سريلانكا... جزيرة في بحر صراع استراتيجي ثلاثي

سريلانكيون غاضبون من انتخاب رانيل ويكريميسينغه رئيساً (أ.ف.ب)
سريلانكيون غاضبون من انتخاب رانيل ويكريميسينغه رئيساً (أ.ف.ب)
TT

سريلانكا... جزيرة في بحر صراع استراتيجي ثلاثي

سريلانكيون غاضبون من انتخاب رانيل ويكريميسينغه رئيساً (أ.ف.ب)
سريلانكيون غاضبون من انتخاب رانيل ويكريميسينغه رئيساً (أ.ف.ب)

بعد أشهر من الاحتجاجات الصاخبة في سريلانكا واستقالة رئيس الوزراء ماهيندا راجاباكسا في أيار (مايو)، فر شقيقه رئيس الجمهورية غوتابايا راجاباكسا من البلاد في 13 تموز (يوليو). وقد حصل ما حصل بعدما وصل اقتصاد سريلانكا إلى الحضيض وتخلفت البلاد عن سداد ديونها الخارجية فيما تعاظمت أزمة نقص الوقود والغذاء... انتخب البرلمان رانيل ويكريميسينغه رئيساً للجمهورية على أمل إعادة الاستقرار، فقامت بوجهه احتجاجات فورية...
كيف وصلت سريلانكا إلى هذا الدرك وماذا تعني أزمتها السياسية والاقتصادية لشعبها وللمنطقة؟
لنسلّم جدلاً (بشيء من السذاجة المفتعلة) أن الأزمة داخلية صرف ولا أبعاد خارجية لها بحيث يمكننا تعداد أسبابها الظاهرة على النحو الآتي:
1- الانهيار الاقتصادي:
لم يخف رانيل ويكريميسينغه نفسه قبل أسابيع على شعبه البالغ تعداده نحو 22 مليون نسمة أن الاقتصاد السريلانكي انهار تماماً بسبب تداعيات جائحة «كوفيد – 19» التي ولّدت عجزاً في الميزانية وتضخماً مفرطًا وانخفاضاً لقيمة العملة.
بعد انتهاء الحرب الأهلية بين القوات الحكومية وثوار التاميل عام 2009 ، حصل الرئيس ماهيندا راجاباكسا (شقيق غوتابايا) على قروض خارجية ضخمة لتغطية نفقات الحرب وتنفيذ مشاريع بنية تحتية لتعزيز السياحة، العصب الرئيسي لاقتصاد. إلا أن الجائحة والهجوم الإرهابي خلال عطلة الفصح في أبريل (نسان) 2019 عطّلا السياحة تماماً وأفقدا البلاد معظم دخلها بما لم يسمح لها بالتقاط أنفاسها بعد الانكفاء النسبي لـ«كورونا».
مؤيدون لرانيل ويكريميسينغه يحتفلون بانتخابه رئيساً (رويترز)
2- احتجاجات بلا هوادة:
منذ مارس (آذار) الماضي، نزل آلاف السريلانكيين إلى شوارع كولومبو وأنحاء أخرى من البلاد مطالبين برحيل الشقيقين غوتابايا وماهيندا راجاباكسا رئيسي الجمهورية والحكومة على التوالي. ولم يجدِ نفعاً قرار الثاني الاستقالة وتعيين ويكريميسينغه رئيسا للوزراء. واستمرت الاحتجاجات في التصاعد حتى دخول محتجين المقر الرئاسي وفرار غوتابايا قبل إعلان استقالته من المالديف التي وصل إليها في طائرة عسكرية.
3- عائلة راجاباكسا:
عائلة راجاباكسا راسخة في السياسة. وخلال رئاسة ماهيندا راجاباكسا (2005 – 2015)، شغل عدد من أفراد الأسرة مناصب عليا في الدولة. وبعد الهزيمة غير المتوقعة لماهيندا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية عام 2015 أمام مايثريبالا سيريسينا، اتُّهمت العائلة بالفساد والمحسوبية وسوء الإدارة. لكن في الانتخابات الرئاسية للعام 2019، ترشح غوتابايا راجاباكسا وفاز.
4- غياب الوحدة الوطنية:
منذ خمسينات القرن الماضي، كانت سريلانكا في قبضة القومية البوذية السنهالية. ويشكل السنهاليون حوالي 75 في المائة من السكان، والتاميل حوالي 15 في المائة والمسلمون 10 في المائة.
والواقع أن التاميل والمسلمين عانوا تمييزاً واضحاً، خصوصاً في تسهيل دخول السنهاليين الجامعات والحصول على وظائف حكومية. وبالتالي كان هناك نوع من الهيمنة الإتنية التي تقدّم شخصاً على آخر بناء على انتمائه وأصوله، الأمر الذي ساهم في انتشار المحسوبية والفساد.
ولا شك في أن التمييز ضد التاميل كان السبب الأول لاندلاع حرب أهلية استمرت من عام 1983 إلى عام 2009 وأودت بحوالي 250 ألف شخص، بالإضافة إلى تسببها بأضرار اقتصادية هائلة.
ولم تنجح السلطة السياسية في إرساء الاستقرار بعد نهاية الحرب ودفع التنمية وتحقيق الازدهار. ويعزو كثير من السريلانكيين ذلك إلى سوء إدارة عائلة راجاباكسا.
سريلانكيون غاضبون من التطورات السياسية (أ.ف.ب)
*سريلانكا «الأخرى»
سريلانكا جزيرة «تسبح» في المحيط الهندي وتبلغ مساحتها 65 ألفاً و600 كيلومتر مربع. جارتها الوحيدة هي الهند التي تبعد عنها نحو 55 كيلومتراً عند أقرب نقطة عبر مضيق بالك.
لكن الجزيرة ليست بمعزل عن رياح الصراعات الجيوسياسية والجيواقتصادية، ذلك أن أي دولة تنهار اقتصادياً تصير عرضة للتجاذبات الاستراتيجية الكبرى. وفي حالة سريلانكا لا بد أن تكون الدول المهتمة ثلاثاً: الهند، وهي الجارة الكبيرة التي لطالما ضخت الاستثمارات وأرسلت المساعدات إلى «نسيبتها»، والصين القريبة نسبياً التي تقدَّر استثماراتها في البنية التحتية السريلانكية بأكثر من 12 مليار دولار بين عامي 2006 و 2019، وطبعا الولايات المتحدة التي تملك مفاتيح خزائن أداتَي الإنقاذ الاقتصادي الأساسيتين، أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن سريلانكا بدأت في السنوات الأخيرة الظهور بشكل متزايد في النقاشات حول المشهد الجيوسياسي الآسيوي، فهي تحتل موقعاً استراتيجياً على جانبي الممرات البحرية في المحيط الهندي. ويحيلنا هذا إلى الصراع الواسع الذي يدور بين الولايات المتحدة والصين على طرق التجارة البحرية في تلك المنطقة من العالم التي تشمل المحيطين الهندي والهادئ، وطبعاً بحر الصين الجنوبي.
ولنتذكر الاتفاق الذي عقدته الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في 15 سبتمبر (أيلول) 2021 تحت اسم «أوكوس»، وهدفه المعلَن التصدي للنفوذ الصيني المتزايد في تلك المنطقة الحيوية من العالم.

وإذا كانت سريلانكا مسرحاً مهماً في التنافس الصيني الأميركي في المحيط الهندي، فإنها في الوقت عينه موقع مهم للصراع المبطّن والمغلّف بورقة برّاقة من العلاقات الحسنة بين الولايات المتحدة والهند التي يتوسع اقتصادها ويترسخ موقعها كقوة سياسية كبيرة في الخريطة العالمية. وهنا يجدر التفكير في أن واشنطن يهمها أن تتمركز بقوة في سريلانكا لتكون قريبة من «المارد» المحتمل الذي قد يخرج من الهند، خصوصاً إذا اتفق هذا «المارد» مع «العملاق» الصيني، ونسجا معاً حلفاً متيناً مع «الدب» الروسي.
لا شك في أن القائمين على السلطة في سريلانكا يدركون أهمية جزيرتهم في بحر التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، فمن كانوا سيختارون لو تُرك لهم الخيار؟
في الدول التي ينهار اقتصادها لا خيار، والدولة التي تبلغ ديونها الخارجية أرقاماً فلكية تفقد حكماً قرارها وبالتالي سيادتها.
من سيضع يده على سريلانكا؟
في السابع من يوليو أعلن غوتابايا راجاباكسا أنه طلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساعدة بلده المفلس في استيراد الوقود، في التاسع منه اقتحم محتجون المقر الرئاسي في كولومبو...


مقالات ذات صلة

رئيس سريلانكا يتوقع استمرار الإفلاس حتى 2026

الاقتصاد طابور طويل أمام وزارة الهجرة السريلانكية للحصول على جوازات سفرهم خارج البلاد التي تعاني من إفلاس (إ.ب.أ)

رئيس سريلانكا يتوقع استمرار الإفلاس حتى 2026

قال رئيس سريلانكا رانيل ويكريميسينغه أمام البرلمان الأربعاء إن بلاده ستظل مفلسة حتى عام 2026 على الأقل، داعياً إلى دعم إصلاحاته لإنعاش الاقتصاد في ظل أزمة تاريخية. وقال ويكريميسينغه الذي تولى الرئاسة الصيف الماضي بعد استقالة غوتابايا راجاباكسا إن «تبني سياسات ضريبية جديدة هو قرار لا يحظى بشعبية. تذكروا أنني لست هنا لأتمتع بالشعبية بل أريد إخراج هذه البلاد من الأزمة التي تواجهها». ويحمل السكان ويكريميسينغه مسؤولية الأزمة في ظل نقص الغذاء والوقود والكهرباء والدواء.

«الشرق الأوسط» (كولومبو)
الاقتصاد رئيس سريلانكا رانيل ويكريميسينغه لدى وصوله لإلقاء كلمة أمام البرلمان في كولومبو (أ.ف.ب)

رئيس سريلانكا يتوقع البقاء في حالة إفلاس حتى 2026

قال رئيس سريلانكا رانيل ويكريميسينغه أمام البرلمان، اليوم الأربعاء، إن بلاده ستظل مفلسة حتى عام 2026 على الأقل، داعيًا إلى دعم إصلاحاته لإنعاش الاقتصاد ظل أزمة تاريخية. وقال ويكريميسينغه الذي تولى الرئاسة الصيف الماضي بعد استقالة غوتابايا راجاباكسا إن «تبني سياسات ضريبية جديدة هو قرار لا يحظى بشعبية. تذكروا انني لست هناك لأتمتع بالشعبية بل أريد إخراج هذه البلاد من الأزمة التي تواجهها». وأضاف «إذا واصلنا خطة (الإصلاحات) يمكننا الخروج من الإفلاس بحلول 2026». ويحمل السكان ويكريميسينغه مسؤولية الأزمة في ظل نقص الغذاء والوقود والكهرباء والدواء.

«الشرق الأوسط» (كولومبو)
العالم الرئيس السريلانكي رانيل ويكريمسينغه خلال العرض العسكري (أ.ب)

الرئيس السريلانكي يدعو إلى التفكير في «الأخطاء» الماضية

بينما تمر البلاد بأزمة كبيرة، دعا الرئيس السريلانكي، رانيل ويكريمسينغه، خلال عرض عسكري بمناسبة مرور 75 عاماً على استقلال البلاد، إلى التفكير في «الأخطاء والإخفاقات» الماضية. ومنذ انتهاء الاستعمار البريطاني في 1948، قضت الدولة الجزيرة جزءاً كبيراً من تاريخها في حرب مع نفسها.

«الشرق الأوسط» (كولومبو)
الاقتصاد صورة أرشيفية تظهر مسار قاطرات تنقل مواد تعدينية من مدينة الجبيل السعودية (غيتي)  -   نصير أحمد وزير البيئة السريلانكي

سريلانكا تتطلع للاستفادة من تجربة التعدين السعودية

شدد المهندس نصير أحمد وزير البيئة السريلانكي على آفاق التعاون بين كولمبو والرياض بمختلف المجالات، وقطاع التعدين على وجه التحديد، متطلعا إلى تعزيز التعاون مع السعودية بقطاع التعدين، والاستفادة من تجارب المملكة في تطوير الصناعة المعدنية وقوانين وأنظمة المعادن، والمواكبة، والنهوض بإمكانات بلاده المعدنية. ودعا نصير السعوديين للاستثمار بالقطاع في بلاده، وإقامة مشاريعهم الاستكشافية والقيمة المضافة للإنتاج التعديني في البلدين، مشيرا إلى أن بلاده بدأت حقبة جديدة في التنمية الاقتصادية والنمو، وفي طريقها لتجاوز التحديات التي أفرزت انهيارا اقتصاديا وضائقة مالية. وشدد نصير في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «على ا

فتح الرحمن يوسف (الرياض)
العالم عناصر من جيش سريلانكا (أرشيفية - إ.ب.أ)

سريلانكا تخفض جيشها بنحو الثلث لخفض الإنفاق

قال وزير الدفاع السريلانكي، اليوم الجمعة، إن بلاده ستخفض قوام جيشها بما يصل إلى الثلث، إلى 135 ألفاً بحلول العام المقبل، وإلى 100 ألف بحلول عام 2030، فيما تحاول البلاد، التي تواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ أكثر من سبعة عقود، خفض الإنفاق. وقال بريميتا باندارا تيناكون في بيان: «الإنفاق العسكري هو في الأساس نفقات تتحملها الدولة، التي تحفز بشكل غير مباشر وتفتح مجالات للنمو الاقتصادي عن طريق ضمان الأمن القومي وأمن السكان».

«الشرق الأوسط» (كولومبو)

فريق ترمب يريد الوصول إلى «ترتيب» بين روسيا وأوكرانيا من الآن

عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)
عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)
TT

فريق ترمب يريد الوصول إلى «ترتيب» بين روسيا وأوكرانيا من الآن

عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)
عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)

أعلن مايك والتز، المستشار المقبل لشؤون الأمن القومي الأميركي، في مقابلة تلفزيونية، الأحد، أن فريق الرئيس المنتخب دونالد ترمب يريد العمل منذ الآن مع إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، للتوصل إلى «ترتيب» بين أوكرانيا وروسيا، مبدياً قلقه بشأن «التصعيد» الراهن.

ومنذ فوز الملياردير الجمهوري في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني)، يخشى الأوروبيون أن تقلّص الولايات المتّحدة دعمها لأوكرانيا في هذا النزاع، أو حتى أن تضغط عليها لتقبل باتفاق مع روسيا يكون على حسابها.

واختار الرئيس المنتخب الذي سيتولّى مهامه في 20 يناير (كانون الثاني)، كل أعضاء حكومته المقبلة الذين لا يزال يتعيّن عليهم الحصول على موافقة مجلس الشيوخ.

وفي مقابلة أجرتها معه، الأحد، شبكة «فوكس نيوز»، قال والتز إنّ «الرئيس ترمب كان واضحاً جداً بشأن ضرورة إنهاء هذا النزاع. ما نحتاج إلى مناقشته هو مَن سيجلس إلى الطاولة، وما إذا كان ما سيتمّ التوصل إليه هو اتفاق أم هدنة، وكيفية إحضار الطرفين إلى الطاولة، وما الذي سيكون عليه الإطار للتوصل إلى ترتيب».

وأضاف، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أنّ «هذا ما سنعمل عليه مع هذه الإدارة حتى يناير، وما سنواصل العمل عليه بعد ذلك».

وأوضح والتز أنّه «بالنسبة إلى خصومنا الذين يعتقدون أنّ هذه فرصة لتأليب إدارة ضد أخرى، فهم مخطئون»، مؤكّداً في الوقت نفسه أن فريق الإدارة المقبلة «قلق» بشأن «التصعيد» الراهن للنزاع بين روسيا وأوكرانيا.

وفي الأيام الأخيرة، صدر عن مقرّبين من الرئيس المنتخب تنديد شديد بقرار بايدن السماح لأوكرانيا بضرب عمق الأراضي الروسية بصواريخ بعيدة المدى أميركية الصنع.

وخلال حملته الانتخابية، طرح ترمب أسئلة كثيرة حول جدوى المبالغ الهائلة التي أنفقتها إدارة بايدن على دعم أوكرانيا منذ بداية الغزو الروسي لهذا البلد في 2022.

ووعد الملياردير الجمهوري مراراً بإنهاء هذه الحرب بسرعة، لكن من دون أن يوضح كيف سيفعل ذلك.

وبشأن ما يتعلق بالشرق الأوسط، دعا المستشار المقبل لشؤون الأمن القومي للتوصّل أيضاً إلى «ترتيب يجلب الاستقرار».

وسيشكّل والتز مع ماركو روبيو، الذي عيّنه ترمب وزيراً للخارجية، ثنائياً من الصقور في الإدارة المقبلة، بحسب ما يقول مراقبون.

وكان ترمب وصف والتز، النائب عن ولاية فلوريدا والعسكري السابق في قوات النخبة، بأنه «خبير في التهديدات التي تشكلها الصين وروسيا وإيران والإرهاب العالمي».