«لا تحسبوه شرًا لكم»

«لا تحسبوه شرًا لكم»
TT

«لا تحسبوه شرًا لكم»

«لا تحسبوه شرًا لكم»

«رُبّ ضارةٍ نافعة»، فعاصفة الإرهاب التي ضربت شرق السعودية قبل أسبوعين، ارتدت بنتائج معاكسة يمكن البناء عليها.. كانت تريد تمزيق النسيج الوطني، فهبّ الناس من مختلف الاتجاهات لحماية هذا النسيج. كانت تريد تمرير أهداف ومبررات الفتنة، فأصبحت الوحدة الوطنية هدفًا أعلى من ذي قبل. أرادت إضعاف الدولة عبر الافتئات على دورها وتضييع هيبتها والخروج على قوانينها، فأصبحت الدولة فكرًا وواقعًا الملاذ النهائي والأخير لأبنائها.
حتى خطاب الكراهية، أصبح عاريًا، وصار دعاة الفتنة ومنظرو الحروب المذهبية في موقع الدفاع. كل واحدٍ منهم راح يتلحف بخطاب مغاير؛ ملتبس ومنافق ولكنه نكوصي ودفاعي. هذا لا يهم! ما يهم أكثر أن الغالبية أحست بالخطر.. حتى أولئك «المتحزبون» الذين اجتهدوا بكل قوة لتبييض وجه الإرهاب ودحرجة الاتهامات عنه، وتبرئة منظومته الفكرية، والدفاع عن شخوصه وشيوخه، كانوا في الحقيقة يدافعون عن أنفسهم، وعن مكاسبهم التي يجنونها عبر ركوب موجات التشدد، وحصد نتائج الحروب. ولذلك فهم أول الخاسرين؛ لقد خسروا ورقة التوت الأخلاقية التي كانوا يتدثرون بها، ويقدمون أنفسهم أصحاب قضية، وليسوا تجار حروب ومسعري عداوات ومهيجي فتن، وشاهدهم الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي يتذرعون بالأعذار تلو الأعذار للمفجرين والانتحاريين وقتلة المصلين.
من فوائد هذه الأزمة، أنها أنتجت خطابًا تصالحيًا مع الآخر، وعمّقت الحديث عن المشتركات العامة، كما أنها أطلقت دور المجتمع وبعض نخبه الثقافية والفكرية، وبشكل أوسع الطبقة الوسطى لممارسة دور رقابي تجاه المسؤولين عن خطابات القطيعة والكراهية. فهؤلاء اليوم لا يواجهون سطوة القانون؛ بل وعي المجتمع.
كما أن هذه الأزمة ربما أوجدت فرصا أوسع لأن يختبر الناس قدراتهم على تجاوز التابوهات التي حبسوا داخلها، والخروج إلى آفاق أرحب في فضاء وطني مفتوح. فالإحساس بالخطر الجمعي كان دافعًا لأن يقرّب بين الأطياف المختلفة. والشعور بأن طوفان الإرهاب لا سدّ له، جعل الناس يقتربون بعضهم من بعضهم ليمنعوا نفوذه بينهم.
الصوت الأكثر وعيًا كان صوت الضحايا، وهو صوت تحلى بقدر عالٍ من الانضباط والمسؤولية والتعالي على الجراح، وهو بحاجة إلى قوة مجتمعية تسانده وإلى توافق عام يعضده ويحميه. لا نريد أن يشعر أي مستهدف من قوى الظلام أنه لوحده، أو أنه تُركَ ليواجه مصيره. لقد كان تضامن السعوديين من رأس هرم القيادة حتى المواطن العادي، مثاليًا. وهو ما قطع الطريق على تجار الدماء أن يستثمروا في الخراب.
رجل الدين البارز، وإمام مسجد الحسين في حي العنود، السيد علي الناصر السلمان، قال للأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية الذي جاءه معزيًا، إن هذه المصيبة التي ألمّت بالمواطنين في الدمام، كان لها تأثير إيجابي برز في إظهار اللحمة الوطنية السعودية التي تجاوزت كل التحديات. ومضى يقول إن الحادثة «قدمت لنا وعيًا بأهمية الأمن والأمان وقيمتهما الحقيقية التي لن يشعر بها إلا من افتقدهما»، وإن «هذه الجريمة قرّبت القلوب وقوّت اللحمة بين أبناء الوطن وجعلتهم أكثر حرصًا على أمنه».



زاهر الغافري... «لعلنا سنزداد جمالاً بعد الموت»

زاهر الغافري... «لعلنا سنزداد جمالاً بعد الموت»
TT

زاهر الغافري... «لعلنا سنزداد جمالاً بعد الموت»

زاهر الغافري... «لعلنا سنزداد جمالاً بعد الموت»

لا تزال تداعيات الرحيل الصادم للشاعر العماني البارز زاهر الغافري، تتفاعل في أروقة المثقفين العرب وعبر منصات التواصل الاجتماعي، منذ أن غيبه الموت في مستشفى بالمدينة السويدية مالمو أمس (السبت)، مخلفاً وراءه إرثاً إبداعياً متفرداً عبر 12 ديواناً شعرياً تُرجم كثير منها إلى لغات عدة منها الإنجليزية والإسبانية والصينية. ولد الغافري 1956 وتخرج في قسم الفلسفة بجامعة «محمد الخامس» بالرباط وعاش حياته عاشقاً للسفر والترحال، كأن الحياة امرأة جميلة يراقصها، ومن أجلها يتنقل من بلد لآخر، حيث طاب له المقام في المغرب والعراق وباريس ولندن، قبل أن تصبح السويد محطته الأخيرة.

ورغم تعدد الجغرافيا والأمكنة في خريطة العمر، فإن قريته «سرور» بسلطنة عمان، ظلت بمثابة شجرة وارفة الظلال يعود إليها بين الحين والآخر، ملتمساً عبق الذكريات ورائحة الجذور. ومن أبزر أعماله: «أظلاف بيضاء»، و«الصمت يأتي للاعتراف»، و«أزهار في بئر»، و«حياة واحدة، سلالم كثيرة»، و«هذيان نابليون»، و«مدينة آدم». وبدا لافتاً هذا الكم من القصائد التي تشي بأن الموت والرحيل تحولا إلى هاجس يطارد الشاعر في سنواته الأخيرة، نتيجة مرض تليف الكبد الذي عانى منه بقسوة، لكنه هاجس ظل ينطوي على «جمال منتظر»، كما في قوله: «لعلنا سنزداد جمالاً بعد الموت / فنسمع من يقول: انظر كيف تقفز الأسماك من عيونهم / هكذا ننحني لغصن الموت». ويقول في قصيدة أخرى: «ميتٌ في السرير لكنني أرى / لهذا سأتركُ لكم الشعرَ / يكفيني أن أرى تلويحة اليد من أعلى السحابة». ويتساءل في نص ثالث: «هل كان ينبغي أن تمضي كل تلك السنوات / كي أكتشف أنني صيحةٌ عائدة من الموت؟».

وتدفقت منشورات الرثاء واستعادة الذكريات لمبدعين ومثقفين من مختلف الأجيال والبلدان، وقعوا في غرام شاعر أخلص للشعر وحب الحياة، وزهد في الأضواء والصراعات الصغيرة.

وقال الشاعر العماني إبراهيم سعيد إن «زاهر تعامل مع الموت بطريقة شعرية تصعيدية للحدث القادم آنذاك، والذي نعرف الآن أنه هذا اليوم الحزين، وداعاً زاهر الغافري بكل الأناقة التي ودعت ولوحت بها طوال سنوات عمرك الأخيرة وصبرك، وتحملك لألم المرض الذي ظل يلاصق أيامك، والذي كنت تحتال عليه وتراوغه بأسلوبك الفريد...». وعلق الكاتب المصري مهدي مصطفى: «منذ أسابيع تهاتفنا عبر الفضاء الشاسع. صوته الضاحك المفرح يجيء من بعيد كأنه يودعني. لتعد يا زاهر إلى حضن قريتك سرور في عمان، كن طائراً في سماوات قريبة كما اعتدت».

ويستعيد القاص والروائي العراقي المقيم في الدنمارك سلام إبراهيم، بداية قربه الإنساني من الشاعر الراحل قائلاً: «في أمسية أدبية بمدينة مالمو وقع نظري عليه أول مرة. كان ذلك في منتصف تسعينات القرن الماضي. كان يجلس في الصف الأول بوجهه الأسمر كأنه رغيف خبزٍ تعطل قليلاً في التنور، يحملق بعينين ذكيتين متابعاً، وأنا أقدم صديقي المسرحي د. فاضل سوداني ليحاضر عن طقوس المسرح. في الجلسة التي أعقبت المحاضرة أقبل نحوي وعانقني، لم يقدم نفسه، فبقيت حائراً بمَ أناديه، وخاض معي حديثاً متشعباً وغنياً عن الأدب والعراق ونصوصي التي أنشرها في الصحافة العربية». ويضيف إبراهيم قائلاً: «كانت الجلسة محتدمة وبها خليط من مثقفي ومبدعي العراق، وكان (زاهر) شديد الحماس، شديد الإنصات، ظننت أنه عراقي بالرغم من أن لهجته فيها إيقاع لهجة أخرى، لكن ما يرتسم في تقاسيمه السمراء الناصعة كماسةٍ من انفعالات متوهجة، وما يصيب نبرة صوته من تهدج كلما سمع اسم العراق جعلني أتيقن بأنه عراقي».

ويتوجه الكاتب العماني أحمد العلوي إلى الراحل برسالة مؤثرة قائلاً: «أهو بياض الثلج الذي يبعد بحر عمان عنك؟ أم أن مالمو عصية على هتاف البحر لك؟ صورتك أمام الأزرق في عُمان تتجذر في أعيننا، حين يوافيك الحظ، ويعتقك البياض من قيد المسافة، وتأتي كموجة تناثرت هباتها على الشاطئ الذي تلتقط صوراً لك أمامه، وتكتب (من أمام بحر عُمان العظيم) كأنك بها وحدها تؤصّل جذورك في الماء».