ماذا بقي من إنسانية الإنسان في «الجمهورية الرقمية»؟

المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)
المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)
TT

ماذا بقي من إنسانية الإنسان في «الجمهورية الرقمية»؟

المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)
المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)

عندما ولدت شبكة الإنترنت العالمية، امتلأ وادي السيليكون بالشركات الناشئة الهشة والضعيفة. وفي ذلك الوقت، قررت الحكومة الأميركية عدم تنظيمها والسماح لها بالنمو بجرأة بقدر ما تستطيع. وقد حدث ذلك. اليوم، أصبحت هذه الشركات أسماء مألوفة على مستوى العالم، وهي في الواقع من أكبر الشركات في العالم، والتي تقدر قيمة بعضها بأكثر من تريليون دولار. لسوء الحظ، استغلت بعض تلك الشركات تلك القوة بغطرسة لترسيخ مواقعها، على حساب مصالح عملائها وجميع المنافسين المحتملين. جيمي سسكيند**، المحامي البريطاني، نشر كتاباً حديثاً رائعاً بعنوان «الجمهورية الرقمية: عن الحرية والديمقراطية في القرن الحادي والعشرين»، يتناول فيه هذه القضية المثيرة للجدل.
وانطلاقاً من ذلك؛ يبرز سؤال أساسي يشغل العالم، هو: ماذا أبقى الإنترنت، أبرز ثمار التكنولوجيا، من إنسانية الإنسان، ومن علاقة الناس ببعضهم بعضاً؟ وإلى أين ستقود مليارات الناس الذين باتوا عاجزين عن إبعاد إبهاماتهم عن تلك الأجهزة الصغيرة؟
المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة». في حين أنه في الأيام الأولى للفضاء الإلكتروني، كانت السلطة إلى حد كبير يمارسها التقنيون ذوو الميول التحررية والذين كانوا يعرفون كيفية البرمجة والتشفير، أصبحت اليوم في أيدي الشركات والأثرياء الذين يقاومون التنظيم ويميلون إلى نوع من «فردية السوق»، بحسب سسكيند. فعلى عكس الطب، لا توجد مؤهلات أخلاقية إلزامية للعمل كمهندس برمجيات أو تنفيذي تقني. لا توجد مدونة لقواعد السلوك الصناعي واجبة التنفيذ. لا توجد شهادة إلزامية. ليس هناك التزام بتقديم الجمهور قبل الربح. هناك عواقب قليلة للفشل الأخلاقي الخطير. لا خوف حقيقياً من التعليق أو الإلغاء». قوتهم تعني أننا جميعاً غير أحرار. يجب أن ننفذ أوامرهم. يجب أن نتخلى عن أي حقوق نعتقد أننا نمتلكها في «الاتفاقيات» عبر الإنترنت والتي لا يملك أحد الوقت لقراءتها، ناهيك عن فهمها. إذا كنت قد قرأت واحدة من قبل، فأنت تعلم أنها غامضة عن قصد ومليئة بالمصطلحات غير المحددة التي يمكن لشركات الإنترنت تفسيرها كيفما تشاء عند الضرورة؛ لذلك لا جدوى من قراءة تلك الوثائق. ليس الأمر كما لو كان بإمكانك التفاوض على حذف بند لا توافق عليه. إما أن تتخلى عن جميع حقوقك قبل الدخول، أو لا يمكنك الدخول. عادة، مثل هذه العقود أحادية الجانب لا تشكل أي دليل في المحكمة.
يتوق سسكيند إلى «شقاوة» الإنسان - ميل الجميع إلى تجنب القواعد والانحراف عنها. سيتجاوز البشر الحد الأقصى للسرعة، ويحاولون ألا يدفعوا أجرة المترو، ويحاولون مشاهدة فيلمين أثناء وجودهم في السينما، وعدم وضع إشارة الانعطاف للسيارة عندما لا يكون هناك أحد في الأفق، وما إلى ذلك. يقترح سسكيند تطوير مدونة، أو مجموعة من القوانين، تحمي الأفراد من السلب والتلاعب بينما تدعو في الوقت نفسه إلى «أقل تدخل ممكن من الدولة». يتخذ المؤلف نهجاً حذراً ومنطقياً للمشكلات التي قد تنتج من ذلك، مشيراً، على سبيل المثال، إلى أن «أبسط أشكال قوة المنصة هو القدرة على قول لا».
هكذا يعيد إحياء مفهوم الجمهورية حسب رؤية الإغريق القدماء، الذين تطلبت جمهورياتهم جهوداً مشتركة واحتراماً متبادلاً للإدارة بشكل صحيح. هو يدعو إلى تشكيلات جماهيرية صغيرة، ولجان مخصصة تتكاتف معاً للتعامل مع قضايا منفردة يكون لديها سلطة طلب قانون جديد، أو الدعوة إلى استفتاء، أو حظر بعض الممارسات. ثم تتفكك هذه التشكيلات ويواصل أعضاؤها حياتهم من جديد. فهذا النهج، والذي يطلق عليه أيضاً اسم الديمقراطية، هو وسيلة لإبقاء جماعات الضغط والمصالح الخاصة خارج العملية. لا توجد أحزاب ولا حملات إعادة انتخاب ولا جمع تبرعات. القضية تتلخص في أن أبناء هذه الجمهورية يقيمون وضعهم ويتعاملون معه بالطريقة المثلى لحل أي مشكلة تواجه المجتمع، طبقاً لسسكيند.
من هنا، يمكن تصنيف المشكلة الكلية إلى خمس نقاط رئيسية: الأولى، هي أن شركات التكنولوجيا الكبيرة تتمتع بقوة حقيقية لا ينبغي أن تكون غير منظمة. الثانية، هي أن التكنولوجيا ليست محايدة أو موضوعية أو بعيدة عن السياسة، سياسية. الثالثة، هي أن التكنولوجيا الرقمية مؤطرة بالكامل من منظور اقتصاد السوق. الرابعة، هي أنه لا يوجد شيء طبيعي أو حتمي في شركات التكنولوجيا الكبرى، فكل شيء ممكن الحدوث في أي وقت ودون أي ضوابط. أما المشكلة الخامسة، فهي أننا قمنا بتلبية احتياجات شركات التكنولوجيا الكبرى من حيث الفردية في السوق بدلا من تنظيمها كشركات خدمية.
وانطلاقاً من تشخيص المشكلات، يوجه سسكيند كثيراً من انتقاداته إلى «فيسبوك»، بسبب أكاذيبه ونفاقه. سياسة الخصوصية في «فيسبوك»، يكاد يكون من الصعب فهمه مثل أطروحة إيمانويل كانط عام 1781 «نقد العقل المحض»، «وهو كتاب معقد بشكل كبير لدرجة أن طلاب الفلسفة يرتجفون عند التفكير فيه». لكن هناك أيضاً حقيقة مؤسفة، «أصبحت الحياة الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي لا ينفصلان» مع ظهور «فيسبوك».
يريد سسكيند تحويل كل شيء في مجال التكنولوجيا إلى مهنة. يحتاج المحاسبون والمحامون إلى شهادات وتراخيص؛ يعرضونها بشكل بارز. لماذا لا يُطلب من مهندسي البرمجيات أن يفعلوا الشيء نفسه؟ أيضاً محترفو تجربة المستخدم ومحترفو الخصوصية ومحترفو النظام الأساسي ومحترفو التجارة الإلكترونية، وما إلى ذلك. إذا تم خلق الظروف التي تجعلهم يواجهون إمكانية فقدان حقهم في العمل أو دفع الغرامة أو التشهير بهم في حال عدم حصولهم على المؤهلات المطلوبة، فإن الإنترنت سيبدو مختلفاً تماماً ويتغير بشكل إيجابي. إن الإنترنت مهم جداً للمجتمع، ومن الصعب تصديق أنه لا أحد يحتاج إلى أي نوع من الشهادات للعمل فيه أو تشغيله. ثم يجب على المنظمين التحقق من أوراق الاعتماد هذه ومعاقبة أولئك الذين ينتهكون. هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم الحديث - باستثناء التكنولوجيا الكبيرة.
هكذا يتبين، أن «الجمهورية الرقمية» عبارة عن أمرين مهمين. أولاً، المشاكل كثيرة وهائلة في مجال تنظيم التكنولوجيا. والآخر، أنها، في معظمها، يمكن إدارتها من خلال المنطق والفطرة السليمة.

* باحث ومترجم سوري
** جيمي سسكيند - محامٍ ومؤلف كتاب «السياسة المستقبلية» الأكثر مبيعاً والحائز جوائز عالمية ولديه زمالات في جامعات هارفارد وكمبردج ويعيش حالياً في لندن



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري