أصدرت إدارة مهرجان «كان» أمس الاثنين، بياناً نددت فيه بإلقاء القبض، مجدداً، على السينمائي الإيراني المعارض جعفر باناهي، وذلك في خضم حملة من الاعتقالات التي شملت سينمائيين آخرين خلال الأيام القليلة الماضية.
جاء في البيان أنه في يوم الجمعة، 8 يوليو (تموز) الحالي، تم إيقاف المخرجين محمد رسولوف، ومصطفى الأحمد، وسجنهما في موقع ما، بسبب احتجاجهما على معاملة الشرطة الإيرانية العنيفة للمتظاهرين المطالبين بحل الأزمة الاقتصادية في البلاد.
وتابع البيان: «اليوم في 11 يوليو، أُلقي القبض على المخرج جعفر باناهي الذي قدّم أعمالاً عديدة في مهرجان (كان)، بما في ذلك (ثلاثة وجوه) الذي انتُخب لمسابقة 2018». وخلص إلى التنديد بشدة ضد «هذه الاعتقالات وموجة الاضطهاد في إيران ضد الفنانين. يدعو المهرجان إلى إطلاق سراح محمد رسولوف، ومصطفى الأحمد، وجعفر باناهي». وانتهى البيان بالتذكير بأن المهرجان كان وسيبقى «ملجأ للفنانين من كل أنحاء العالم، وسيبقى في خدمتهم لإيصال أصواتهم واضحة وعالية، في سبيل حرية الإبداع وحرية التعبير».
وكان «مهرجان برلين» قد سبق «كان» في إصدار إعلان مماثل عن المخرجين رسولوف والأحمد، ومن ثَم أعقبه بإصدار إعلان مماثل عن القبض على جعفر باناهي «وهو عرضة للاضطهاد منذ سنوات عديدة».
*القاضي هو المذنب
لا شيء يدور في فلك النظام في إيران يدعو إلى التفاؤل حول مصير هؤلاء السينمائيين الثلاثة. كل منهم من وجهة نظر القضاء الإيراني مذنب، كونه أبدى رأياً تعتبره السلطات معادياً للحكومة، ويساهم في إذكاء الشعور العام بالرفض لما يسود الوضع الإيراني من جميع جوانبه. والمخرجون الثلاثة هم تحذير للآخرين إن احتجوا أو روّجوا لأفكارهم الانتقادية.
مريم مقدم إحدى مخرجتَي «أنشودة البقرة البيضاء»
كل واحد من هؤلاء أيضاً كان قد تعرّض للاتهامات ذاتها من قبل. النظرة الرسمية لهم هي أنهم مشاغبو أفكار يدعون إلى تغيير النظام من خلال إبداء آرائهم المعادية له، لا عبر تصريحاتهم فقط؛ بل عبر أفلامهم في الأساس.
والواقع أن هناك مخرجين آخرين يعانون من الرقابة الرسمية التي تمنع إيصال رؤاهم كاملة إلى المشاهدين. هذا عدا اتهامهم بالتواصل مع مهرجانات غربية، وعرض أفلامهم فيها، من دون الحصول على إذن مسبق.
قبل عامين، واجهت المخرجتان: بهتاش صنيعة، ومريم مقدّم، وضعاً مماثلاً. فيلمهما «أنشودة البقرة البيضاء»، اجتاز مرحلتين من الرقابة، واحدة قبل التصوير، والأخرى بعد انتهائه، قبل تسريبه إلى دورة 2021 من «مهرجان برلين السينمائي الدولي». الرقابة الأولى على السيناريو التي أوصت بحذف صفحات ومشاهد. هذا سهل على صانعي الأفلام، على عكس حالهم عندما يواجهون رقابة ما بعد التصوير التي قد تأمر بإلغاء مشاهد أو منع الفيلم من العروض التجارية.
ما أثار الرقابة هو نقد «أنشودة البقرة البيضاء» نظام الإعدام في إيران، ولو بطريقة مواربة. لا يرفع الفيلم رايات معارضة؛ لكننا نتوسم ما يتحدّث فيه بمرارة. هذا منذ مطلع الفيلم، عندما تزور بطلة الفيلم مينا (مريم مقدم)، زوجها المحكوم عليه بالإعدام. لقد رفض القضاء التماساته وتأكيداته أنه لم يرتكب جريمة القتل التي حُكم عليه بسببها، بعدما فبرك أحد الشهود أقوالاً كاذبة أدّت إلى صدور القرار.
يُنفّذ الحكم قبل أن يتقدّم رجل غريب (علي رضا سانيفار)، إلى مينا مدّعياً أنه مدين للزوج ببعض المال ويريد سداده. يخفي الغريب أنه القاضي الذي أبرم حكم الإعدام، وأنه لا صحة لادعائه بأن الزوج أدانه مالاً في حياته. في بال الرجل، وقد أدرك خطأه، أن يعالج ذلك الخطأ بمساعدتها على تدبير شؤون حياتها. يؤجرها منزلاً يملكه ويساعدها في تأمين انتقالها إليه، ويقودها بسيارته إلى المصنع الذي تعمل فيه. وعندما يرفع والدها قضية لانتزاع حضانة ابنتها الصمّاء البكماء (آفين بور راووفي) منها، يتصل القاضي بمعارفه في المحكمة لرد الدعوة المرفوعة؛ لكن الزوجة ستكتشف حقيقة الرجل لاحقاً وتنتقم منه.
للفيلم معطياته التي تجعل النقد غير المبطّن للقضاء الذي يخفق في تحقيق العدالة في إيران واضحاً وواقعياً. وهناك سعي للذهاب إلى أقصى ما تسمح به الرقابة من تصوير مجتمع قائم على فقدان العدالة، حتى في الطريقة التي يتعامل بها الأفراد بعضهم مع بعض.
*فرهادي المتزلّف
هذا الموضوع لا يختلف كثيراً عن مواضيع أفلام المخرج أصغر فرهادي، مع اختلاف بيّن، وهو أن فرهادي يعرف كيف يعرض من دون أن ينتقد. هناك حالة غموض تحيط برمزيات اختفاء إحدى شخصيات فيلمه الأول «حول إيلي» (2009). بعض الكشف سيحيلنا إلى موضوع يخص الوضع الاجتماعي للمرأة المحرومة -لأسباب مختلفة- من المشاركة اجتماعياً في نشاطات عامّة، بسبب خلفيات أبقاها المخرج محط تساؤل.
في «انفصال» (الذي نال الجائزة الأولى في مهرجان برلين سنة 2011 من بين جوائز أخرى لممثليه)، تحاشى نقد الجهات الرسمية في وضع اجتماعي آخر: رجل وامرأة يطلبان من القضاء (صورة القاضي محجوبة) الموافقة على طلاقهما. المخرج من الدهاء، بحيث إنه تناول موضوعاً آمناً بالكامل، يتحدّث فيه عن أزمة الزوجين وأزمة طفلتهما التي ينهي المخرج فيلمه بها، للتذكير بمأساتها في حال وقع الانفصال.
من «انفصال» لأصغر فرهادي
عين المخرج كانت على الانتماء الخارجي منذ البداية، ليس على طريقة باناهي، ورسولوف، وبهتاش، صنيعة للتسلل إلى ذلك المهرجان لعرض ما لا يخدم النظام في إيران؛ بل عبر موافقة إيرانية مسبقة، وتعاون طيّع مع الجميع. هذا ما قاده إلى البدء في تحقيق أفلام غير إيرانية الموضوع في الغرب، منجزاً في هذا النطاق «الماضي» (2013)، و«الجل يعرف» (2018)، اللذين عُرضا في مهرجان «كان».
طبعاً، من حق أي مخرج أن يتحاشى الصدام مع سلطات بلاده؛ لكن هذا سيضعه في خانة مختلفة حيال الآخرين الذين مُنعوا من العمل لمجرد أنهم عرضوا أفلاماً يراها النظام مدينة. المثال الأوفى في هذا الشأن، هو ما حدث مع المخرج محمد رسولوف بعدما عرض فيلمه الرائع «ليس هناك شر»، في «مهرجان برلين» أيضاً، ونال عنه ذهبية برلين سنة 2020.
* الناقد الصعب رسولوف
«ليس هناك شر»، يأتي بأربع حكايات: الأولى عن رب الأسرة الصغيرة المتفاني في خدمة عائلته، وحسن رعايتها وخدمتها. نتعرف عليه وهو يحصل على جِوال أرز من متجر رسمي، ويقود سيارته إلى البيت، ومن ثَم إلى حيث المدرسة التي تعمل فيها زوجته مدرسة، وبعد ذلك إلى مدرسة ابنته. من هناك إلى «سوبرماركت»؛ حيث يشتري وزوجته حاجياتهما الشهرية وفوق ذلك حاجة والدتها. تتجه العائلة إلى والدة الأم. يمضون وقتاً طيباً. يعودون إلى البيت. يساعد الزوج زوجته في صبغ شعرها، ومن ثَم يأوي إلى الفراش حتى الساعة الثالثة.
يقود السيارة إلى عمله، وهنا فقط نكتشف ماهية هذا العمل: تنفيذ الإعدام بشد آلة الجهاز الذي سيقوم بالمهمّة.
من فيلم محمد رسولوف «ليس هناك من شر»
إنها صدمة مقصودة وبالغة التعبير. بعد ذلك تأتي الحكايات الثلاث جميعها لتصب في قضية الإعدام بحد ذاته: الحارس الذي يرفض تنفيذ حكم الإعدام، وينجح في الهرب. الشاب الذي نفذ حكم الإعدام في مثقف قبضت عليه السلطات لمواقفه المعارضة. ومن ثَم حكاية الفتاة العائدة من السفر إلى بيت العائلة لتكتشف أن والدها ليس هو والدها الحقيقي، وأنه كان ينفذ أحكام إعدام ولو لحين، وأحد من نفذ فيهم حكم الإعدام كان والدها الحقيقي.
ينتهي فيلم رسولوف بسيارة هذه العائلة متوقفة وسط البراري. كانت في طريقها لإيصال الفتاة إلى مطار طهران من جديد؛ لكنها توقفت وسط أزمتها. هل تعود السيارة من حيث أتت أو تكمل؟ لا يجيب رسولوف عن السؤال؛ لكن المشهد البعيد لتلك السيارة سريعاً ما يرمز إلى إيران ذاتها المأزومة والمتجمدة في مكانها.
قبل ذلك، في عام 2017، أثار رسولوف نقمة النظام عندما قدّم «رجل نزيه» (A Man of Intergrity) في مهرجان «كان»، واستحق عليه جائزة مسابقة «نظرة ما» آنذاك.
بطل ذلك الفيلم رضا (رضا أخلاغيراد) مزارع سمك. يملك بيتاً خارج طهران (بعدما طُرد من المدرسة الذي كان يعلّـم فيها بعدما انتقد سوء الطعام المقدّم للتلاميذ)، ويعيش مع زوجته (صدابة بيزائي)، يربّي في بِرَك واسعة أسماكه ليعيش على تجارتها، بينما تعمل زوجته مدرسة في البلدة القريبة. يبدأ رضا في العثور على سمك ميّت في بِرَكه. وفي أحد المشاهد المبكرة، يستيقظ صباحاً على صياح زوجته المريع. يركض خارجاً ليجدها تقرع على طنجرة نحاسية لطرد عشرات العقبان السود التي كانت قد أخذت تقتات على الأسماك. يشارك القرع ومن ثَم يلتفت إلى بِركته ليجد أن كل أسماكه (بالمئات) تطفو ميتة. السبب هو قطع جاره الماء عن مجرى النهر الذي يملأ منه رضا بِركته. يحاول ردم السد الترابي، وحال يبدأ يُلقى القبض عليه. لاحقاً يدّعي جاره عبّـاس -وقد تزوّد بشهادة طبية مزوّرة- أن رضا كسر يده، ما يزيد متاعب رضا؛ خصوصاً وقد بات غير قادر على تلبية احتياجاته المادية ودفع فواتيره المتأخرة وخسارته مصدر قوته. يبيع سيارة زوجته؛ لكن هذا هو أضعف الحلول المتاحة.
ركّز المخرج على تداعي المجتمع في صورته الكبيرة: الطبيب فاسد، والبوليس لا يكترث، وجاره قوي يدمن الحشيش ويتاجر بها. والجميع يقبل الرشوة بلا تردد. خلال هذا المضمون هناك مشهدان لافتان: أولهما توسل أم لفتاة صغيرة ستُطرد من المدرسة لأنها ليست شيعية، والثاني لمشهد موت امرأة جاء الإسعاف لأخذها وسط حشد قليل من الثكالى؛ لكن المراسم وطريقة الندب غير شيعية، فهل المقصود هو التفرقة الطائفية التي يُعامل بها غير الشيعة؟ هل الفتاة الصغيرة وأمها ومشهد ما قبل الدفن من السُّنة؟ لا يحدد المخرج (ولا يستطيع التحديد) تماماً؛ لكنه يزوّد المشهد الثاني بعبارة تفيد بأنه ممنوع على الشخص المتوفى الدفن في مقابر الشيعة، ما يؤكد بعض ما يذهب إليه الفيلم.
المخرج جعفر باناهي عندما صوّر «ستارة مسدلة» في منزله
* باناهي العنيد
إنه فيلم جريء، بطله الإنسان الرافض لعبث مستديم في الأخلاق والمبادئ. رجل يلحظ ما يدور معه وحوله، ويواجه زوجته بأنها «قضية كفاح»، كما يقول. هذا قبل أن ينتصر الشر الكامن في شخص عباس والمعنيين الآخرين، ويُحرق المنزل الذي رفض رضا بيعه.
لم تكن السلطات الإيرانية لتغض النظر عن كل هذا الكم من النقد، وحكمت على رسولوف، حال عودته، بمنعه من تحقيق الأفلام. بالنسبة لها هو نسخة من جعفر باناهي الذي حرّك الساكن قبل ذلك بسلسلة أفلامه التي داومت على التعرّض لأوجاع اجتماعية حادّة. بعد فيلمه المسالم «البالون الأبيض» (1995) بدأ في الرسم على لوحة النقد بسلسلة أفلام، مثل «المرآة» (1997)، و«الحلقة» (2000)، و«أوفسايد» (2006). ما هي إلا سنوات قليلة حتى حُكم عليه بالمنع من الإخراج، وبالسجن لعشرين سنة (لم تُنفذ؛ بل استُبدل بها حكم يلزمه المنزل الذي يعيش فيه).
هذا لم يمنعه سراً من تحقيق «تاكسي» (2015)، و«ثلاثة وجوه»، وحفنة من الأفلام القصيرة، مثل «مخبوء» (2020)، و«حياة» (2021). أكثر من ذلك، تحدّى الحكم الصادر بحقه أكثر وأكثر، عندما حقّق «ستارة مسدلة» (Closed Curtain) داخل بيته، وسرّب الفيلم إلى «مهرجان برلين»؛ حيث فاز بالجائزة الثانية سنة 2013.
لذلك، فإن الحكم المتجدد على باناهي، ليس حالة حاضرة؛ بل تعود إلى سوابق عدّة، تجددت بعد كل عرض لأحد أفلامه في المهرجانات الدولية.
كيف ستواجه السلطات الإيرانية المعنية احتجاجات المجتمع الثقافي والسينمائي؟ غالب الاعتقاد أنها لن ترضخ؛ لكن بقعاً سوداء أكثر باتت تلطّخ سمعة مجتمع لا يود الانفتاح على عالم متغيّر.