رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة

هل ينجح السياسي المخضرم في كسب ثقة المانحين الكبار؟

رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة
TT

رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة

رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة

كان لا بد للاضطرابات الاحتجاجية التي فجرتها الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة أن تهز النظام السياسي في سريلانكا. وحقاً خلال الأسابيع الأخيرة، أسقط ومن ثم، أسندت رئاسة الحكومة يوم 12مايو (أيار) الماضي للرئيس السابق رانيل ويكريميسنغه، في محاولة للملمة الأوضاع. غير أن الاضطرابات المتصاعدة أجبرت لاحقاً رئيس الجمهورية على الفرار من قصره، ثم من البلاد، وانتخب مجلس النواب بالأمس ويكريميسنغه رئيساً للجمهورية. هذه الخطوة التي قوبلت برد فعل سلبي جداً من الشارع الغاضب بدت لكثيرين خطوة يائسة للجم الانهيار الكامل، ومحاولة قد تكون الأخيرة لإطلاق مبادرات سياسية واقتصادية مقبولة دولياً، ولا سيما أن الرئيس الجديد – القديم، سياسي محافظ مخضرم وموثوق في الدوائر الاقتصادية الدولية.
بين معسكري المتفائلين بخبرة الرئيس رانيل ويكريميسنغه (73 سنة) آملين بقدرته على حل أزمة سريلانكا الحادة الراهنة، والمشككين بقدرة «الطاقم السياسي» التقليدي الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد – القديم في إحداث نقلة نوعية تخرج البلاد من الهوة الاقتصادية التي انزلقت إليها، بسبب آفات الفساد والمحسوبية العائلية والانقسامات الإثنية – الطائفية والتدخلات الأجنبية من القوى الكبرى، ولا سيما في آسيا.
النشأة والمسيرة
ولد رانيل ويكريميسنغه في العاصمة السريلانكية كولومبو لأسرة سنهالية مرموقة وثرية، يوم 24 مارس (آذار) 1949. وتتصل أسرته بصلات قربى ومصاهرة مع عدد من أبرز الأسر الأرستقراطية والنافذة سياسياً، ما ساعده إلى حد بعيد في مسيرتيه في عالمي المحاماة والسياسة.
تلقى تعليمه في كولومبو بالمدرسة الإعدادية الملكية، ثم في الكلية الملكية حيث كان أحد أصدقائه وزملاء صفه أنورا بندرانايكه ابن رئيسة الوزراء (يومذاك) سيريمافو بندرانايكه – أول امرأة تتولى رئاسة حكومة في العالم.
بعدها التحق ويكريميسنغه بمعهد الحقوق في جامعة سيلان (سيلان هو الاسم القديم لسريلانكا)، وهي التي تعرف اليوم بجامعة كولومبو. وإثر تخرّجه أكمل امتحانات معهد سيلان للحقوق، وأدى يمين ممارسة مهنة المحاماة عام 1972.
المسيرة السياسية
غير أن شغف رانيل ويكريميسنغه بالسياسة، وهو سليل أسرتين لهما خبرة طويلة في حقول الإدارة والسياسة والإعلام، اجتذبه إلى الحياة السياسية حيث انخرط في الحزب الوطني المتحد (الـ«يو إن بي»).
هذا الحزب العريق أسس عام 1946، ويعد منذ الاستقلال إحدى القوتين الرئيسيتين في البلاد، وهو يمثل تيار يمين الوسط ويستقطب الفئات البورجوازية والثرية ورجال العمل. وفي مواجهة الحزب الوطني المتحد، منذ مطلع عقد الخمسينات نشط حزب قوي التصق طويلاً بأسرتي بندرانايكه وراجاباكسا وحمل عبر السنين بضعة أسماء أشهرها «حزب سريلانكا الحرية» (سريلانكا فريدوم) ولقد أسس هذا الحزب المعروف حالياً باسم «حزب تحالف الحرية الشعبي في سريلانكا» سولومون بندرانايكه عام 1951، وقاده إلى الحكم عام 1956 قبل اغتياله. وعلى الأثر تولت الزعامة الحزبية ولاحقاً رئاسة الحكومة أرملته سيريمافو، وهو محسوب أيديولوجياً على تيار يسار الوسط الاشتراكي، ويحظى بقاعدة سنهالية بوذية قومية كبيرة.
رجل اليمين المعتدل
