أوروبا عجوز وعيوبها كثيرة لكنها «ليست بالبؤس والتراجيديا التي يمكن تصورها»

لوك فيري الباحث في «ثورة الحب» عن علامات هادية إلى المعنى

لوك فيري
لوك فيري
TT

أوروبا عجوز وعيوبها كثيرة لكنها «ليست بالبؤس والتراجيديا التي يمكن تصورها»

لوك فيري
لوك فيري

هب أن لدينا شابة قررت مغادرة قريتها نحو مدينة بعيدة، وذلك قصد العمل في مصنع لإنتاج علب السردين. هذه الفتاة، ستستفيد من حرية مضاعفة: الأولى، أنها ستتملص من قبضة الجماعة، أي حرية التستر عن أنظار رقابة من يعرفها سواء العائلة أو رجل الدين. أما الحرية الثانية، فتتمثل في الاستقلال المالي جراء ما ستحصل عليه من أجر مهما كان زهيدا.
إن هذا المثال الذي بدأت به هذا المقال، قد طرحه الفيلسوف المعاصر لوك فيري، صاحب كتاب سيكون عمدتنا فيما سنكتب وهو بعنوان: «ثورة الحب». وهو يقصد من وراء ذلك، أن المجتمع الرأسمالي الحديث قد اخترع لنا سوق الشغل بنظام الأجرة. وساهم هذا في اقتلاع الأفراد من قراهم والخروج من وصاية الجماعة نحو الفردانية والاستقلالية الكاملة.
وبالعودة إلى فتاتنا الشابة، فإنها ستكون قادرة - ولو جزئيا - على تحديد مصيرها بيدها. ومع الوقت، ستكون قادرة على الانعتاق من قبضة الالتزامات الجماعية، وبالتأكيد لن تقبل بما يسمى «زواج العقل» أو الزواج الذي ترتبه العائلة، بل ستختار الزواج بشاب تميل إليه، أي زواج الحب.
إذن بحسب لوك فيري، كانت الرأسمالية الحديثة سببا في انطلاق ثورة هادئة يسميها «ثورة الحب»، فما هي ملامح هذه الثورة؟
إن كتاب «ثورة الحب»، يأتي في سياق الأمل في العثور على علامات هادية إلى المعنى. فالإحساس العام بحسب لوك فيري، يتجه نحو أن البشرية في ظل العولمة تسير بشكل أعمى، وكأن مصير الإنسان ينفلت من يده، خصوصا وأن السير الكبرى أو المثل التقليدية، سواء الدينية أو الوطنية أو الثورية، قد تعرضت لعملية تقويض وهدم جعلها تفقد بريقها، ومن ثم قوتها وإقناعها - على الأقل في أرووبا - وهو ما يؤكد عليه لوك فيري بشدة. ولشرح ذلك، يقسم لوك فيري العولمة إلى مرحلتين سنعمل على إيضاحهما قبل الذهاب إلى خلاص الحب الذي يراه:

* المرحلة الأولى
وهي تلك المرتبطة بمشروع الأنوار، أي المرتبطة بالعقل العلمي وآيديولوجيا التقدم التي بدأت ملامحها في القرن السابع عشر، مع لحظة الفيلسوف ديكارت الذي نشر فكرة العقل الموضوعي عالميا، بعبارته المشهورة: «العقل هو أعدل قسمة بين الناس». كما ارتبطت هذه العولمة الأولى، بآيديولوجيا التقدم والتوق إلى الحرية وإلى رفاهية البشرية، ومن ثم السعادة. لكن مشروع الأنوار هذا، وصل إلى عالم تقني يتحرك بطريقة عمياء ودون غاية إنسانية واضحة، اللهم إلا التجديد الدائم والعمل على النمو الاقتصادي. فتحول بذلك العقل الموضوعي الديكارتي إلى عقل أداتي. وهو ما تنبهت له مدرسة فرانكفورت مع هوركايمر وأدورنو.. وهو ما سيدخل البشرية في المرحلة الثانية من العولمة.

* المرحلة الثانية
وهي مرحلة نشطت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث دخلت البشرية في منطق حمى المنافسة المعممة وبتزاحم شديد وفي كل الاتجاهات: تنافس بين المؤسسات، بين البلدان، بين الثقافات، بين الجامعات والمختبرات. الأمر الذي جعل حركة التاريخ لا تتجه نحو صناعة عالم أفضل ينشد الحرية والسعادة، كما حلم بذلك الأنواريون وبتفاؤل شديد، بل أصبح المحرك هو منطق البقاء والتكيف والعمل على التجديد الدائم كي لا يندثر الفاعلون. فالأمر أصبح أشبه بما يحصل في الانتقاء الطبيعي لدى داروين. فالذي لا يتكيف محكوم عليه بالزوال. فالمؤسسات في العولمة فائقة التقنية، لا هم لها إلا القدرة على المنافسة وخلق أكبر مردودية وإنتاجية ممكنة. والأمر ليس قصديا، بل هو قسري مدفوع إليه الإنسان دفعا وبصيغة المجهول، ولا أحد يستطيع الإفلات منه. وكأن هناك شيئا أقوى من الجميع، ويشتغل في خلسة من الكل، إلى درجة يصبح معها إنسان هذا العصر في لهاث وراء السراب، فلماذا سأزيد من الإنتاجية ولماذا أتسارع للتجديد؟ وهو ما وضحه الفيلسوف هايدغر حينما وضح أن واقع الحداثة بما هي عالم من التقنية، يتجه نحو طغيان الوسائل على حساب الغايات.
إن صاحب المؤسسة في حاضرنا، ومن أجل البقاء يضطر إلى التجديد والعمل دون راحة، من أجل تحسين مردوديته بلا انقطاع. فلا مجال إلى أن يخسر السباق مع منافسيه. لكن وللأسف دون معرفة واضحة لماذا، ولا من أجل ماذا، إلى درجة يصبح معها الإنسان، بحسب الفيلسوف السابق نفسه هايدغر، مجرد «موظف التقنية». فالتجديد من أجل التجديد في الرأسمالية الحالية، أسس لمجتمع اللذة والاستهلاك الذي يتحرك بمنطق التسلية وليس البناء، منطق الوسيلة لا الغاية، منطق الحركة الدائبة دون بوصلة محددة المعالم. وهو الأمر الذي أقحم البشرية في متاهات اللامعنى، حيث تشكل لدينا أفراد منعزلون وغارقون في خيبات الأمل. وما سيزيد من تكريس هذا الوضع الدرامي، هو انتشار تلك الموجة العارمة التي صاحبت الرأسمالية والمتجسدة في عمليات التفكيك والهدم القاسية لمنظومة القيم القديمة، التي كانت تمتح من الدين أو الوطن أو الأفكار الثورية قوتها وصلاحيتها، مما يجعل الإنسانية في مأزق يتوجب إيجاد مخرج منه.

* نحو إنسانية جديدة
يقدم لوك فيري، نظرة جد متفائلة للحضارة الغربية. فهو يعلن القناعة التالية: إن أوروبا العجوز وعلى الرغم من كل عيوبها، هي ليست بالبؤس والتراجيديا التي يمكن تصورها. فهو جد متفائل، ويرى أن المعنى موجود، وهو الآن يتشكل ويتمثل في تنامي قوة المشاعر والحب الذي يؤكد أنه سيصبح الملاذ النهائي على الأقل في أوروبا، الأمر الذي ينبئ بميلاد نمط جديد من المقدس الذي أصبح يؤثر في الإنسانية كثورة هادئة لكن فعالة. فماذا يقصد لوك فيري بالمقدس؟
إنه لا يقصد ذلك المعنى الديني، بل يقصد به كل ما يمكن أن نضحي من أجله وأن نهب روحنا لصالحه. وإذا كانت دواعي التضحية التي كان الإنسان مستعدا للموت من أجلها ثلاثة، وهي: الموت من أجل الله، أو من أجل الوطن، أو من أجل الأفكار الثورية الكبرى، فإن هذا الأمر لم يعد مقنعا في أوروبا الحاضر. يقول لوك فيري: «فمن من شباب هذا الجيل الأوروبي مستعد لأن يموت من أجل الله، أو من أجل الوطن، أو من أجل الثورة؟ تقريبا لا أحد». يشير لوك فيري أنه نعم، هناك حقا من لا يزال يموت من أجل الله، وهناك كثير من المتعصبين لوطنيتهم، وأيضا ما زال كثير من الثوريين.. لكن الديمقراطيات العريقة قامت بإعادة النظر في كل القناعات القديمة التي أضفت المعنى على وجود الإنسان. فالمقدس لم يعد يتجسد في فكرة الكوني المتناغم اليوناني، ولا في الإلهي الديني، ولا في الوطنية، ولا في الأفكار الثورية، بل أصبح يتمثل في الحب المرتبط أساسا بظهور الأسرة الحديثة. إذ أصبح من الممكن التضحية بوجودنا من أجل كائنات بشرية بلحم ودم، وبالأساس أطفالنا. يقول لوك فيري: في القرون الوسطى الأوروبية كان موت طفل أقل خطورة من موت خنزير أو حصان.
إن مسألة الحب وإضفاءه المعنى على الحياة لأمر معروف منذ القديم. لكن بالنسبة للوك فيري، فهو يرى أنه ولأول مرة في التاريخ، سيصبح مبدأ الحب رؤية جديدة للعالم. إنه الملجأ الحقيقي للمعنى الذي سينظم من جديد القيم التي تهالكت في الحضارة الأوروبية الحديثة. إنها ثورة كوبيرنيكية صامتة وشديدة العمق، الأمر الذي يدعو إلى إقامة سياسة جديدة يسميها لوك فيري: سياسة في الحب، وهي النظرية المقترحة من طرفه للتفكير في الأجيال الصاعدة.

* نحو سياسة جديدة
ينطلق لوك فيري من علماء البيئة، فهم الأوائل الذين طرحوا، جراء الهدر البيئي، سؤال: أي عالم سنتركه للأجيال الصاعدة؟ وقياسا على ذلك، سيقترح لوك فيري تعميم السؤال على كل أنواع السياسات، وذلك على الشكل التالي: أي عالم سنتركه لمن هم الأحب إلينا، أي أطفالنا، وبوجه أعم شبابنا؟ أي الإنسانية التي ستأتي بعدنا؟ تلك هي المسألة السياسية الجديدة. ولكي يعطي لمسة فلسفية على مقترحه هذا، قام لوك فيري بصياغة قانون الحب كأمر قطعي على الشاكلة الكانطية، وهو كالآتي: «افعل بحيث يمكن لفعلك أن يطبق على من هم الأحب إليك». وإذا ما طبقت هذه القاعدة على القرارات السياسية فإن الاختيارات بالطبع ستكون أكثر إيجابية.
بالتأكيد في هذا الاقتراح نوع من المثالية. لكن لوك فيري يقول، إنها ستكون، على الأقل، مثالية أقل دموية من كل المثاليات التي اكتسحت أوروبا القرن العشرين. فإذا كان يوصف المتفائل بأنه هو ذلك السعيد الغبي، فإن لوك فيري يقول بأن المتشائم هو ذلك التعيس الغبي.



صائد الحاسوب

صائد الحاسوب
TT

صائد الحاسوب

صائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.