وصل البابا فرنسيس، أمس الأحد، إلى كندا في رحلة «توبة» يفترض أن يجدد خلالها طلب الصفح عن دور الكنيسة الكاثوليكية في مأساة المدارس الداخلية للسكان الأصليين.
وحطّت الطائرة البابوية قرابة الظهر في مطار إدمونتون في مقاطعة ألبرتا غرب كندا، واستقبله في المطار رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، والحاكمة العامة لكندا ماري سيمون ممثلة الملكة إليزابيث الثانية ومسؤولون دينيون. وخلال الرحلة، قال الحبر الأعظم، البالغ 85 عاماً، لصحافيين يرافقونه «إنها رحلة توبة».
وستخصص هذه الزيارة في المقام الأول للسكان الأصليين الذين يمثلون خمسة في المائة من سكان كندا. وقبيل مغادرته، وجه البابا رسالة عبر «تويتر» إلى «إخوانه وأخواته الأعزاء في كندا»؛ وكتب: «آتي إليكم للقاء السكان الأصليين. آمل، بعون الله، أن تسهم رحلة التوبة التي أقوم بها في طريق المصالحة التي بدأت. أرجو أن ترافقوني بالصلاة».
بين نهاية القرن التاسع عشر وتسعينيات القرن العشرين، سُجل، عنوة، زهاء 150 ألف طفل من السكان الأصليين بشكل قسري في أكثر من 130 مدرسة داخلية مدعومة من الدولة تدير معظمها الكنيسة الكاثوليكية. وقد فصل هؤلاء الأطفال عن أسرهم وعزلوا عن لغتهم وثقافتهم، وغالباً ما كانوا ضحايا لأعمال عنف، في بعض الأحيان جنسية. وكان العديد من هؤلاء الأطفال ضحايا سوء معاملة واغتصاب وسوء تغذية، مما أدى في المحصلة إلى وفاة زهاء ستة آلاف طفل، مما اعتبرته لجنة تحقيق وطنية «إبادة جماعية ثقافية»، وشكل صدمة دفعت السلطات إلى إعلان «يوم مصالحة» وطني.
وتنتظر مجموعات السكان الأصليين زيارة البابا بفارغ الصبر على أمل أن يجدد اعتذاراته التاريخية التي عبر عنها في أبريل (نيسان) في الفاتيكان. ومن المتوقع أن يقوم البابا بمبادرات رمزية، من بينها إعادة عدد من القطع العائدة للشعوب الأصلية والمعروضة في متاحف الفاتيكان منذ عقود. وقال جورج أركاند جونيور، الرئيس الأكبر لـ«اتحاد الشعوب الأصلية في كونفدرالية المعاهدة 6» في مؤتمر صحافي الخميس في إدمونتون، إن «هذه الرحلة التاريخية جزء مهم من رحلة الشفاء»، لكن «ما زال يتعين القيام بالكثير». فيما حذر إيرفين بول، زعيم قبائل «لويس بول كري»، من أن «الزيارة قد تؤدي إلى فتح جروح ناجين».
وسيلتقي البابا أفراداً من السكان الأصليين للمرة الأولى اليوم في ماسكواسيس التي تبعد نحو مائة كيلومتر جنوب إدمونتون عاصمة مقاطعة ألبرتا، حيث ينتظر حضور نحو 15 ألف شخص. وكانت ألبرتا تضم أكبر عدد من المدارس الداخلية. وتشهد كندا، التي يشكل الكاثوليك 44 في المائة من سكانها، مثل بلدان أخرى أزمة مع الكنيسة، مع تراجع حاد في المشاركة في ممارسة الشعائر في السنوات الأخيرة.
وتتضمن الزيارة في مجملها، ما لا يقل عن خمس مراحل تفصل بينها آلاف الكيلومترات بين مقاطعتي كيبيك في الشرق وألبرتا في الغرب وإقليم نونافوت للسكان الأصليين في الشمال.
وبعد أن اعتذر رأس الكنيسة الكاثوليكية مطلع أبريل الماضي عن «السلوك الباعث على الأسى» لبعض أعضاء كنيسته المتورطين في ملف المدارس الداخلية، أراد تقديم الاعتذار شخصياً لسكان كندا الأصليين في أراضيهم. وقال البابا، قبيل توجهه إلى كندا الأسبوع الماضي، أمام الحاضرين في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان: «لسوء الحظ ساهم العديد من المسيحيين في كندا، ومن ضمنهم بعض أعضاء الجماعات الدينية، في سياسات الاستيعاب الثقافي التي أضرت، في الماضي، بشكل خطير بالسكان الأصليين وبطرق مختلفة».
