قليلةٌ هي الأشياء التي تُشعر الإنسان بالفرحة الاستثنائية، مثل تلك التي يجلبها المولود الجديد. ويثير أولادنا فينا أعمق الأحلام، ويحملون أرفع ما لدينا من الآمال. لذلك يجب أن نعرف أن تطور الإمكانات في الطفولة يحصل غالباً في مراحل النمو المبكّرة، وهذا الأمر ينطبق على الدماغ البشري خصوصاً.
دماغ الأطفال
يولد الأطفال مع مجموعة متكاملة من خلايا الدماغ، تتألّف من نحو 100 مليار خلية عصبية (عصبون). ينمو حجم الدماغ بمعدّل 4 أضعاف، من الولادة حتّى مرحلة البلوغ، ويحصل معظم هذا النموّ في السنوات الأولى من حياة الطفل، إذ يتضاعف حجم الدماغ في السنة الأولى، ثم يصل في سنّ الخامسة إلى 90 في المائة من حجمه الكامل عند البلوغ.
لكن إذا كانت الخلايا العصبية جميعها موجودة أصلاً في الدماغ، فما تفسير هذا النموّ الهائل؟ يعود السبب غالباً إلى الشبكة التي تصل هذه الخلايا العصبية بعضها ببعض، لتتيح للإشارات العصبية الانتقال من خليّة إلى أخرى مجاورة، ومن المشابك العصبية إلى الدوائر. عند الولادة، يبلغ عدد المشابك العصبية synapses 2500 في الخلية الواحدة، ويرتفع إلى 15 ألفاً في السنة الثانية أو الثالثة. ويعتمد النمو المهول للمفاصل الشبكية بين الخلايا العصبية على الانتشار المتسارع للتغصّنات (التشعبات أو الزائدة الشجرية) dendrites، أي المحلاق tendril العصبي الذي يستقبل الموجات من محور خلية عصبية أخرى.
يبدأ تكوّن الخلايا العصبية في الأسبوع السابع من الحمل، وبعد اكتمالها، تهاجر الخلية إلى مكانها في الدماغ، حيث ينمو لها تغصّنات وألياف تبرز من هيكلها الخلوي. يكتمل تكوّن الأعصاب تقريباً عند الولادة، بينما ينشط نمو التغصّنات والألياف بعدها.
وفي طريقة معقّدة لا تزال قيد الدراسة، تشكّل مجموعات من الخلايا العصبية ممرّات ودوائر، مهمّتها تأدية عمل الدماغ. تعتمد هذه المعالجة بشكلٍ كبير على الطاقة التي يتزوّد بها الطفل من محيطه، أي تجاربه المبكرة، ويعدّ التفاعل البشري واحداً من أبرز مصادر هذه الطاقة، ما يعني أنّ العناية الداعمة والتحفيز في السنوات الأولى من حياة الصغار يساهمان حرفياً في تكوين شبكات الدماغ، ويتحمّلان جزءاً كبيراً من مسؤولية نمو التشعّب التغصّني، شرط توفّر الأغذية الضرورية طبعاً.
العناية المبكرة
يُعدّ الأساس الهيكلي والوظيفي الذي تبنيه العناية المبكّرة؛ خصوصاً العلاقة بين الطفل والمسؤول عن العناية به، واحداً من أسباب التأثير طويل الأمد الذي تتركه التجارب على السلوك، وهكذا تمهّد التفاعلات المبكرة الطريق للتفاعلات المستقبلية. ويعجّ النموّ المبكّر للدماغ بالإمكانات، إذ تتكوّن المشابك العصبية بأعداد هائلة، ويُصار إلى التخلّص من غير النشطة منها لاحقاً، فضلاً عن أنّ الدماغ يتخلّص من نصف خلاياه خلال الطفولة والمراهقة.
هذا ما يُعرف بالتخلّق الشبكي Synaptogenesis (خلق المشابك بين الخلايا العصبية)، لكن توجد عملية مبكرة أخرى كامنة خلف القدرات الدماغية اللاحقة، وهي إفراز الميالين (النخاعين) Myelin، المادّة الدهنية التي تغطّي الألياف العصبية وتؤدّي دور المادّة العازلة التي تسرّع انتقال الموجات، وتمنح المادّة البيضاء في الدماغ (التي تتكوّن بجزءٍ كبيرٍ منها من المقذوفات العصبية) شكلها الخارجي.
يولد البشر بنظام عصبي مركزي خالٍ من الميالين. وتحصل عملية فرز هذه المادّة بالتزامن مع نموّ الدوائر الدماغية، وتكون في أوجّ قوّتها في السنوات الأولى من حياة الإنسان. وتبدأ عملية فرز الميالين في الفصوص الجبهية في عمر 6 أشهر، وتستمرّ حتّى المراهقة، وترتبط بشكلٍ مباشر بنموّ المعالجات الإدراكية وسرعات المعالجة الدماغية في الطفولة.
أغذية تعزز الدماغ
في البداية، يوفّر حليب الأمّ المكوّنات الغذائية والهرمونية الضرورية للنموّ، وتحضّر عملية الرضاعة الطبيعية الأرضية للانخراط الاجتماعي والتحفيز. * حليب الأم الطبيعي. يعرف بغناه بالأغذية التي تدخل في إنتاج الميالين، إلّا أنّ الأمهات المرضعات قد يفتقرن إلى بعض أنواع الأغذية، في ظلّ تطوّر الحاجات الغذائية المرتبطة بالأعصاب بسرعة عند الأطفال.
* فيتامينات «بي». في البداية، حتّى قبل تكوّن الخلايا العصبية، ينشأ الدماغ على شكل أنبوب عصبي جنيني، ويعدّ «فيتامين بي» غذاءً مهماً جداً لتكوّن هذا الأنبوب، وتحديداً النوعين «بي 9» (حمض الفوليك) و«بي 12» (الكوبالامين). ويمكن للنقص الحاد في «فيتامين بي» على أنواعه خلال الحمل أن يؤدّي إلى تعطّل نمو الدماغ الناشئ، وهذا ما دفع إلى إنتاج حبوبٍ مقوّاة بالفولات. ويُعتقد أيضاً أنّ نقص الأغذية في مرحلة مبكّرة من حياة الإنسان يمكن أن يؤثّر على تشكّل التغصّنات وعملية إنتاج الميالين.
تنطوي التغذية عامةً على أهميّة كبيرة بالنسبة لنمو الدماغ، كما الجسم، لأنّ النموّ غير الصحيح يمكن أن يؤدّي إلى ولادة أطفال بدماغ أصغر، وبمحتوى أقلّ من الحمض النووي والحمض النووي الريبي، وعددٍ أقلّ من الخلايا العصبية والشجيرات الغصنية، ومستويات منخفضة من الناقلات العصبية وعوامل النمو الدماغي.
* أحماض دهنية. يحتاج الدماغ لنموّه لأحماض دهنية متعددة غير مشبعة طويلة السلسلة، وأبرزها حمض الدوكوساهكساينويك وحمض الأراكيدونيك، اللذان يُنشّطان النمو العصبي وتطوّر المادّة البيضاء، ويساهمان بشكلٍ بنيوي في إنتاج الميالين، ويحفّزان نضوج الشبكات العصبية والنقل العصبي بينها.
تتميّز الفصوص الجبهية الأمامية (قواعد النشاطات الإدراكية المهمّة والتنظيم العاطفي) بغناها بحمض الدوكوساهكساينويك، أي أحد أبرز مكوّنات أغشية الخلايا العصبية، والمسهّل بدوره هذا لوظائف الخلايا، وحامي أنسجة الدماغ من الإجهاد التأكسدي. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ استهلاك حمض الدوكوساهكساينويك - المتوفّر في الأسماك الدهنية - منخفض لدى الأطفال الصغار، وتبيّن في عددٍ من الدراسات أنّ تناوله على شكل مكمّلات غذائية يحسّن بعض الجوانب الإدراكية والأداء المدرسي.
أهمية الحديد
يُعدّ الحديد من العناصر الغذائية الضرورية أيضاً، ويجب الحصول عليه في الأوقات الصحيحة، لأنّه على قدرٍ بالغٍ من الأهميّة للإنزيم الذي ينظّم انقسام وتكاثر الخلايا في الجهاز العصبي المركزي، ويؤثّر بشكلٍ خاص على نمو الحصين الذي يلعب دوراً بارزاً في التعلّم والذاكرة. ويؤدّي النقص المبكّر في الحديد إلى تقزيم نموّ التغصّنات، واضطراب إنتاج الميالين، وتقليل فاعلية الحصين. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النقص غير قابل للتعويض لاحقاً. بدورها، تحتاج عملية تكوين الدوبامين وغيره من الناقلات العصبية إلى نسبة محدّدة من الحديد.
يعدّ نقص الحديد المشكلة الغذائية الكبرى في العالم، إذ تشير الإحصاءات إلى أنّه يصيب 30 في المائة من الأطفال في عمر السنة والسنتين. ويحتوي حليب الرضاعة على كمية ضئيلة من الحديد، ما يعرّض الأطفال الذين يتغذّون بالرضاعة الطبيعية لخطر أكبر من غيرهم بالمعاناة من نقص الحديد بعد شهرهم الرابع.
يسير النمو البشري وفقاً لجدولٍ طَبَعي، حيث توجد فترات زمنية دقيقة وحسّاسة لنموّ بُنًى أساسية في الدماغ. ويعتمد النشاط الإدراكي على توفر المستويات الكافية والمناسبة من الأغذية، في وقتها الصحيح من السنوات الأولى لحياة الإنسان.
* «سايكولوجي توداي»
- خدمات «تريبيون ميديا»