تدرّج ويكريميسنغه صعوداً في صفوف الحزب الوطني المتحد، وشغل عدداً من المسؤوليات الحزبية إلى أن نجح في دخول البرلمان عام 1977. وعلى الأثر عيّن نائباً لوزير الخارجية في الحكومة التي ترأسها جونيوس جاياواردينه، زعيم الحزب واحد كبار «دهاته». ولم يطل الوقت حتى رقّعه جاياواردينه وسلمه منصب وزير شؤون الشباب والتشغيل في أكتوبر (تشرين الأول) 1977، وكان يوم ذلك أصغر الوزراء سناً في تاريخ سريلانكا. وخلال 3 سنوات، أي في عام 1980، أصبح وزيراً للتربية والتعليم.
في رئاسة الحكومة
بعدها، في عهد الزعيم الجديد للحزب الوطني المتحد راناسينغي بريماداسا، أسند إلى ويكريميسنغه منصب وزير الصناعة عام 1989، وفي العام نفسه قاد كتلة حزبه في البرلمان. وعلى صعيد رئاسة الحكومة، تولى ويكريميسنغه رئاسة الحكومة 6 مرات بين 1993 - على أثر اغتيال بريماداسا في تفجير انتحاري كبير نفذه تنظيم «نمور التاميل» - و1994، ثم بين 2001 و2004، وبين 2015 و2018، وبين 2018 و2019، ثم منذ مايو (أيار) من هذا العام... قبل انتخابه بالأمس رئيساً للجمهورية.
خلال هذه الفترة كان الصراع محتدماً بين الحزبين التقليديين الكبيرين، كذلك كانت الاضطرابات الدامية تقض مضاجع الساسة، فبعد اغتيال بريماداسا، اغتيل خلفه غاميني ديساناياكي في نوفمبر (تشرين الثاني) 1994 أثناء مشاركته في حملة الانتخابات الرئاسية، وعلى الأثر عيّن ويكريميسنغه زعيماً للحزب.
وفي العام 1999 رشحه الحزب الوطني المتحد لرئاسة الجمهورية إلا أنه خسر المعركة أمام زعيمة حزب «سريلانكا الحرية» تشاندريكا بندرانايكه كوماراتونغا، ابنة الرئيسة بندرانايكه. ثم خسر مجدداً الانتخابات الرئاسية التالية أمام ماهيندا راجاباكسا، الذي تولى زعامة الحزب (بعدما صار «تحالف الحرية الشعبي») خلفاً لكوماراتونغا. وكان راجاباكسا بعد شغله رئاسة الجمهورية بين 2005 و2015، قد عاد ليشغل منصب رئيس الحكومة في عهد رئاسة شقيقه الأصغر غوتابايا راجاباكسا في نوفمبر 2019. ولقد سبقه إلى الاستقالة في مايو الماضي وغادر تحت ضغط الغضب الشعبي، وبعدها، أسندت رئاسة الحكومة لويكريميسنغه.
غير أن مغادرة ماهيندا راجاباكسا لم يوقف الاحتجاجات والاضطرابات، بل دفع تفاقم الوضع الرئيس غوتابايا إلى الاستقالة بدوره، ومغادرة البلاد. ومجدداً، وقع الاختيار على غريمهما السياسي المخضرم، فانتخب لرئاسة الجمهورية.
الصين... والأزمة الاقتصادية
إبان فترة حكم الشقيقين راجاباكسا، ازداد بوضوح نفوذ الصين السياسي والاقتصادي سريلانكا. ولئن كان سوء الإدارة والفساد السياسي والمالي لعبا دوراً محورياً في الأزمة المستحكمة الراهنة، فإن علاقة أسرة راجاباكسا – في نظر المراقبين الغربيين – مع الصين ورطت سريلانكا وأثقلت كاهلها.
إذ يقول مراقبون غربيون وهنود تابعوا لسنوات تطور الأمور أن ما عادت سريلانكا قادرة على سداد ديونها الخارجية بسبب العجز عن دفع قيمة خدمة الدين المستحق للصين. ويشير هؤلاء المراقبون أن بكين موّلت في سريلانكا، كما موّلت في أماكن أخرى من العالم، بينها عدد من الدول الأفريقية مشاريع بنية تحتية عديمة الجدوى.
وفي حالة سريلانكا بالذات، استغلت بكين صداقتها لماهيندا راجاباكسا لتوقيع اتفاق لبناء ميناء هامبانتوتا والمطار المجاور له في بلدة ماتالا إبان فترة حكمه. وفيما بعد، على أثر تولي مايتريبالا سيريسينا - خليفة ماهيندا - السلطة، حاول الرئيس الجديد الحد من اعتماد سريلانكا وسكانها البالغ تعدادهم نحو 22 مليون نسمة على الصين، إلا أن الحال انتهى به إلى منح ميناء هامبانتوتا للصين بموجب عقد انتفاع مدته 99 سنة، مع وجود بند يمنح بكين حق تمديد العقد 99 أخرى.
وهنا يجدر التذكير بأن فريق العمل الذي يتابع وضع سريلانكا في صندوق النقد الدولي، والذي كان في سريلانكا خلال الفترة الأخيرة، عاد إلى مقر الصندوق في واشنطن من دون التوصل إلى أي اتفاق.
وحول هذه النقطة، ثمة من يشير إلى أن الدوائر المالية العالمية من واقع اطلاعها على دقائق الأزمة، ما كانت متفائلة بقيام حكومة مستقرة تستطيع تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي. والمعروف على نطاق واسع في أوساط خبراء الاقتصاد أن أي مساعدة من الصندوق أو البنك الدولي تكون في العادة مرفوقة بشروط صارمة لضمان ألا يساء إدارة الأموال أو يساء التصرف بها. لكن مقابل ذلك، الجميع يعرف – وبالأخص، القوى العالمية الكبرى مثل الصين - أهمية موقع سريلانكا الجغرافي على أحد أهم طرق الشحن في العالم، وهو ما يعقد الاستخفاف بأمرها، وقد يحول تماماً دون ترك دولة بهذه الأهمية الإستراتيجية تنهار. وكانت «الشرق الأوسط» قد نشرت ما قاله الدكتور غانيشان ويغنارجا، الزميل غير المقيم في معهد دراسات جنوب آسيا في جامعة سنغافورة الوطنية، عن الوضع «وهو أن سريلانكا ستحتاج إلى ما يتراوح بين 20 و25 مليار دولار أميركي خلال السنوات الثلاث المقبلة من صندوق النقد الدولي وكيانات متعددة الأطراف، ودول صديقة أخرى لجعل اقتصادها في وضع جيد، وتحقيق نمو». وتابع ويغنارجا موضحاً «إلى جانب مساعدة صندوق النقد الدولي، ثمة حاجة إلى تمويل عاجل من الهند والصين والدول الغربية، ليس فقط لتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب مثل الوقود والغذاء والدواء، بل أيضاً للمساعدة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي».
دين خارجي ضخم
وعلى صعيد متصل، تفيد الأرقام بأن حجم الدين الخارجي لسريلانكا يبلغ حالياً 51 مليار دولار. ووفقاً لسلطات كولومبو، يتوجب عليها سداد 8.6 مليار دولار من الدين الخارجي عام 2022. ولكن نتيجة لنفاد العملة الأجنبية من البلاد بحلول مايو الفائت، تعذر على السلطات السريلانكية سداد المستحق عليها من الديون للمرة الأولى.
والحال، أنه منذ ذلك الحين توقفت كل الواردات، وحدث نقص كبير في الوقود والغذاء والسلع المعيشية. وحسب المصادر الاقتصادية الهندية، فإنه عندما لجأت حكومة كولومبو إلى صندوق النقد الدولي، كانت الأوضاع في سريلانكا قد وصلت إلى الحضيض، وباتت البلاد تعيش على منح ومساعدات مقدّمة من «جارتها» الأكبر الهند. ووفق هذه المصادر، بلغت المنح والمساعدات الهندية خلال الفترة الممتدة بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) الفائتين 3.5 مليار دولار. ولكن مع هذا لم تتمكن الحكومة من تلبية الاحتياجات الأساسية للشعب السريلانكي، من وقود للمركبات إلى الطعام، مروراً بالأدوية التي تحتاجها في المستشفيات الحكومية، وسط تضخم في أسعار السلع الغذائية بلغت نسبته 56 في المائة.

الحزب الوطني المتحد... في سطور
-الحزب الوطني المتحد في سريلانكا، حزب محافظ معتدل يتموضع على يمين وسط الساحة السياسية.
-أسس الحزب في سبتمبر (أيلول) 1946.
-تولى السلطة (منفرداً أو متحالفاً) لمدة 38 سنة من أصل 74 سنة من الاستقلال.
-كان القوة المهيمنة على الساحة السياسية في الفترات: من 1947 إلى 1956، ومن 1965 إلى 1970، ومن 1977 إلى 1994، ومن 2001 إلى 2004، ومن 2015 إلى 2019.
-أبرز قادة الحزب: ددلي سينانياكه، وجونيوس جاياواردينه، وراناسينغي بريماداسا وأخيراً رانيل ويكريميسنغه.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.