«داعش»... العالم السفلي و«التكلفة السلطانية»

عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)
عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)
TT

«داعش»... العالم السفلي و«التكلفة السلطانية»

عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)
عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)

بعد أكثر من 3 سنوات من إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بزهو هزيمة خلافة «داعش» بنسبة «100%»، تواصل الجماعة الإرهابية استغلال حالة عدم الاستقرار في المنطقة والفقر المستشري بها لتجنيد مقاتلين جدد وتمويل عملياتهم.
وتبعاً لما أفاد به صحافيون مقيمون في المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي يقودها الأكراد في شمال شرق سوريا، فإن «داعش» تستخدم الآن تكتيكات شبيهة بالمافيا لتمويل عملياتها. ومن دون امتلاك أي أرض مادية، تدير خلايا الجماعة خططاً مربحة لكسب المال مثل التهريب والابتزاز، مدعومة بالتهديد الحقيقي المتمثل في العنف الجسدي والموت.
ورغم ذلك، لا تزال الجماعة بعيدة كل البعد عن أيام مجد «داعش» كأفضل المنظمات الإرهابية تمويلاً في العالم. عام 2014 عندما كانت «الخلافة» في أوجها، كان تنظيم «داعش» يربح 3 ملايين دولار يومياً، جاء معظمها من بيع النفط في السوق السوداء لدول مثل تركيا وسوريا. وشملت مصادر التمويل الإضافية عمليات خطف ونهب وتبرعات أجنبية. إلا أنه مع سقوط الخلافة جفت مصادر التمويل. وبعد تمشيط المناطق التي تحت سيطرتها، صادرت قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي كميات ضخمة من الذهب والأموال كانت بحوزة «داعش».
بعد هزيمته الأخيرة على الأرض في الباغوز في مارس (آذار) 2019، لم يختفِ تنظيم «داعش» والمتعاطفون معه تماماً. وبدلاً عن ذلك، ذهب أفراد الجماعة تحت الأرض وأعادوا تنظيم أنفسهم في خلايا نائمة جاهزة للظهور من جديد وإحداث الفوضى. وللبقاء على قيد الحياة بهذه الطريقة السرية، تعمل «داعش» الآن مثل واحدة من جماعات الجريمة المنظمة. وغيّرت «داعش» طريقة عملها في الشمال الشرقي إلى تمرد منخفض المستوى، وحافظت على إيقاع منتظم لهجمات الكر والفر ضد قوات سوريا الديمقراطية مع استخدام التخويف والإكراه لفرض الامتثال والإتاوات المالية من السكان العرب الذين يختبئون فيما بينهم.
أصبح التهريب الآن الطريقة الرئيسية لـ«داعش» لكسب المال. وتعتمد الجماعة بشكل مباشر على جمع الإتاوات من الأفراد المهربين الذين يديرون المعابر النهرية غير الرسمية والخطيرة في كثير من الأحيان على نهر الفرات والتي تفصل المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية على الضفة الشرقية عن الأراضي التي يسيطر عليها نظام الأسد والميليشيات التي يقودها الحرس الثوري الإيراني على الضفة الغربية.
وحسب دارين خليفة، المحللة البارزة لدى مجموعة الأزمات الدولية (إنترناشونال كرايسس غروب)، فإن «عناصر (داعش) استغلوا حدود المنطقة المليئة بالثغرات وطرق التهريب مع العراق والمعابر الداخلية التي يسيطر عليها المتمردون المدعومون من تركيا في الشمال، والنظام على ضفتي نهر الفرات الجنوبية والغربية، بغرض تحويل الأموال والمقاتلين وحتى المواشي».
وشرحت خليفة أن «(داعش) يعمل مثل المافيا التي تستغل المؤسسات والشركات الحاكمة من خلال الابتزاز. في بعض الحالات، تولت الجماعة تعيين موظفي المجالس المحلية ليكونوا نقطة محورية في تحصيل المدفوعات (في شكل إما ضريبة وإما إتاوة) من أعضاء المجلس الآخرين».
وفي الوقت الذي تعمل خلايا «داعش» في شمال سوريا، بما في ذلك محافظة إدلب وريف مدينة الرقة وبلدة منبج، فإن معقلها يتمثل في دير الزور والقرى المحيطة بها. وتولت قوات سوريا الديمقراطية، بمعاونة قوات التحالف، إجراء عمليات عسكرية وأمنية بشكل منتظم تستهدف الخلايا النائمة لـ«داعش» في المنطقة. إلا أن المهمة أصبحت أكثر صعوبة بسبب التوترات المستمرة بين القبائل العربية المحلية وقوات سوريا الديمقراطية. واستغلت «داعش» هذه الانقسامات لكسب مخبرين من أبناء السكان المحليين، ما جعل مهمة قوات سوريا الديمقراطية في محاربة «داعش» شبه مستحيلة. جدير بالذكر هنا أن تجارة النفط والوقود توفر مصدراً مهماً آخر للإيرادات، وترتبط ارتباطاً مباشراً بعمليات التهريب التي يتلقى «داعش» من ورائها عائدات مالية. وحسب صحافي مقيم في دير الزور، فإن «داعش» يحصل على أموال من أصحاب آبار النفط وخزانات الغاز وناقلات النفط في جميع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا مقابل عدم مهاجمتهم.
ويشمل ذلك شركة «القاطرجي» التي لديها عقود لنقل النفط مباشرة من مناطق الإدارة الذاتية إلى مناطق سيطرة نظام الأسد. ويدير مجموعة «القاطرجي» حسام أحمد قاطرجي المدرج على قائمة العقوبات الأميركية لكونه وسيطاً في تجارة القمح والنفط بين نظام الأسد و«داعش»، ويقال إن الأخير يدير ميليشياته الخاصة التي توفر الأمن للشاحنات التي تعبر الطرق الصحراوية الخطرة في شرق ووسط سوريا، حيث تتزايد معدلات هجمات «داعش».
وحسب طلاس سلامة، قائد جيش أسود الشرقية، فإن الإتاوات التي يفرضها «داعش» على جميع التجار بمن فيهم أصحاب خزانات النفط والمهربين عند المعابر غير النظامية في المنطقة، تندرج جميعها تحت اسم «الكلفة السلطانية» (تكلفة السلطة)، بدلاً عن «الزكاة». وبعد أن فقد «داعش» السيطرة على الأرض، فقد كذلك حقه «القانوني»، وفقاً للمبادئ الإسلامية، في تحصيل الزكاة من السكان المحليين. وبدلاً من ذلك، تضمن الإتاوات المفروضة احتفاظ الجماعة بمصدر مستمر للإيرادات، إلى جانب السيطرة على السكان.
ومثلما الحال مع الزكاة، تُفرض «الكلفة السلطانية» على كل شخص قادر على الدفع. ويتضمن ذلك كبار ملاك الأراضي وأصحاب الأعمال والمهربين، وأيضاً أي مدني يمكن وصفه تقريباً بأنه من الطبقة الوسطى. كما يشكل موظفو المنظمات الدولية والأطباء والمعلمين أهدافاً مفضلة في هذا الإطار. تبدأ قيمة الضريبة من 2 إلى 4% سنوياً من قيمة الممتلكات المملوكة للفرد أو الثروة الإجمالية للفرد. ويرتفع معدل الضريبة بشكل كبير بالنسبة لتجار النفط ويمكن أن يصل إلى 10000 دولار شهرياً في بعض الحالات. وبلغ ترهيب «داعش» درجة أن المسؤولين في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقادة قوات سوريا الديمقراطية يفضلون الدفع، بدلاً عن المخاطرة بالتعرض للقتل.
ومن أجل تحصيل «الكلفة السلطانية»، يرسل «داعش» برسائل عبر تطبيق «واتساب» باستخدام رقم غير مسجل بأمر من الأمير المسؤول عن المنطقة. وتنص الرسالة على أن الدفع مطلوب في غضون عدة أسابيع. وإذا لم يتم السداد، يجري إرسال تهديد صريح وواضح. وتختلف طبيعة التهديد تبعاً للأمير المسؤول عن المنطقة، حسبما ذكر صحافي مقيم في الرقة، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته. في بعض الأحيان، يجري وضع رسالة مكتوبة مرفقة برصاصة أمام المنزل، أو يتم تسليمها باليد للشخص الذي يرفض الدفع. وفي أوقات أخرى، يجري إرسال صورة لمنزل الشخص أو ممتلكاته إلى جانب إحدى العبوات الناسفة أو مقطع فيديو لانفجار سابق. باختصار، فإن الترهيب يظل البصمة المميزة لـ«داعش».
بعد ذلك، يجري الاتفاق على الموقع، حيث سيجري تسليم المبلغ المطلوب. في المقابل، يجري تقديم فاتورة مختومة بختم المنظمة لمنع أي محاولات إضافية لتحصيل التكلفة الملكية مرة أخرى.
وقد تعرض عدد من الأشخاص للقتل بالفعل لرفضهم الدفع. ففي يوليو (تموز) 2020، قُتل مدني في مدينة البصيرة لهذا السبب. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، قطعت عصابات «داعش» رأس رجلين كانا يحاولان تحصيل إتاوات «داعش». وتركت الجماعة ملاحظة تحذّر الآخرين من أنهم سيلقون المصير ذاته. عام 2020 تم الإبلاغ عن حالات تدمير محاصيل زراعية ومنازل ومحلات تجارية بعبوات ناسفة، بما في ذلك عيادة أسنان ومركز صحي صغير في ريف دير الزور الشرقي تعرض للتفجير منذ فترة قصيرة.
وبينما تحدثت قوات سوريا الديمقراطية علانية عن عملياتها لاستهداف الخلايا النائمة لـ«داعش» في المناطق الخاضعة لسيطرتها، لم تصدر تصريحات رسمية أو حتى ضمنية عن قيام «داعش» بتحصيل ضرائب من نوع الزكاة أو تحذير المواطنين بشأن الدفع. من المحتمل أن تكون قيادة قوات سوريا الديمقراطية غير راغبة في الاعتراف بحجم المشكلة، الأمر الذي ربما تقف وراءه عدة أسباب منها أن هذا ينعكس بشكل سيئ على سجلّها وصورتها بمجال مكافحة «داعش». ويتمثل سبب آخر في أن هذا الأمر ينطوي على المخاطرة بإشعال مزيد من الاحتكاكات مع القبائل العربية في شمال شرقي سوريا.
وفي حين أن خلايا «داعش» صغيرة العدد ولا تمثل المجتمع الأوسع، إلا أنها تحافظ على الدعم الكافي من شبكات القرابة الوثيقة للاستمرار في الوجود وممارسة نفوذها على الصعيد المحلي، الأمر الذي سمح بدوره للتنظيم الإرهابي بالاستمرار في مخططاته المالية المختلفة. ربما تكون الخلافة المادية قد ماتت، لكن «داعش» الآن يسكن العالم السفلي. وبالتالي، لم تعد القنابل الموجهة بدقة هي الحل.
* باحثة بريطانية



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.