القطيعة بين باريس وباماكو تتعمق... والطرفان يتبادلان اتهامات خطيرة

انسحاب قوة «برخان» من مالي يحد من قدرة فرنسا على مواصلة حربها ضد الإرهاب في الساحل

TT

القطيعة بين باريس وباماكو تتعمق... والطرفان يتبادلان اتهامات خطيرة

مع كل يوم يمر، تتسع هوة التباعد بين باريس وباماكو. الأولى تسرّع خروجها العسكري من مالي، مستعمرتها السابقة، بعد وجود دام تسع سنوات كان هدفه الأول والمعلن منع سقوط هذا البلد في أيدي التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، وأهمها اثنتان: «القاعدة» و«داعش». والهدف الثاني (اللاحق) مساعدة الحكومة في إعادة بسط سلطتها وإيصال خدماتها إلى المناطق التي كانت خارجة عنها.
والحال أن الانقلابين العسكريين اللذين حصلا في عامي 2020 و2021 وأوصلا إلى السلطة مجلساً عسكرياً، أسهما في التباعد بين باريس وباماكو. وشيئاً فشيئاً تدهورت العلاقة بينهما على خلفية اتهامات متبادلة.
وجاءت استعانة الحكم الجديد بميليشيا «فاغنر» الروسية التي اعتبرت الحكومة الفرنسية وجودها «غير متجانس» مع وجود القوة الفرنسية «برخان» وقوة الكوماندوس الأوروبية «تاكوبا»، لتدفع باريس إلى تسريع خروجها العسكري من مالي، ووضع حد لحضور قوة «تاكوبا» التي كانت مهمتها مواكبة القوات المالية المسلحة في عملياتها العسكرية ضد التنظيمين الإرهابيين المذكورين.
بيد أن الفراق بين الجانبين، قيد الإنجاز، ما زال ساخناً. وكل جملة من هنا أو هناك تثير الجدل وتزيد التباعد. وليس من المغالاة بشيء القول إن خروج فرنسا من مالي، حيث لها مصالح اقتصادية وتجارية وسياسية كبيرة، بمثابة فشل كبير للسياسة وللدبلوماسية الفرنسيتين. وكانت الجولة الأخيرة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى ثلاثة بلدان غرب أفريقيا (الكاميرون وبنين وغينيا بيساو)، وتصريحاته في محطتها الأخيرة، بمثابة الصاعق الذي أعاد إشعال الجدل. فالرئيس الفرنسي تناول ملف الأمن في منطقة الساحل، خصوصاً في مالي ودور مجموعة دول غرب أفريقيا في المحافظة عليه وخطط فرنسا المستقبلية واستعدادها لتوفير المساعدة للدول التي تطلبها ووفق ما ترتئيه. ومما قاله في مؤتمره الصحافي، وإلى جانبه رئيس غينيا بيساو، إن مسوؤلية دول غرب أفريقيا «أن تعمل من أجل مساعدة شعب مالي حتى يعبر عن سيادته الوطنية (من خلال الانتخابات)»، وأن «يبني الإطار (الملائم) من أجل توفير الاستقرار»، الأمر الذي سيمكّنه من «محاربة المجموعات الإرهابية بشكل فاعل».
ولم يتردد ماكرون في اتهام المجلس العسكري بـ«التواطؤ مع ميليشيا (فاغنر)»، معتبراً أن «خيارات الزمرة العسكرية (في باماكو) اليوم وتواطؤها مع ميليشيا فاغنر تبدو عديمة الفاعلية في محاربة الإرهاب، لا بل يبدو أن محاربة الإرهاب لم تعد هدفهم، الأمر الذي دفعنا إلى خيار الخروج من مالي». كذلك اتهم «فاغنر» بارتكاب مجازر، إلى جانب القوات المالية، بحق المدنيين، وسط البلاد، في المحلة المعروفة باسم «مورا».
ولم تتأخر الردود المنددة بالرئيس الفرنسي. إذ قال الناطق باسم الحكومة الكولونيل عبدلاي مايغا إن الحكومة الانتقالية في باماكو تطالب ماكرون بأن «يتخلى بشكل نهائي عن العقلية الاستعمارية الجديدة والأبوية والفوقية حتى يستوعب ألّا أحد يمكن أن يحب مالي أكثر من الماليين». وأضاف أن «اتهامات ماكرون الخطيرة من شأنها إثارة الأحقاد الإثنية» في البلاد. وذهب مايغا إلى حد دعوة الرئيس الفرنسي إلى «استذكار الدور السلبي ومسؤولية فرنسا في المجازر التي ضربت شعب التوتسي في رواندا» في عام 1994 والتي اتهمت فرنسا بغض النظر عنها، فيما قواتها كانت حاضرة في هذا البلد. كما ندد مايغا بـ«الاتهامات المغلوطة والحاقدة» التي جاءت على لسان الرئيس الفرنسي.
وتنفي الحكومة والمجلس العسكري استدعاء «فاغنر»، بينما تفيد الشهادات الحية بعكس ذلك تماماً. والمعلوم أن باماكو طلبت خروج القوات الفرنسية من البلاد بعد أشهر قليلة من وصول الميليشيا الروسية ونقض الاتفاق الدفاعي الذي كان يربط الطرفين.
كذلك تتهم الحكومة المالية باريس باستخدام مجموعة دول غرب أفريقيا لمعاقبتها. وكانت هذه المجموعة فرضت منذ بداية العام الحالي عقوبات قاسية على باماكو اقتصادية وتجارية. إلا أنها تخلت عنها بداية يوليو (تموز) الماضي.
وأكد ماكرون في بيساو، عاصمة غينيا - بيساو أن فرنسا «مستمرة في توظيف عملها في المنطقة (غرب أفريقيا) في خدمة الدول التي تتمتع بالسيادة وبالحكومات الشرعية».
وليس سراً أن باريس لا تعتبر المجلس العسكري ولا الحكومة المالية شرعيين. وكانت باماكو ردت على باريس بالطلب من السفير الفرنسي مغادرة البلاد، وعمدت إلى منع وسيلتين إعلاميتين فرنسيتين؛ هما القناة الإخبارية «فرنس 24» وإذاعة فرنسا الدولية، متهمة إياهما بالتصرف كإذاعة «ألف رابية» الرواندية التي كانت تدعو للتخلص من التوتسي في عام 1994.
هكذا تبدو اليوم صورة الوضع بين باريس وباماكو. وبعد أن كانت فرنسا تركز عملها الأمني على احتواء ودحر المجموعات الإرهابية والمتطرفة في مالي والمساعدة في تمكين الدولة من بسط هيمنتها على أراضيها، تجد باريس نفسها اليوم خارج هذا البلد، وقد تخلت عن كل القواعد العسكرية التي كانت تشغلها (باستثناء واحدة)، وسحبت غالبية قواتها مع أسلحتها ونقلت جزءاً منها إلى النيجر المجاورة.
ومشكلة باريس أن رغبتها في مواصلة محاربة الإرهاب بمنطقة الساحل وعرض خدماتها على بلدان ما يسمى «خليج غينيا»، أنها أصبحت خارج المسرح الأساسي للأنشطة الإرهابية، وبالتالي تجد نفسها عاجزة بعد اليوم عن القيام بأي عملية داخل الأراضي المالية ضد التنظيمات المتطرفة والإرهابية التي حاربتها طيلة تسع سنوات. كذلك، فإن الجهود التي بذلتها وزارة الدفاع الفرنسية لإقناع شركاء أوروبيين لمد يد المساعدة لها عن طريق تشكيل قوة الكوماندوس «تاكوبا» ذهبت أدراج الرياح، لأن انسحاب قوة «برخان» أفضى، كما كان متوقعاً إلى انسحاب «تاكوبا» وحلها، ما يترك الباب مفتوحاً للتنظيمات المشار إليها لتسرح وتمرح، فيما قناعة باريس أن استعداء «فاغنر» غرضه الأول حماية النظام العسكري وليس محاربة الإرهاب.


مقالات ذات صلة

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

شؤون إقليمية فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

ندّدت فرنسا باحتجاز البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط «نيوفي» التي ترفع عَلَم بنما، في مضيق هرمز الاستراتيجي، وذلك صبيحة الثالث من مايو (أيار)، وفق المعلومات التي أذاعها الأسطول الخامس، التابع لـ«البحرية» الأميركية، وأكدها الادعاء الإيراني. وأعربت آن كلير لوجندر، الناطقة باسم «الخارجية» الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي، أمس، أن فرنسا «تعرب عن قلقها العميق لقيام إيران باحتجاز ناقلة نفطية» في مياه الخليج، داعية طهران إلى «الإفراج عن الناقلات المحتجَزة لديها في أسرع وقت».

ميشال أبونجم (باريس)
العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي»  بالألعاب النارية

طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي» بالألعاب النارية

يستخدم فريق أساليب جديدة بينها الألعاب النارية ومجموعة أصوات لطرد الطيور من مطار أورلي الفرنسي لمنعها من التسبب بمشاكل وأعطال في الطائرات، حسب وكالة الصحافة الفرنسية. وتطلق كولين بليسي وهي تضع خوذة مانعة للضجيج ونظارات واقية وتحمل مسدساً، النار في الهواء، فيصدر صوت صفير ثم فرقعة، مما يؤدي إلى فرار الطيور الجارحة بعيداً عن المدرج. وتوضح "إنها ألعاب نارية. لم تُصنّع بهدف قتل الطيور بل لإحداث ضجيج" وإخافتها. وتعمل بليسي كطاردة للطيور، وهي مهنة غير معروفة كثيراً لكنّها ضرورية في المطارات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

تتجه الأنظار اليوم إلى فرنسا لمعرفة مصير طلب الموافقة على «الاستفتاء بمبادرة مشتركة» الذي تقدمت به مجموعة من نواب اليسار والخضر إلى المجلس الدستوري الذي سيصدر فتواه عصر اليوم. وثمة مخاوف من أن رفضه سيفضي إلى تجمعات ومظاهرات كما حصل لدى رفض طلب مماثل أواسط الشهر الماضي. وتداعت النقابات للتجمع أمام مقر المجلس الواقع وسط العاصمة وقريباً من مبنى الأوبرا نحو الخامسة بعد الظهر «مسلحين» بقرع الطناجر لإسماع رفضهم السير بقانون تعديل نظام التقاعد الجديد. ويتيح تعديل دستوري أُقرّ في العام 2008، في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، طلب إجراء استفتاء صادر عن خمسة أعضاء مجلس النواب والشيوخ.

ميشال أبونجم (باريس)
«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

عناصر أمن أمام محطة للدراجات في باريس اشتعلت فيها النيران خلال تجدد المظاهرات أمس. وأعادت مناسبة «يوم العمال» الزخم للاحتجاجات الرافضة إصلاح نظام التقاعد الذي أقرّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)


روته: يجب على «الناتو» تبني «عقلية الحرب» في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا

TT

روته: يجب على «الناتو» تبني «عقلية الحرب» في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا

صورة التُقطت 4 ديسمبر 2024 في بروكسل ببلجيكا تظهر الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)
صورة التُقطت 4 ديسمبر 2024 في بروكسل ببلجيكا تظهر الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)

وجّه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته، الخميس، تحذيراً قوياً بشأن ضرورة «زيادة» الإنفاق الدفاعي، قائلاً إن الدول الأوروبية في حاجة إلى بذل مزيد من الجهود «لمنع الحرب الكبرى التالية» مع تنامي التهديد الروسي، وقال إن الحلف يحتاج إلى التحول إلى «عقلية الحرب» في مواجهة العدوان المتزايد من روسيا والتهديدات الجديدة من الصين.

وقال روته في كلمة ألقاها في بروكسل: «نحن لسنا مستعدين لما ينتظرنا خلال أربع أو خمس سنوات»، مضيفاً: «الخطر يتجه نحونا بسرعة كبيرة»، وفق «وكالة الصحافة الفرنسية».

وتحدّث روته في فعالية نظمها مركز بحثي في بروكسل تهدف إلى إطلاق نقاش حول الاستثمار العسكري.

جنود أميركيون من حلف «الناتو» في منطقة قريبة من أورزيسز في بولندا 13 أبريل 2017 (رويترز)

ويتعين على حلفاء «الناتو» استثمار ما لا يقل عن 2 في المائة من إجمالي ناتجهم المحلي في مجال الدفاع، لكن الأعضاء الأوروبيين وكندا لم يصلوا غالباً في الماضي إلى هذه النسبة.

وقد انتقدت الولايات المتحدة مراراً الحلفاء الذين لم يستثمروا بما يكفي، وهي قضية تم طرحها بشكل خاص خلال الإدارة الأولى للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

وأضاف روته أن الاقتصاد الروسي في «حالة حرب»، مشيراً إلى أنه في عام 2025، سيبلغ إجمالي الإنفاق العسكري 7 - 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد - وهو أعلى مستوى له منذ الحرب الباردة.

وبينما أشار روته إلى أن الإنفاق الدفاعي ارتفع عما كان عليه قبل 10 سنوات، عندما تحرك «الناتو» لأول مرة لزيادة الاستثمار بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم من طرف واحد، غير أنه قال إن الحلفاء ما زالوا ينفقون أقل مما كانوا ينفقونه خلال الحرب الباردة، رغم أن المخاطر التي يواجهها حلف شمال الأطلسي هي «بالقدر نفسه من الضخامة إن لم تكن أكبر» (من مرحلة الحرب الباردة). واعتبر أن النسبة الحالية من الإنفاق الدفاعي من الناتج المحلي الإجمالي والتي تبلغ 2 في المائة ليست كافية على الإطلاق.

خلال تحليق لمقاتلات تابعة للـ«ناتو» فوق رومانيا 11 يونيو 2024 (رويترز)

وذكر روته أنه خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، أنفق الأوروبيون أكثر من 3 في المائة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، غير أنه رفض اقتراح هذا الرقم هدفاً جديداً.

وسلَّط روته الضوء على الإنفاق الحكومي الأوروبي الحالي على معاشات التقاعد وأنظمة الرعاية الصحية وخدمات الرعاية الاجتماعية مصدراً محتملاً للتمويل.

واستطرد: «نحن في حاجة إلى جزء صغير من هذه الأموال لجعل دفاعاتنا أقوى بكثير، وللحفاظ على أسلوب حياتنا».