رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة

هل ينجح السياسي المخضرم في كسب ثقة المانحين الكبار؟

رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة
TT

رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة

رانيل ويكريميسنغه... «رئيس طوارئ» في سريلانكا المأزومة

كان لا بد للاضطرابات الاحتجاجية التي فجرتها الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة أن تهز النظام السياسي في سريلانكا. وحقاً خلال الأسابيع الأخيرة، أسقط ومن ثم، أسندت رئاسة الحكومة يوم 12مايو (أيار) الماضي للرئيس السابق رانيل ويكريميسنغه، في محاولة للملمة الأوضاع. غير أن الاضطرابات المتصاعدة أجبرت لاحقاً رئيس الجمهورية على الفرار من قصره، ثم من البلاد، وانتخب مجلس النواب بالأمس ويكريميسنغه رئيساً للجمهورية. هذه الخطوة التي قوبلت برد فعل سلبي جداً من الشارع الغاضب بدت لكثيرين خطوة يائسة للجم الانهيار الكامل، ومحاولة قد تكون الأخيرة لإطلاق مبادرات سياسية واقتصادية مقبولة دولياً، ولا سيما أن الرئيس الجديد – القديم، سياسي محافظ مخضرم وموثوق في الدوائر الاقتصادية الدولية.
بين معسكري المتفائلين بخبرة الرئيس رانيل ويكريميسنغه (73 سنة) آملين بقدرته على حل أزمة سريلانكا الحادة الراهنة، والمشككين بقدرة «الطاقم السياسي» التقليدي الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد – القديم في إحداث نقلة نوعية تخرج البلاد من الهوة الاقتصادية التي انزلقت إليها، بسبب آفات الفساد والمحسوبية العائلية والانقسامات الإثنية – الطائفية والتدخلات الأجنبية من القوى الكبرى، ولا سيما في آسيا.
النشأة والمسيرة
ولد رانيل ويكريميسنغه في العاصمة السريلانكية كولومبو لأسرة سنهالية مرموقة وثرية، يوم 24 مارس (آذار) 1949. وتتصل أسرته بصلات قربى ومصاهرة مع عدد من أبرز الأسر الأرستقراطية والنافذة سياسياً، ما ساعده إلى حد بعيد في مسيرتيه في عالمي المحاماة والسياسة.
تلقى تعليمه في كولومبو بالمدرسة الإعدادية الملكية، ثم في الكلية الملكية حيث كان أحد أصدقائه وزملاء صفه أنورا بندرانايكه ابن رئيسة الوزراء (يومذاك) سيريمافو بندرانايكه – أول امرأة تتولى رئاسة حكومة في العالم.
بعدها التحق ويكريميسنغه بمعهد الحقوق في جامعة سيلان (سيلان هو الاسم القديم لسريلانكا)، وهي التي تعرف اليوم بجامعة كولومبو. وإثر تخرّجه أكمل امتحانات معهد سيلان للحقوق، وأدى يمين ممارسة مهنة المحاماة عام 1972.
المسيرة السياسية
غير أن شغف رانيل ويكريميسنغه بالسياسة، وهو سليل أسرتين لهما خبرة طويلة في حقول الإدارة والسياسة والإعلام، اجتذبه إلى الحياة السياسية حيث انخرط في الحزب الوطني المتحد (الـ«يو إن بي»).
هذا الحزب العريق أسس عام 1946، ويعد منذ الاستقلال إحدى القوتين الرئيسيتين في البلاد، وهو يمثل تيار يمين الوسط ويستقطب الفئات البورجوازية والثرية ورجال العمل. وفي مواجهة الحزب الوطني المتحد، منذ مطلع عقد الخمسينات نشط حزب قوي التصق طويلاً بأسرتي بندرانايكه وراجاباكسا وحمل عبر السنين بضعة أسماء أشهرها «حزب سريلانكا الحرية» (سريلانكا فريدوم) ولقد أسس هذا الحزب المعروف حالياً باسم «حزب تحالف الحرية الشعبي في سريلانكا» سولومون بندرانايكه عام 1951، وقاده إلى الحكم عام 1956 قبل اغتياله. وعلى الأثر تولت الزعامة الحزبية ولاحقاً رئاسة الحكومة أرملته سيريمافو، وهو محسوب أيديولوجياً على تيار يسار الوسط الاشتراكي، ويحظى بقاعدة سنهالية بوذية قومية كبيرة.
رجل اليمين المعتدل
تدرّج ويكريميسنغه صعوداً في صفوف الحزب الوطني المتحد، وشغل عدداً من المسؤوليات الحزبية إلى أن نجح في دخول البرلمان عام 1977. وعلى الأثر عيّن نائباً لوزير الخارجية في الحكومة التي ترأسها جونيوس جاياواردينه، زعيم الحزب واحد كبار «دهاته». ولم يطل الوقت حتى رقّعه جاياواردينه وسلمه منصب وزير شؤون الشباب والتشغيل في أكتوبر (تشرين الأول) 1977، وكان يوم ذلك أصغر الوزراء سناً في تاريخ سريلانكا. وخلال 3 سنوات، أي في عام 1980، أصبح وزيراً للتربية والتعليم.
في رئاسة الحكومة
بعدها، في عهد الزعيم الجديد للحزب الوطني المتحد راناسينغي بريماداسا، أسند إلى ويكريميسنغه منصب وزير الصناعة عام 1989، وفي العام نفسه قاد كتلة حزبه في البرلمان. وعلى صعيد رئاسة الحكومة، تولى ويكريميسنغه رئاسة الحكومة 6 مرات بين 1993 - على أثر اغتيال بريماداسا في تفجير انتحاري كبير نفذه تنظيم «نمور التاميل» - و1994، ثم بين 2001 و2004، وبين 2015 و2018، وبين 2018 و2019، ثم منذ مايو (أيار) من هذا العام... قبل انتخابه بالأمس رئيساً للجمهورية.
خلال هذه الفترة كان الصراع محتدماً بين الحزبين التقليديين الكبيرين، كذلك كانت الاضطرابات الدامية تقض مضاجع الساسة، فبعد اغتيال بريماداسا، اغتيل خلفه غاميني ديساناياكي في نوفمبر (تشرين الثاني) 1994 أثناء مشاركته في حملة الانتخابات الرئاسية، وعلى الأثر عيّن ويكريميسنغه زعيماً للحزب.
وفي العام 1999 رشحه الحزب الوطني المتحد لرئاسة الجمهورية إلا أنه خسر المعركة أمام زعيمة حزب «سريلانكا الحرية» تشاندريكا بندرانايكه كوماراتونغا، ابنة الرئيسة بندرانايكه. ثم خسر مجدداً الانتخابات الرئاسية التالية أمام ماهيندا راجاباكسا، الذي تولى زعامة الحزب (بعدما صار «تحالف الحرية الشعبي») خلفاً لكوماراتونغا. وكان راجاباكسا بعد شغله رئاسة الجمهورية بين 2005 و2015، قد عاد ليشغل منصب رئيس الحكومة في عهد رئاسة شقيقه الأصغر غوتابايا راجاباكسا في نوفمبر 2019. ولقد سبقه إلى الاستقالة في مايو الماضي وغادر تحت ضغط الغضب الشعبي، وبعدها، أسندت رئاسة الحكومة لويكريميسنغه.
غير أن مغادرة ماهيندا راجاباكسا لم يوقف الاحتجاجات والاضطرابات، بل دفع تفاقم الوضع الرئيس غوتابايا إلى الاستقالة بدوره، ومغادرة البلاد. ومجدداً، وقع الاختيار على غريمهما السياسي المخضرم، فانتخب لرئاسة الجمهورية.
الصين... والأزمة الاقتصادية
إبان فترة حكم الشقيقين راجاباكسا، ازداد بوضوح نفوذ الصين السياسي والاقتصادي سريلانكا. ولئن كان سوء الإدارة والفساد السياسي والمالي لعبا دوراً محورياً في الأزمة المستحكمة الراهنة، فإن علاقة أسرة راجاباكسا – في نظر المراقبين الغربيين – مع الصين ورطت سريلانكا وأثقلت كاهلها.
إذ يقول مراقبون غربيون وهنود تابعوا لسنوات تطور الأمور أن ما عادت سريلانكا قادرة على سداد ديونها الخارجية بسبب العجز عن دفع قيمة خدمة الدين المستحق للصين. ويشير هؤلاء المراقبون أن بكين موّلت في سريلانكا، كما موّلت في أماكن أخرى من العالم، بينها عدد من الدول الأفريقية مشاريع بنية تحتية عديمة الجدوى.
وفي حالة سريلانكا بالذات، استغلت بكين صداقتها لماهيندا راجاباكسا لتوقيع اتفاق لبناء ميناء هامبانتوتا والمطار المجاور له في بلدة ماتالا إبان فترة حكمه. وفيما بعد، على أثر تولي مايتريبالا سيريسينا - خليفة ماهيندا - السلطة، حاول الرئيس الجديد الحد من اعتماد سريلانكا وسكانها البالغ تعدادهم نحو 22 مليون نسمة على الصين، إلا أن الحال انتهى به إلى منح ميناء هامبانتوتا للصين بموجب عقد انتفاع مدته 99 سنة، مع وجود بند يمنح بكين حق تمديد العقد 99 أخرى.
وهنا يجدر التذكير بأن فريق العمل الذي يتابع وضع سريلانكا في صندوق النقد الدولي، والذي كان في سريلانكا خلال الفترة الأخيرة، عاد إلى مقر الصندوق في واشنطن من دون التوصل إلى أي اتفاق.
وحول هذه النقطة، ثمة من يشير إلى أن الدوائر المالية العالمية من واقع اطلاعها على دقائق الأزمة، ما كانت متفائلة بقيام حكومة مستقرة تستطيع تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي. والمعروف على نطاق واسع في أوساط خبراء الاقتصاد أن أي مساعدة من الصندوق أو البنك الدولي تكون في العادة مرفوقة بشروط صارمة لضمان ألا يساء إدارة الأموال أو يساء التصرف بها. لكن مقابل ذلك، الجميع يعرف – وبالأخص، القوى العالمية الكبرى مثل الصين - أهمية موقع سريلانكا الجغرافي على أحد أهم طرق الشحن في العالم، وهو ما يعقد الاستخفاف بأمرها، وقد يحول تماماً دون ترك دولة بهذه الأهمية الإستراتيجية تنهار. وكانت «الشرق الأوسط» قد نشرت ما قاله الدكتور غانيشان ويغنارجا، الزميل غير المقيم في معهد دراسات جنوب آسيا في جامعة سنغافورة الوطنية، عن الوضع «وهو أن سريلانكا ستحتاج إلى ما يتراوح بين 20 و25 مليار دولار أميركي خلال السنوات الثلاث المقبلة من صندوق النقد الدولي وكيانات متعددة الأطراف، ودول صديقة أخرى لجعل اقتصادها في وضع جيد، وتحقيق نمو». وتابع ويغنارجا موضحاً «إلى جانب مساعدة صندوق النقد الدولي، ثمة حاجة إلى تمويل عاجل من الهند والصين والدول الغربية، ليس فقط لتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب مثل الوقود والغذاء والدواء، بل أيضاً للمساعدة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي».
دين خارجي ضخم
وعلى صعيد متصل، تفيد الأرقام بأن حجم الدين الخارجي لسريلانكا يبلغ حالياً 51 مليار دولار. ووفقاً لسلطات كولومبو، يتوجب عليها سداد 8.6 مليار دولار من الدين الخارجي عام 2022. ولكن نتيجة لنفاد العملة الأجنبية من البلاد بحلول مايو الفائت، تعذر على السلطات السريلانكية سداد المستحق عليها من الديون للمرة الأولى.
والحال، أنه منذ ذلك الحين توقفت كل الواردات، وحدث نقص كبير في الوقود والغذاء والسلع المعيشية. وحسب المصادر الاقتصادية الهندية، فإنه عندما لجأت حكومة كولومبو إلى صندوق النقد الدولي، كانت الأوضاع في سريلانكا قد وصلت إلى الحضيض، وباتت البلاد تعيش على منح ومساعدات مقدّمة من «جارتها» الأكبر الهند. ووفق هذه المصادر، بلغت المنح والمساعدات الهندية خلال الفترة الممتدة بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) الفائتين 3.5 مليار دولار. ولكن مع هذا لم تتمكن الحكومة من تلبية الاحتياجات الأساسية للشعب السريلانكي، من وقود للمركبات إلى الطعام، مروراً بالأدوية التي تحتاجها في المستشفيات الحكومية، وسط تضخم في أسعار السلع الغذائية بلغت نسبته 56 في المائة.

الحزب الوطني المتحد... في سطور
-الحزب الوطني المتحد في سريلانكا، حزب محافظ معتدل يتموضع على يمين وسط الساحة السياسية.
-أسس الحزب في سبتمبر (أيلول) 1946.
-تولى السلطة (منفرداً أو متحالفاً) لمدة 38 سنة من أصل 74 سنة من الاستقلال.
-كان القوة المهيمنة على الساحة السياسية في الفترات: من 1947 إلى 1956، ومن 1965 إلى 1970، ومن 1977 إلى 1994، ومن 2001 إلى 2004، ومن 2015 إلى 2019.
-أبرز قادة الحزب: ددلي سينانياكه، وجونيوس جاياواردينه، وراناسينغي بريماداسا وأخيراً رانيل ويكريميسنغه.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.