وتفجرت قضية الاعتداءات على أطفال الشعوب الأصلية عام 2015. وقد أعرب وقتها رئيس الحكومة الكندية ترودو عن حزنه لاكتشاف 751 قبراً لأشخاص مجهولين في موقع مدرسة داخلية سابقة للسكان الأصليين في قرية مارييفال في مقاطعة ساسكاتشوان في غرب كندا.
وكانت مدرسة السكان الأصليين الداخلية في مارييفال قد أنشئت عام 1899 وأغلقت عام 1997. وهي من ضمن نظام المدارس الداخلية الذي أرسته الحكومة الفيدرالية سابقاً؛ إذ أوكلت السلطات إدارة المدرسة إلى الكنيسة الكاثوليكية، فتولت المهمة على التوالي اثنتان من جمعيات الراهبات.
وعلق ترودو آنذاك على هذه الأنباء المروعة قائلاً: «أعلم أن هذا الاكتشاف لا يتسبب سوى بتفاقم الألم الذي تشعر به أساساً العائلات والأشخاص الناجون وكافة الشعوب والمجتمعات في أوساط السكان الأصليين، كما أنه يعيد التأكيد على حقيقة يعرفونها منذ زمن بعيد. الألم والصدمة اللذان تشعرون بهما، كندا مسؤولة عنهما». وأضاف: «هذه الاكتشافات في مارييفال و(سابقاً) في كاملوبس (في مقاطعة بريتيش كولومبيا) ذكرت بشكل مخجل بالعنصرية والتمييز والظلم الممنهج الذي واجهه السكان الأصليون، ولا يزالون، في هذا البلد. علينا أن نعترف معاً بهذه الحقيقة وأن نستخلص الدروس من الماضي ونسير قُدماً على طريق المصالحة المشترك». وقال ترودو إنه لا يستثني إجراء تحقيق جنائي حول هذا الاكتشاف «الصادم والمروّع».
«تكريم الحقيقة والتصالح من أجل المستقبل»، كان عنوان التقرير النهائي الذي أصدرته «لجنة الحقيقة» في ديسمبر (كانون الأول) 2015 حول السكّان الأصليين في كندا.
وحققت اللجنة في المعاملة التي لقيها نحو من 150 ألفاً من أبناء السكان الأصليين منذ سبعينات القرن التاسع عشر وحتّى عام 1996 في مختلف أنحاء كندا. وكان يتم إقحام هؤلاء في مدارس داخلية بغية «إبعادهم عن ثقافة أهلهم وإدماجهم في مجتمع البيض» حسب السياسة المتّبعة منذ تلك الفترة. واعتبرت اللجنة أنّ سياسة الدولة الكنديّة لدمج السكّان الأصليين فشلت، ولكنّ عواقبها الوخيمة ما تزال قائمة.
وجابت اللجنة منذ تأسيسها عام 2007 مختلف أنحاء كندا واستمعت إلى نحو 7 آلاف شهادة، وأصدرت تقريرها النهائي الذي رفعت فيه 94 توصية للتعويض عن الإساءة التي لحقت بالسكّان الأصليين. وتحدّث تقريرها عن إبادة جسديّة وبيولوجيّة وثقافيّة بحقّ السكّان الأصليين.
وتمّ الكشف عن التقرير خلال جلسة رسميّة حضرها، آنذاك، رئيس الحكومة الكنديّة جاستن ترودو وأعضاء اللجنة وزعماء السكّان الأصليين، وتلاميذ سابقون في المدارس الداخلية من أبناء السكّان الأصليين.
وتحدث رئيس اللجنة، القاضي مورّي سانكلير، بتأثر شديد عن مضاعفات عمل اللجنة عليه وعلى نظيريه في اللجنة الصحافيّة ماري ولسون والمحامي ولتون ليتلتشايلد بعد استماعهم للشهادات من 6 آلاف تلميذ سابق في المدارس الداخليّة. وأضاف أنّ متابعة العمل المؤثّر والمؤلم تطلّبت منه القوّة للمثابرة وكان دعم عائلته وأولاده والأحفاد بالغَ الأهميّة بالنسبة له.
لماذا يعتذر البابا فرنسيس للسكان الأصليين في كندا؟
الآلاف منهم أبيدوا «بيولوجياً وثقافيّاً» في مدارس داخلية
لماذا يعتذر البابا فرنسيس للسكان الأصليين في كندا؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة