هل تتطلب معالجة التضخم في الولايات المتحدة «صدمة فولكرية» جديدة؟

بول فولكر (أرشيفية - رويترز)
بول فولكر (أرشيفية - رويترز)
TT

هل تتطلب معالجة التضخم في الولايات المتحدة «صدمة فولكرية» جديدة؟

بول فولكر (أرشيفية - رويترز)
بول فولكر (أرشيفية - رويترز)

لكل حرب تداعياتها الاقتصادية التي تختلف من حيث الحجم باختلاف مدى الحرب ومدتها. وبالتالي لا بد أن يكون لحرب أوكرانيا آثار كبيرة، خصوصاً أن طرفيها منتجان أساسيان للحبوب، وروسيا مصدر ضخم للنفط والغاز.
من الطبيعي أن ينظر العالم كله بقلق إلى المسرح المباشر للحرب، أي أوروبا التي تعاني الكثير وينتظرها أكثر مع حلول موسم البرد في ظل شحّ الغاز. لكن من الطبيعي أيضاً أن ينظر العالم بقلق أكبر إلى الاقتصاد الأول في العالم، الاقتصاد الأميركي المضطرب في ظل ارتفاع التضخم إلى ما فوق 9%، وهي أعلى نسبة في أربعة عقود.
ليس مهماً أن تحاول الإدارة الأميركية طمأنة الجمهور، فالكلام السياسي لا يلغي لغة الأرقام. وفي أي حال، ينشغل الاقتصاديون في مناقشة المقاربة التي يجب أن يعتمدها الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) للجم التضخم وإعادة دورة العرض والطلب إلى وتيرتها السويّة. فهل على رئيس البنك جيروم باول أن يتصدى بقوة و«شراسة» للمشكلة عبر رفع أسعار الفائدة لإبطاء الاستهلاك (الطلب) وبالتالي خفض الأسعار (العرض)؟ أم أن هذه الطريقة «الكلاسيكية» التي اعتمدها بول فولكر لن تنجح هذه المرة؟
متسوقون في أحد متاجر مانهاتن (رويترز)
*من هو بول فولكر؟
ربما كان بول فولكر (1927 – 2019) أشهر من تولى إدارة الاحتياطي الفدرالي (1979 – 1987) على الإطلاق، وشمل عمله عهدي الرئيسين جيمي كارتر ورونالد ريغان. وقد نجح في التعامل مع أزمة تضخم ضربت أسس الاقتصاد الأميركي وأدت إلى تراجع المستوى المعيشي وتعاظم أرقام البطالة.
قبل منتصف ستينات القرن العشرين، كان التضخم في الولايات المتحدة ثابتاً إلى حد كبير عند نسبة 2%، لكن الوضع راح يتغير عندما بدأ الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون والكونغرس تطبيق زيادات كبيرة في الإنفاق، لمواجهة الفقر والتداعيات الاقتصادية لحرب فيتنام.
وفي حين مُوّل جزء من زيادة الإنفاق عبر إقرار ضرائب جديدة، فإن الجزء الأكبر كانت تغطيه خزينة الدولة الفدرالية، وبالتالي اتسع عجز المالية العامة، وفي موازاة ذلك ارتفع معدل التضخم تدريجياً. وساءت الأمور في عهد الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، مع استمرار حرب فيتنام المكلفة. وما زاد الطين بلّة أن نيكسون قرر في العام 1971 إنهاء نظام قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وهو النظام الذي كان معمولاً به منذ العام 1944، وجذب الدول الغربية إلى ربط عملتها بالدولار على أساس تعهّد واشنطن إبدال كل 35 دولاراً بأونصة من الذهب.
لم يتخذ نيكسون هذه الخطوة إلا بعد الاستماع إلى عدد من المستشارين والخبراء، ومن بينهم مساعد وزير الخزانة آنذاك بول فولكر.
عام 1973، ومع الحظر النفطي الذي فرضته أوبك على الدول الغربية التي ساندت إسرائيل في الحرب، ارتفعت أسعار الوقود بشكل كبير في أوروبا والولايات المتحدة حيث وصل مستوى التضخم إلى ما بين 6 و7%. وعندما تسلم فولكر دفّة الاحتياط الفدرالي عام 1979، كان الاقتصاد الأميركي منهكاً ويحتاج إلى «جراحة» عاجلة.
بعد بضع زيادات متواضعة لأسعار الفائدة في الشهر الأول من ولاية فولكر، دعا الرجل إلى اجتماع مفاجئ في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1979، استخدم فيه «مبضعه»، وأقنع مجلس الاحتياط الفدرالي برفع أسعار الفائدة بشكل جذري إلى 13.7%، وتدرّجت الارتفاعات صولاً إلى نحو 20% عام 1981.
من مسلّمات ديناميكيات الاقتصاد أن أسعار الفائدة المرتفعة تؤدي إلى خفض التضخم عن طريق تقليل الإنفاق، مما يؤدي في المقابل إلى إبطاء الاقتصاد وارتفاع أرقام البطالة. وقد تسببت سياسة فولكر بأزمتي ركود في الولايات المتحدة عامي 1980 و1981، غير أنهما كانتا أزمتين مقصودتين، أمكن بعدهما تخفيف قيود السياسة النقدية وإطلاق عجلة الاقتصاد بعد وضعه على السكة السليمة.
وعندما ترك فولكر منصبه في أغسطس (آب) 1987، كان التضخم قد تراجع إلى 3.4 في المائة من ذروته البالغة 9.8 في المائة في عام 1981. ومنذ ذلك الحين، لم يتجاوز معدل التضخم في الولايات المتحدة 5 في المائة، إلى أن انقلبت الأوضاع هذه السنة.
لعل ما يلخّص سجل بول فولكر أو إرثه في التاريخ الأميركي الحديث أنه أثبت استقلال قراره كمسؤول اقتصادي وأقدم على خطوات غير شعبية ومرفوضة سياسياً، لكنها مفيدة اقتصادياً وإن بعد مخاض مؤلم.
جيروم باول (رويترز)
*ماذا سيفعل جيروم باول؟
هل يقدم الرئيس الحالي للاحتياط الفدرالي جيروم باول على ما أقدم عليه بول فولكر؟
من الطبيعي أن يحتدم النقاش وتتعارض الآراء في هذه المسألة، بين مؤيد لرفع الفوائد بشكل جذري، ومتخوف من آثار التقييد المالي على دورة الإنتاج.
الرأي الأول هو ما اعتمده بول فولكر. أما الثاني فيرى وجوب التسيير المالي عبر زيادة الإنفاق العام، بغية تحريك لعبة العرض والطلب، وبالتالي تنشيط دورة الإنتاج وإحداث فرص عمل.
ولعل النقص في المقاربة «الفولكرية» أن رفع الفائدة سيفاقم حتما مشكلة البطالة، لكنه لن يؤدي بالضرورة إلى خفض التضخم في المدى القريب، خصوصاً أن المعضلة لا تتعلق بعناصر الاقتصاد الأميركي وحدها، بل بعوامل خارجية أيضاً على رأسها الحرب الأوكرانية وما تسببه من أزمة غاز وغذاء، واحتمال حصول موجة جديدة من انتشار «كوفيد - 19»، وسوى ذلك...
في أحدث الأنباء، يُتوقّع على نطاق واسع أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة الرئيسي إلى نحو 2.4٪. ولئن كان هذا الرقم معتدلاً ولا يقارَن بما حصل قبل أربعة عقود، فإنه يمثل مع ذلك أحد أسرع التغييرات على الإطلاق في السياسة النقدية الأميركية، فقبل أربعة أشهر كان معدل الفائدة يقترب من الصفر وكان الاحتياطي الفيدرالي يشتري سندات بمليارات الدولارات شهريًا لمساعدة الاقتصاد على التعافي من آثار الجائحة.
خلاصة القول أن السياسة النقدية الأميركية حيال التضخم تبدو حالياً محافظة ومتحفظة، لكن إذا استمر التضخم ونزف الوظائف، وتصاعد بالتالي التململ الشعبي، قد يقتضي الأمر صدمة «فولكرية» جديدة ستترد أصداؤها وتداعايتها في أرجاء الاقتصاد العالمي.


مقالات ذات صلة

«الفيدرالي» على وشك خفض الفائدة مجدداً يوم الأربعاء

الاقتصاد مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)

«الفيدرالي» على وشك خفض الفائدة مجدداً يوم الأربعاء

من المتوقع على نطاق واسع أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي تكاليف الاقتراض خلال اجتماعه يوم الأربعاء المقبل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)

ترمب يدرس خصخصة خدمة البريد وسط خسائر مالية ضخمة

يبدي الرئيس المنتخب دونالد ترمب اهتماماً بالغاً بخصخصة خدمة البريد الأميركية في الأسابيع الأخيرة، وهي خطوة قد تُحْدث تغييرات جذرية في سلاسل الشحن الاستهلاكي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
الاقتصاد أعلام أميركية خارج بورصة نيويورك (رويترز)

ارتفاع تقييمات الأسهم الأميركية يثير مخاوف المستثمرين من تصحيح وشيك

تتزايد المخاوف في الأسواق المالية بعد الارتفاعات الكبيرة في تقييمات الأسهم الأميركية في الأسابيع الأخيرة؛ ما يشير إلى أن السوق قد تكون على وشك تصحيح.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ شعار شركة ديلويت المسؤولة عن البوابة الإلكترونية للولاية (وسائل إعلام محلية)

اختراق معلومات شخصية ومصرفية لمئات الآلاف من سكان ولاية أميركية

اخترقت مجموعة دولية من المجرمين المعلومات الشخصية والمصرفية لمئات الآلاف من سكان ولاية رود آيلاند الأميركية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

خاص قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

يقف عام 2025 عند منعطف محوري مع تنامي المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة والصين ووسط استمرار التوترات الجيوسياسية.

هلا صغبيني (الرياض)

إنشاء 18 منطقة لوجيستية في السعودية باستثمارات تتجاوز 2.6 مليار دولار

وزير النقل والخدمات اللوجيستية متحدثاً للحضور في «مؤتمر سلاسل الإمداد والخدمات اللوجيستية»... (الشرق الأوسط)
وزير النقل والخدمات اللوجيستية متحدثاً للحضور في «مؤتمر سلاسل الإمداد والخدمات اللوجيستية»... (الشرق الأوسط)
TT

إنشاء 18 منطقة لوجيستية في السعودية باستثمارات تتجاوز 2.6 مليار دولار

وزير النقل والخدمات اللوجيستية متحدثاً للحضور في «مؤتمر سلاسل الإمداد والخدمات اللوجيستية»... (الشرق الأوسط)
وزير النقل والخدمات اللوجيستية متحدثاً للحضور في «مؤتمر سلاسل الإمداد والخدمات اللوجيستية»... (الشرق الأوسط)

أعلن وزير النقل والخدمات اللوجيستية السعودي، المهندس صالح الجاسر، عن تحقيق الموانئ تقدماً كبيراً بإضافة 231.7 نقطة في مؤشر اتصال شبكة الملاحة البحرية، وفق تقرير «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)» لعام 2024، إلى جانب إدخال 30 خطاً بحرياً جديداً للشحن.

كما كشف عن توقيع عقود لإنشاء 18 منطقة لوجيستية باستثمارات تتجاوز 10 مليارات ريال (2.6 مليار دولار).

جاء حديث المهندس الجاسر خلال افتتاح النسخة السادسة من «مؤتمر سلاسل الإمداد والخدمات اللوجيستية»، في الرياض، الذي يهدف إلى تعزيز التكامل بين أنماط النقل ورفع كفاءة الخدمات اللوجيستية، ويأتي ضمن مساعي البلاد لتعزيز موقعها مركزاً لوجيستياً عالمياً.

وقال الوزير السعودي، خلال كلمته الافتتاحية في المؤتمر، إن «كبرى الشركات العالمية تواصل إقبالها على الاستثمار في القطاع اللوجيستي؛ من القطاع الخاص المحلي والدولي، لإنشاء عدد من المناطق اللوجيستية».

يستضيف المؤتمر، الذي يقام يومي 15 و16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، عدداً من الخبراء العالميين والمختصين، بهدف طرح التجارب حول أفضل الطرق وأحدث الممارسات لتحسين أداء سلاسل الإمداد ورفع كفاءتها. كما استُحدثت منصة تهدف إلى تمكين المرأة في القطاع من خلال الفرص التدريبية والتطويرية.

وأبان الجاسر أن منظومة النقل والخدمات اللوجيستية «ستواصل السعي الحثيث والعمل للوصول بعدد المناطق اللوجيستية في السعودية إلى 59 منطقة بحلول 2030، من أصل 22 منطقة قائمة حالياً، لتعزيز القدرة التنافسية للمملكة ودعم الحركة التجارية».

وتحقيقاً لتكامل أنماط النقل ورفع كفاءة العمليات اللوجيستية، أفصح الجاسر عن «نجاح تطبيق أولى مراحل الربط اللوجيستي بين الموانئ والمطارات والسكك الحديدية بآليات وبروتوكولات عمل متناغمة؛ لتحقيق انسيابية حركة البضائع بحراً وجواً وبراً، بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة، ودعم العمليات والخدمات اللوجيستية وترسيخ مكانة المملكة مركزاً لوجيستياً عالمياً».

وخلال جلسة بعنوان «دور الازدهار اللوجيستي في تعزيز أعمال سلاسل الإمداد بالمملكة وتحقيق التنافسية العالمية وفق (رؤية 2030)»، أضاف الجاسر أن «الشركة السعودية للخطوط الحديدية (سار)» تعمل على تنفيذ ازدواج وتوسعة لـ«قطار الشمال» بما يتجاوز 5 مليارات ريال (1.3 مليار دولار)، وذلك مواكبةً للتوسعات المستقبلية في مجال التعدين بالسعودية.

إعادة التصدير

من جهته، أوضح وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي، بندر الخريف، أن السعودية سجلت في العام الحالي صادرات بلغت 61 مليار ريال (16.2 مليار دولار) من قطاع إعادة التصدير، بنمو قدره 23 في المائة مقارنة بالعام الماضي، «وهو ما تحقق بفضل البنية التحتية القوية والتكامل بين الجهات المعنية التي أسهمت في تقديم خدمات عالية الكفاءة».

وأشار، خلال مشاركته في جلسة حوارية، إلى أن شركة «معادن» صدّرت ما قيمته 7 مليارات ريال (1.8 مليار دولار) من منتجاتها، «وتحتل السعودية حالياً المركز الرابع عالمياً في صادرات الأسمدة، مع خطط لتحقيق المركز الأول في المستقبل».

جلسة حوارية تضم وزير النقل المهندس صالح الجاسر ووزير الصناعة والثروة المعدنية بندر الخريف (الشرق الأوسط)

وبين الخريف أن البلاد «تتمتع بسوق محلية قوية، إلى جانب تعزيز الشركات العالمية استثماراتها في السعودية، والقوة الشرائية الممتازة في منطقة الخليج»، مما يرفع معدلات التنمية، مبيناً أن «قوة السعودية في المشاركة الفاعلة بسلاسل الإمداد تأتي بفضل الموارد الطبيعية التي تمتلكها. وسلاسل الإمداد تساهم في خفض التكاليف على المصنعين والمستثمرين، مما يعزز التنافسية المحلية».

وفي كلمة له، أفاد نائب رئيس «أرامكو السعودية» للمشتريات وإدارة سلاسل الإمداد، المهندس سليمان الربيعان، بأن برنامج «اكتفاء»، الذي يهدف إلى تعزيز القيمة المُضافة الإجمالية لقطاع التوريد في البلاد، «أسهم في بناء قاعدة تضم أكثر من 3 آلاف مورد ومقدم خدمات محلية، وبناء سلاسل إمداد قوية داخل البلاد؛ الأمر الذي يمكّن الشركة في الاستمرار في إمداد الطاقة بموثوقية خلال الأزمات والاضطرابات في الأسواق العالمية».

توقيع 86 اتفاقية

إلى ذلك، شهد «مؤتمر سلاسل الإمداد والخدمات اللوجيستية» في يومه الأول توقيع 86 اتفاقية؛ بهدف تعزيز أداء سلاسل الإمداد، كما يضم معرضاً مصاحباً لـ65 شركة دولية ومحلية، بالإضافة إلى 8 ورشات عمل تخصصية.

جولة لوزيرَي النقل والخدمات اللوجيستية والصناعة والثروة المعدنية في المعرض المصاحب للمؤتمر (الشرق الأوسط)

وتسعى السعودية إلى لعب دور فاعل على المستوى العالمي في قطاع الخدمات اللوجيستية وسلاسل التوريد، حيث عملت على تنفيذ حزمة من الإصلاحات الهيكلية والإنجازات التشغيلية خلال الفترة الماضية، مما ساهم في تقدمها 17 مرتبة على (المؤشر اللوجيستي العالمي) الصادر عن (البنك الدولي)، وساعد على زيادة استثمارات كبرى الشركات العالمية في الموانئ السعودية».