تعيش الديمقراطيات الغربية منذ سنوات تحت تأثير صعود القوى والأحزاب الشعبوية والقومية التي أعادت خلط الأوراق في المشهد السياسي وفرضت على النقاش العام مجموعة من الموضوعات؛ التي اضطرت الأحزاب التقليدية إلى تبنيها، غالباً على حساب شعبيتها وتماسكها الداخلي.
وبلغ هذا الصعود ذروته مع أواسط العقد الماضي عندما قررت غالبية البريطانيين تأييد الـ«بريكست» ومغادرة الاتحاد الأوروبي، بعد أن كان دونالد ترمب دخل إلى البيت الأبيض، وفيما كان اليمين المتطرف يصل إلى السلطة في النمسا وإيطاليا ضمن ائتلافات حاكمة له الموقع الوازن فيها، وقبل أن يصعد جاير بولسونارو إلى الرئاسة البرازيلية في عام 2018، لكن اليوم أصبحت كل هذه القوى خارج السلطة، أو تواجه صعوبات كبيرة للبقاء في الحكم.
في بريطانيا، بدأ العد العكسي بالنسبة إلى بوريس جونسون الذي قاد حملة «بريكست» قبل أن يدفع حزب المحافظين الموصوف ببراغماتيته إلى أزمة يصعب التكهن بالخسائر التي ستنجم عن معالجتها. فيما يضيق طوق المحاسبة البرلمانية حول دونالد ترمب ومداهمات «مكتب التحقيقات الفيدرالي» لدوره في التحريض على الهجوم الذي شنه أنصاره على مبنى «الكابيتول».
وفي البرازيل؛ تشير جميع الاستطلاعات إلى تراجع كبير في شعبية بولسونارو على أبواب الانتخابات الرئاسية المقررة في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فيما تفيد آخر البيانات بارتفاع معدلات الفقر والجوع إلى المستويات التي كانت عليها منذ 30 عاماً.
في غضون ذلك، تراجعت شعبية الإيطالي ماتيو سالفيني وحزبه «الرابطة» بنسبة نحو النصف، بينما أصبح حزب «الحرية» النمساوي في المعارضة التي انضم إليها أيضاً رئيس الوزراء السلوفيني السابق الشعبوي جانيز جانسا الذي خسر مؤخراً الانتخابات التشريعية.
في المقابل، لا يزال اليمين الشعبوي يتمتع بحضور قوي في المجر وبولندا، حيث رسخ وجوده في السلطة مؤخراً. وفي إيطاليا، يستعد حزب الفاشيين الجدد «إخوان إيطاليا» للوصول إلى الحكم أواخر الشهر المقبل بعد الانتخابات العامة الذي ترجحه كل الاستطلاعات للفوز فيها.
وإذا كانت الصعوبات التي تواجه العديد من رموز القوى الشعبوية والقومية لا تعني بالضرورة أفول هذه الآيديولوجيا السياسية؛ فإن انحسار الموجة في مواقع استراتيجية يحمل دلالات مشتركة على أسباب تراجعها، مثل تكلفة ممارسة السلطة، والمعضلات المعقدة التي تفرضها العولمة بالنسبة للخطاب القومي، والحدود الطبيعية لتمدد هذه القوى في الظروف الاقتصادية المعاكسة.
لكن لا بد أيضاً من التمييز، عند تحليل هذه الظاهرة السياسية، بين الأحزاب اليمينية المتطرفة الصغيرة التي صعدت شعبيتها بسرعة في السنوات الأخيرة، والأحزاب التقليدية المحافظة أو اليمينية المعتدلة التي جنحت مؤخراً نحو مواقف شعبوية قومية للحفاظ على شعبيتها أو وقف نزف هذه الشعبية لصالح الأحزاب اليمينية المتطرفة.
ومن الملاحظات التي يتوقف عندها الدارسون لهذه الظاهرة، أنه بغض النظر عن التقلبات السريعة التي تشهدها شعبية هذه الأحزاب، فإنه لا يمكن الاستناد فقط إلى النتائج الانتخابية لقياس نجاحها، بل يجب الأخذ في الحسبان أيضاً تأثيرها في النظم السياسية التي أصبحت حالة طبيعية فيها، فضلاً عن العديد من الأحزاب الأخرى تبنت أفكارها وطروحاتها.
وتشير دراسات أخرى إلى أن هذه الأحزاب تفتقر إلى الكوادر اللازمة لإدارة السلطة بصورة فاعلة، كما أنها تواجه تناقضات حادة خلال وجودها في الحكم بعد أن كانت مسيرتها تقوم على محاربة النظام القائم وأساليبه وممارساته. يضاف إلى ذلك أن معظم هذه الأحزاب يخضع لزعامات فردية قوية تجعل من الصعب الاستبدال بها في حال التعرض لانتكاسات سياسية أو غيرها.
أما الأحزاب التقليدية التي جنحت نحو الشعبوية القومية، مثل «الجمهوريين» في الولايات المتحدة أو «المحافظين» في بريطانيا، فهي تملك الخبرات الكافية لعبور الأزمات القيادية، لكن بعض الزعامات المفرطة تفرض عليها تكلفة باهظة للنهوض من الانتكاسات، مثل الاضطرار إلى اللجوء لقيادات لا تتمتع بالكفاءة أو الخبرة الكافية، أو الانحراف عن المسار التقليدي، أو رفع مستوى التعبئة عند القوى المنافسة.
ومن المعضلات الأساسية التي تواجه هذه القوى في المرحلة الراهنة، تحديد موقفها من الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن التحديات العالمية الكبرى مثل تغير المناخ. معظم هذه القوى كانت تقيم علاقات وطيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ الأمر الذي يسبب لها إحراجاً كبيراً على الصعيدين الداخلي والخارجي. لكن يرى بعض الباحثين أن ذلك قد لا يكون له تأثير كبير في الأوساط الشعبية التي تؤيدها، خصوصاً إذا طالت الحرب وتفاقمت الأوضاع الاقتصادية بسبب مواقف الدول الغربية منها والعقوبات التي فرضتها على موسكو. ويرى آخرون أن الحرب وتداعياتها قد لا تؤثر كثيراً على شعبية هذه الأحزاب، لكنها بالتأكيد تشكل حاجزاً يمنعها من التمدد أوسع من حدودها الراهنة، ويضربون على ذلك مثال حزب «الحرية» النمساوي الذي خرج من الحكم بسب فضيحة لها علاقة بروسيا، والإيطالي ماتيو سالفيني الذي يدفع ثمناً باهظاً لعلاقاته الوطيدة مع موسكو. لكن في المقابل، يبدو أن الفرنسية مارين لوبان لم تتراجع شعبيتها بسبب مواقفها من موسكو والحرب الدائرة في أوكرانيا، كما بينت نتائج الانتخابات الرئاسية والعامة الأخيرة.
وبغض النظر عن الحرب في أوكرانيا، تبقى المعضلة الأساسية لهذه الأحزاب هي تحديد المدى الذي يمكن لها أن تلعب ضمنه الورقة القومية أمام التحديات العالمية الراهنة التي كشفت عن خطورة الجنوح نحو المواقف القومية، في الوقت الذي بينت فيه المنافع الأكيدة للتكامل الإقليمي والمقاربات الشاملة للأزمات.
هل انحسرت موجة «القومية» و«الشعبوية» في الديمقراطيات الغربية؟
هل انحسرت موجة «القومية» و«الشعبوية» في الديمقراطيات الغربية؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة