الإماراتيون يجذبون زوار «الجنادرية 29» بـ«اليولة» و«الرزفة»

الحرف اليدوية تحتل مساحة واسعة في المهرجان

إماراتيون يستعرضون فلكلور «اليولة» الشهير في قرية الجنادرية أمس (تصوير: مشعل القدير)
إماراتيون يستعرضون فلكلور «اليولة» الشهير في قرية الجنادرية أمس (تصوير: مشعل القدير)
TT

الإماراتيون يجذبون زوار «الجنادرية 29» بـ«اليولة» و«الرزفة»

إماراتيون يستعرضون فلكلور «اليولة» الشهير في قرية الجنادرية أمس (تصوير: مشعل القدير)
إماراتيون يستعرضون فلكلور «اليولة» الشهير في قرية الجنادرية أمس (تصوير: مشعل القدير)

لفت جناح ﺩﻭﻟﺔ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺕ ﺍلعربية المتحدﺓ في مهرﺟﺎﻥ الجناﺩﺭﻳﺔ، زوار المهرجان أمس بالرقصات والأهازيج الإماراتية التي أبرزها «اليولة» و«الرزفة»، حيث اختيرت الإمارات ضيف شرف المهرجان هذا العام.
ويشرف على جناح دولة الإمارات العربية ﻫﻳﺋﺔ ﺃﺑﻭﻅﺑﻲ ﻟﻠﺳﻳﺎﺣﺔ ﻭﺍﻟﺛﻘﺎﻓﺔ، ﺑﺎﻟﺗﻌﺎﻭﻥ ﻭﺍﻟﺗﻧﺳﻳﻕ ﻣﻊ ﻣﺧﺗﻠﻑ ﺍﻟﺟﻬﺎﺕ وﺍﻟﻣﺅﺳﺳﺎﺕ ﺍﻟﻣﻌﻧﻳﺔ ﺑﺎﻟﺳﻳﺎﺣﺔ ﻭﺍﻟﺛﻘﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟﺗﺭﺍﺙ، ﻟﻳﻌﺭﺽ ﺃﻟﻭﺍﻥ ﺍﻟﻣﻭﺭﻭﺙ ﺍﻟﺷﻌﺑﻲ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺗﻲ ﺍﻟﻣﻌﺭﻭﻑ ﺑﺛﺭﺍﺋﻪ ﻭﻗﺩﺭﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﺗﺭﺳﻳﺦ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﻬﻭﻳﺔ ﺍﻟﻭﻁﻧﻳﺔ ﻟﺩﻯ ﺃﺑﻧﺎء ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺕ.
وبدأ أمس المشاركون في جناح دولة الإمارات العربية باستعراض رقصة «الرزفة» و«اليولة» من الرقصات الشعبية التي تتميز بها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي يستخدمون فيها «اليويلة» (المؤدون) السيف أو السلاح للرقص وتأدية هذا الفن الذي اشتهر به الإماراتيون منذ القدم حتى هذا الجيل في المناسبات والأعياد والسهرات واجتماع الأصحاب، ويرافق فن «اليولة» إيقاعات الأغاني الشعبية الحربية، أو «شلة» (قصيدة مغناة) يطبق عليها «اليويلة» ما اكتسبوه من التدريب المستمر عليها في الأعراس والمناسبات المختلفة، بمرافقة «العيالة».
وتبرز ﺍﻟﻣﻧﺎﺷﻁ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺗﻳﺔ ﺍﻟﺗﻲ ﺗﺯﻳﻥ ﺍﻟﺟﻧﺎﺩﺭﻳﺔ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻌﺎﻡ، بالبيئة ﺍﻟﺑﺩﻭﻳﺔ ﺑﻣﺎ ﺗﺿﻣﻪ ﻣﻥ ﻋﺭﻭﺽ ﺣﻳﺔ ﻟﻠﺻﻘﺎﺭﺓ ﻭﺗﺄﺩﻳﺔ ﻓﻧﻭﻥ ﺍﻟﺷﻠﺔ ﻭﺍﻟﺭﺑﺎﺑﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺧﻳﻣﺔ ﺍﻟﺗﺭﺍﺛﻳﺔ، ﻭﺍﻟﺑﻳﺋﺔ ﺍﻟﺑﺣﺭﻳﺔ ﻭﺗﺷﻣﻝ ﺍﻷﻫﺎﺯﻳﺞ ﺍﻟﺑﺣﺭﻳﺔ ﻭﺍﻟﺻﻧﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﺑﺣﺭﻳﺔ ﻭﺍﻟﻠﺅﻟﺅ، ﺣﻳﺙ ﻳﺗﻡ ﺗﻘﺩﻳﻡ ﻋﺩﺩ ﻣﻥ ﺍﻷﻫﺎﺯﻳﺞ ﺍﻟﺑﺣﺭﻳﺔ، ﻭﺍﻟﺻﻧﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﺗﻘﻠﻳﺩﻳﺔ ﺍﻟﺑﺣﺭﻳﺔ ﻛﺗﺭﻭﻳﺏ ﺍﻟﻠﻳﺦ ﻭﺗﺭﺩﻳﺩ ﺍﻟﺧﻳﻁ، ﻭﺍﻟﺗﻌﺭﻳﻑ ﺑﺄﻧﻭﺍﻉ ﺍﻟﻠﺅﻟﺅ ﻭﺍﻷﺩﻭﺍﺕ ﺍﻟﻣﺳﺗﺧﺩﻣﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻛﺷﻑ ﻋﻧﻪ.
ويقول سعيد الكعبي، وهو مشرف في جناح دولة الإمارات «إن دولة الإمارات هذه السنة تشارك كضيف شرف لمهرجان الجنادرية، وذلك بعد مشاركتهم العام الماضي التي شهدت إقبالا كبيرا من الجمهور ومشاركة فعالة من المشاركين».
وأضاف: «إن الزائرين هذا العام لجناح دولة الإمارات سيستمتعون ﺑﺟﻭﻟﺔ ﻓﻲ ﺃﻋﻣﺎﻕ ﺍﻟﺗﺎﺭﻳﺦ ﺩﺍﺧﻝ ﺳﺎﺣﺔ ﻟﻸﻧﺷﻁﺔ ﺍﻟﺗﺭﺍﺛﻳﺔ ﻭﺭﺅﻳﺔ ﻋﺭﻭﺽ ﻓﺭﻕ ﺍﻟﻔﻧﻭﻥ ﺍﻟﺷﻌﺑﻳﺔ، ﻭﻣﻌﺭﺽ ﺍﻟﻠﺅﻟﺅ ﻭﺃﺩﻭﺍﺕ ﺍﻟﻐﻭﺹ، ﻭمعرض ﺁﺧﺭ ﻟﻠﺻﻭﺭ، ﻭﺳﻭﻕ شعبية، ﻭﺛﺎلثة ﻟﻠﺣﺭﻑ ﺍﻟﺗﺭﺍﺛﻳﺔ، ﻭﻏﻳﺭﻫﺎ من الفعاﻟﻳﺎﺕ ﺍﻟﻣﺩﻫﺷﺔ ﺍﻟﺗﻲ ﻳﺷﻬﺩﻫﺎ ﺍﻟﺟﻧﺎﺡ ﻋﻠﻰ ﻣﺩﺍﺭ ﺃﻳﺎﻡ ﺍﻟﻣﻬﺭﺟﺎﻥ، ويعكس ﺍﻟﺣﺿﻭﺭ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺗﻲ ﺍﻟﻘﻭﻱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺳﺎﺣﺔ ﺍﻟﺛﻘﺎﻓﻳﺔ ﺍﻟﺷﻌﺑﻳﺔ، مما ﻳﺳﻬﻡ ﻓﻲ ﺗﻌﺯﻳﺯ ﺻﻭﺭﺓ ﺃﺑﻭﻅﺑﻲ ﻛﻭﺟﻬﺔ ﺳﻳﺎﺣﻳﺔ ﻋﺎﻟﻣﻳﺔ ﺑﻣﻼﻣﺢ ﻋﺭﺑﻳﺔ ﺧﺎﻟﺻﺔ».
ﻭتحتل ﺍﻟﺳﻭﻕ ﺍلشعبية ﻣﺳﺎﺣﺔ ﻣﻣﻳﺯﺓ ﺩﺍﺧﻝ ﺍﻟﺟﻧﺎﺡ الإماراتي، ﻋﺑﺭ ﻣﺟﻣﻭﻋﺔ ﻣﻥ ﺍﻟﺗﺭﺍﺛﻳﺎﺕ ﺍﻟﻣﺳﺗﻭﺣﺎﺓ ﻣﻥ ﺃﻋﻣﺎﻕ ﺍﻟﺑﻳﺋﺔ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺗﻳﺔ، ﻣﺛﻝ: ﺍﻟﺗﻣﻭﺭ، وﺍﻟﺣﻠﻭﻯ ﺍﻟﻣﺣﻠﻳﺔ، وﺍﻟﻌﻁﻭﺭ، وﺍﻟﺑﺧﻭﺭ، وﺍﻟﻣﻼﺑﺱ ﺍﻟﺭﺟﺎﻟﻳﺔ، ﻭﺍﻟﻌﺳﻝ ﺍﻟﻣﺣﻠﻲ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺗﻲ، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺣﺭﻑ ﺍﻟﺗﺭﺍﺛﻳﺔ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺗﻳﺔ، فتشمل ﺍﻟﻣﺷﻐﻭﻻﺕ ﺍﻟﻳﺩﻭﻳﺔ ﻟﻠﺳﺩﻭ ﻭﺍﻟﺧﻭﺹ، ﻭﺍﻟﺗﻠﻲ ﻭﺍﻟﺗﻁﺭﻳﺯ ﻋﻠﻰ ﻣﻼﺑﺱ ﺍﻟﻧﺳﺎء، ﻓﺿﻼ ﻋﻥ ﺗﻘﺩﻳﻡ ﺍﻷﻛﻼﺕ ﺍﻟﺷﻌﺑﻳﺔ ﺍﻹﻣﺎﺭﺍﺗﻳﺔ ﺍﻟﺗﻘﻠﻳﺩﻳﺔ ﻣﻊ ﺑﻳﻊ ﺍﻟﻣﻧﺗﺟﺎﺕ ﺍﻟﺣﺭﻓﻳﺔ ﺍﻟﻣﺣﻠﻳﺔ ﺍﻹﻣﺎﺭاﺗﻳﺔ.
في جانب آخر، زخر جناح الحرف اليدوية بمهرجان «الجنادرية 29»، بعدد من المنتجات التي تنم عن إرث عميق ما زال يلتصق بالذاكرة العربية عموما والسعودية خصوصا.
ومن الحرف اليدوية التي ضمها الجناح، «الخراز»، وهي حرفة شعبية قديمة ما زالت منتشرة حتى اليوم الحاضر، والخراز حرفي يتعامل مع الجلود بأدوات بسيطة كالمقصات والسكاكين والمخاريز والمجاذيب.
وينتج الخراز عددا من الأدوات كالنعال والقرب والصملان الخاصة باللبن وعكاك الدهن وخباء البنادق والمحازم والغروب، أما المادة الأولية للخراز فهي الجلود التي يجلبونها من مناطق مختلفة.
كذلك من الحرف اليدوية صناعة «المشالح»، والتي تشتهر بها منطقة الأحساء منذ زمن قديم، فكانت لها سمعة وشهرة كبيرتان بين مناطق المملكة وتوارثها الآباء عن الأجداد وهي موجودة إلى يومنا الحاضر، ويستخدم فيها الحائك خيوطا متنوعة منها خيوط الغزل المستخرج من وبر الإبل وصوف الأغنام وتصدر المشالح إلى جميع مناطق المملكة.
أما صناعة «المسابح»، فهي إحدى الحرف التقليدية المشهورة في المملكة قديما لكن شهرتها تتركز أكثر في منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويستخدم الحرفي في هذا المجال جهازا بسيطا ودقيقا يتكون من عدد من الأدوات، تشمل المخراطة والقوس والمثقاب والعزاب والمسن والقردان.
أما المادة الخام المستخدمة لصناعة المسابح فهي عظام الحيوانات، خصوصا السير التي تستخرج من البحار، ثم يحفها الحرفي وينقشها ويلونها، وقد تصل قيمة بعض السبح إلى أسعار مرتفعة حسب مادتها الخام كالكهرمان مثلا، وحسب نقوشها وزخرفتها.
وتعد صناعة الأختام وكتابة الأمهار من الحرف التي ألفها بعض الأشخاص المختصين بهذه المهنة، حيث يقومون بحفر الأختام والكليشيهات لأناس معينين، كالكتاب والمشايخ والقضاة، وعمد الأحياء والتجار، ولكل شخص خاتم خاص يمهر به الأوراق، وهي بمثابة التصديق على محتويات الوثيقة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)