انفصلت عن أعراف وممارسات السينما السائدة التي تستهدف إلهاء الجماهير، تُصورُ مشاهدها في المواقع، يدرك المستمع أو القارئ الذي لديه أدني مقدارٍ من المعرفة عن السينما أن المتحدث أو الكاتب يشير إلى سينما الواقعية الإيطالية الجديدة.
أوردت ذلك على سبيل المثال فليس الهدف المقارنة، أو التقليل من أهمية ما أُنجزَ محلياً على الصعيد السينمائي، أو لمطالبة السينمائيات والسينمائيين السعوديين بتبني مبادئ سينما الواقعية الإيطالية الجديدة واستنساخ تجارب مخرجيها. أوردته لتوضيح فكرة أنه لا يمكن أن «نشخص» ونسرد خصائص السينما المحلية. إن المرء لا يستطيع أن يضع إصبعه على ما يميز السينما المحلية عن غيرها من الناحيتين الفنية والجمالية، ما يكون نواة وأساساً لِتَشَكُلِ هوية لها.
إن قوائم الفلموغرافيا لا تنشئ هوية أيضاً، فما هي إلاّ فهارس مرتبة زمنياً للأفلام المُنْتَجَّة خلال فترات معينة، تكمن أهميتها في أنها تقود وتدل إلى ما قد يكون موضوعاً للمشاهدة والدراسة والتحليل واستخلاص الملامح الفنية والجمالية والأعراف والمضامين التي تمثل بمجملها مكونات الهوية للسينما المحلية. وبطاقة الأحوال لا تؤسس، هي الأخرى، هوية؛ إنها مجرد دال على انتماء صانع أو صُنّاع الأفلام إلى بلدٍ معين أو بلدان معينة. اللافت في الأمر أن بطاقة الأحوال أو الجنسية قائمة على فكرة التجانس والتشابه وليس على فكرة الاختلاف والتميز عن الآخرين كما هو الحال مع الهوية. فبطاقة الأحوال تُمْنَحُ في حال انطباق شروط استحقاقها على طالبها، وهي ذات الشروط التي تُطبقُ على الآخرين، بخلاف الهوية القائمة على الاختلاف والتميز عن الآخرين، الدالة على من هو الشخص أو الشيء. وهي المقصودة هنا.
وحتى لو سلمنا جدلاً أن بطاقة الأحوال هي أحد محددات الهوية ودال على الانتماء والارتباط بوطن ما، فإنها لا تفعل ذلك دائماً، ولا يسري مفعولها في كل الأحوال والأوقات، إذ ليس من الحتمي والمؤكد أن تقيم دائماً صلة ورابطاً بين الفيلم ووطن المُخْرِجِ أو المُخْرِجَة. فعلى سبيل المثال، فيلما المخرجة هيفاء المنصور
«Mary Shelley» و«Nappily Ever After» لا يُعَدّان فيلمين سعوديين. إنهما فيلمان أميركيان، لم تكن المنصور في أحسن أحوالها عند إخراجهما من وجهة نظري، كما أنهما لا يشكلان إضافة عظيمة إلى رصيدها الإخراجي أو إلى السينما في الولايات الأميركية.
إن فيلمي المنصور أميركيان مثل أفلام من سبقها من المخرجين الذي هاجروا إلى الولايات المتحدة واشتغلوا في هوليوود على سبيل المثال المخرج النمساوي فريتز لانغ، الذي حصل على الجنسية الأميركية، وكذلك مخرج أفلام التشويق الشهير ألفريد هيتشكوك. إن أفلام الأخيرين أميركية، ولا تُنسبُ بأثر رجعي إلى وطنيهما الأصليين.
من السابق لأوانه الحديث عن هوية السينما السعودية. كانت تلك الفكرة التي دارت في ذهني خلال الندوة التي ناقش المشاركون فيها هذا الموضوع ضمن برنامج الندوات في الدورة الثامنة من مهرجان أفلام السعودية. الندوة سابقة لأوانها من وجهة نظري، لأنه لم يتحقق لدينا تراكم سينمائي نوعي وعلى مستوى الشكل والمضمون والتنوع الأجناسي؛ ذلك التراكم الذي يخرج الدارس والباحث من دراسته وتفحصه بمجموعة من السمات والخصائص الفنية والجمالية والتنوع المضموني التي تشكل لَبنات هويته.
الهوية في نظري تنبع من الداخل، وتستنبط مقوماتها وعناصرها من الأفلام نفسها، من القواسم المشتركة والمتكرر والمهيمن فيها لتتشكل بالتالي، أي الهوية، حكاية في أحاديث الناس وكتابات النقاد والباحثين. لكي يتحقق هذا لا بد من التحول والانتقال من صناعة أفلام إلى صناعة سينما، إلى إنتاج متواصل ومستمر يحقق تراكماً كمياً ونوعياً. فما نشهده الآن هو صناعة أفلام من هنا وهناك، الغالبية العظمى منها أفلام قصيرة يُصنع بعضها قبل مواعيد المهرجانات بأسابيع قليلة. لا أقول هذا تقليلاً من أهمية تلك الأفلام أو تعبيراً عن موقف ازدرائي تجاهها، إنما لوصف واقع الحال.
- ناقد وأكاديمي سعودي
السينما السعودية... هل تملك هوية؟
ستظل غائبة لزمن غير معلوم
السينما السعودية... هل تملك هوية؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة