الأرمن.. تأثيرهم وبصماتهم على المشرق العربي

تحكّموا بمصير الدولة الفاطمية وتولّى 8 منهم الوزارة.. وانتفعوا من الصفويين وحظوا برعاية بريطانية في العراق العثماني (2-2)

جامع الحاكم بأمر الله
جامع الحاكم بأمر الله
TT

الأرمن.. تأثيرهم وبصماتهم على المشرق العربي

جامع الحاكم بأمر الله
جامع الحاكم بأمر الله

في الحلقة الثانية من بحثنا في تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي نتعرض للعلاقة مع مصر الفاطمية والمملوكية، وكذلك جوانب من تاريخ توطّنهم في العراق ومنطقة الخليج وإيران. ومما يلفت الدور السياسي الذي لعبه الأرمن الذين اعتنقوا الإسلام في كل من الدولتين الفاطمية في مصر والصفوية في إيران، ناهيك من بروزهم الإداري والتجاري والحرفي.

قد يبدو عنوان العلاقة مع الدولة الفاطمية لأول وهلة غريبا، لأن قلة نادرة من القراء ربما تعرف هذا الجانب من تأثير الأرمن في الكيانات السياسية التي قامت في العالمين العربي والإسلامي في العصر الوسيط، غير أنها حقيقة ذكرتها المصادر التاريخية، لا سيما في القرن الأخير من الحكم الفاطمي بين عامي 1074 و1163م.
هذه كانت حقبة عابرة لاتفاق دائم بين الأرمن الطائفيين المتعصبّين والمسلمين، نوقشت بمحتواها الشامل كظاهرة لما عُرف بـ«الفاطميين الأرمن»، وتُعدّ جزءًا من تيار تاريخي بدأ قبل رسوخ المسيحية في «أرمينيا الكبرى» بشرق هضبة الأناضول و«أرمينيا الأخيرة» في كيليكيا بغرب الأناضول وسواحل المتوسط خلال القرن الثالث الميلادي. ومنذ القرن الرابع وحتى القرن الخامس عشر شكّلت النزاعات والحركات مرحلة سياسية وثقافية كانت بعمومياتها مذاهب دينية اتخذت لها قرارات سياسية، وكثيرا ما كانت معاكسة للكنيسة الأرمنية في منظورها الشامل.
لكن جزءا من التاريخ الثقافي الأرمني خلال العصور الوسطى ظلّ مرتبطا بجذور شرق أوسطية، وتحديدا، بالمناخ الإسلامي، إلا أن المؤرخين الأرمن تجاهلوا هذا الارتباط واعتبروه مجرّد شوارد لا يُعتدّ بها، وغاب عن بالهم أنه الحلقة المفقودة للتاريخ الإسلامي الأرمني.
وهنا نشير إلى أن وثائق كتبها «الإسماني» هوفهان الأرضرومي (توفي عام 1293م) - والإسمانية (Nominalism) مذهب فلسفي يقول بأن المفاهيم المجرّدة لا وجود حقيقيا لها بل هي مجرد أسماء لا غير - تُعدّ خلاصة لأفكار ظهرت خلال القرن العاشر الميلادي هي «رسائل إخوان الصفاء»، أطلق عليها اسم «رؤية من كتابات المسلمين ومفكّريهم». وممّا قاله هوفهان «لمن يطلب المعرفة من الأرمن ألا يهمل ما يكتبه الأقوام الآخرون»، قاصدا المسلمين ومفكّريهم. كذلك لوحظ أنه كان يكتب عن تضامن شباب الأرمن بالأسلوب نفسه الذي كان الخليفة العباسي الناصر (1180 – 1225) يكتب به أفكاره عن «تشكيلات الفتوة» في بغداد التي لعب المفكّرون الإسماعيليون دورًا مهمًا في بعثها، وبالتالي، اعتُبرت كتابات هوفهان أول اتصال فكري بين الأرمن والمسلمين خلال العصور الوسطى.
أما كتُب «الإسماني» الآخر، كريكور التاتفي (1346 - 1409)، في الأدب الجدلي، فكانت تخاطب متكلّمي الفارسية من غُلاة المسلمين الشيعة، الذين كانوا مثل الأرمن المتعصبّين المعروفين منذ القرن الرابع. وعرض فيها سبعة قرون من التحالف العسكري والسياسي بين مسلمي تلك الأصقاع والأرمن، ومن ثم تهجير الأرمن إلى نواحٍ مختلفة من الإمبراطورية البيزنطية مثل قبرص وصقلية وصولا إلى بولندا، ما جعل غالبيتهم تعتنق الإسلام. ومن هذه الفئة جاء عدد من الوزراء الفاطميين من ذوي الأصول الأرمنية. وهنا ينبغي تذكّر أن التأثير الإسلامي أخذ ينمو ويحظى بقبول جماعي خلال فترة السيطرة الإسلامية على أرمينيا لمدة تقارب القرنين بعد موجة الفتوحات الإسلامية الأولى. ومن ثم انخرطت في النشاط العسكري مجموعات من المكوّن الأرمني، الذي كانت تغلب عليه حياة الزراعة والرّعي، ونمّت لديه المهارات القتالية والعسكرية، وقاتل بعض الأرمن غير المتعصبّين المعروفين بـ«الأرمن الشمسية» في بلاد الشام بالفعل ضد «الفرنجة» (أو الصليبيين) في الحملات الصليبية.
ولاحقا ازدادت هجرة الأرمن إلى بلاد الشام ومصر، ووفق المصادر الأرمنية فاقت أعداهم المائة ألف. وفي مصر بالذات بدأ نشاطهم نحو منتصف القرن الـ11 الميلادي انطلاقا من بروز دورهم في الجيوش الفاطمية، وتألف منهم ما سمي بـ«الجيوشية»، ثم تدرّجوا إلى حكم الولايات، ووصولا إلى التوزير، مع تعيين «أبي النجم» بدر الجمالي أول وزير أرمني مسلم عام 1074م.
لا بد لنا هنا من التوسّع في شرح هذه الفترة الأرمنية في مصر الفاطمية وما واكبها من أحداث أدت إلى بروزهم نتيجة النزاعات المستمرة بين الأتراك والبربر والأفارقة المنضوين في الجيوش الفاطمية، والتي أدت إلى أزمات شلّت مفاصل الحكم نتيجة المجاعة، فشارف الحكم على الانهيار، وبلغت أسوأ مراحلها إبان حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي امتد نحو 60 سنة.

بدر الجمالي

بدأت مسيرة بدر الجمالي صعودا مع تعيينه حاكما لدمشق عام 1063م (455هـ). وكان حقا من ألمع القادة العسكريين وأكثرهم حنكة وأقدرهم إدارة، وأثبت قدراته الاستثنائية عند توليه قيادة العسكر في عكا بفلسطين إبان فترة الصدامات مع السلاجقة الأتراك والطوائف المحلية المتمردة على الحكم الفاطمي الإسماعيلي. ونجح القائد اللامع في فرض الاستقرار على السواحل بين الشام ومصر، فاستنجد به الخليفة المستنصر عام 1073م. وحين عاد بدر إلى القاهرة رأى أن يكون على رأس أولوياته النظر في الشؤون الاقتصادية وتحسين أوضاعها والخروج من الضائقة المالية المطبقة على الدولة، والقضاء على محنة المجاعة، وبعدها إنقاذ البلاد من خطر السلاجقة ومنعهم من مهاجمة مصر نهائيا.
وحقق بدر الجمالي ما هدف إليه، وقضى على الخطر السلجوقي، فأطال عمر الحكم الفاطمي 100 سنة إضافية. وعندما توفي عام 1094م ترك للمستنصر حكما راسخا وقويا، وجاء شكره والامتنان له بما فاق المتوقّع إذ تزوّج المستنصر ابنته، وأعطيت الوزارة لابنه الأفضل من بعده. ومشى الأفضل على سيرة أبيه فشكّل معه عمليا «حكم الأرمن» الذي استمر نحو قرن.
وربما يلاحظ المتابع أن إخلاص الأرمن المسلمين لخلافة الفاطميين الإسماعيليين، على الخصوص، راجع لاحتمالين أساسيين:
الأول: العلاقات الوطيدة التي أرساها الداعية الإسماعيلي أبو حاتم الرازي (ت 932م)، الذي زار أرمينيا وتقرّب من أحبار الكنيسة الأرمنية وكان على معرفة وافية بمذاهبها واتجاهاتها، مما عزّز التقارب بين الفئتين.
والثاني: زواج الخليفة المستنصر من ابنة بدر الجمالي، الذي أثمر عن إنجاب ولده أحمد (الخليفة المستعلي بالله لاحقا) الذي كان الوزير الأفضل بن بدر خاله.
المستنصر، ثامن الخلفاء الفاطميين والإمام الثامن عشر للإسماعيليين، توفي بعد فترة وجيزة من وفاة بدر عام 1094م، مخلّفا أربعة أبناء هم: نزار وعبد الله وإسماعيل وأحمد. وعند وفاة المستنصر طالب الوزير الأفضل نزار – وكان في الخمسين من عمره حينئذٍ – بإبراز «النص» المكتوب لتوليته (وهذا مبدأ جعله الإمام جعفر الصادق شرطاً لانتقال الإمامة).
لكن نزار أخفق في ذلك وفرّ إلى الإسكندرية واستعان بمريديه، ومنهم حسن الصبّاح، الذي ادعى أن المستنصر كان قد أخبره شفاهةً حين كان في القاهرة عام 1086م بأحقّيّة نزار بالخلافة. غير أن الأفضل بن بدر بما لديه من سطوة ونفوذ أسند الخلافة إلى ابن أخته أحمد الذي سرعان ما حكم باسم المستعلي بالله – كما سبقت الإشارة – وكان له من العمر يومذاك 18 سنة. ثم هاجم الأفضل نزار ومناصريه، وبعد أسره جلبه إلى القاهرة وسجنه حتى مات في السجن (وفق رواية أتباع المستعلي).
وقع عند هذا المفصل الانشقاق الكبير في المذهب الإسماعيلي بين النزارية (يعرفون في الهند بـ«الخوجا»، وفي باقي العالم بـ«الآغاخانية») والمستعلية (الذين انقسموا إلى فرقتين هما «الحافظية» و«الطيبية» – «البهرة» في الهند – وهؤلاء بقوا ملتزمين النهج الفاطمي)، وظهور حركة الحشّاشين (Assassins) بزعامة حسن الصبّاح، ذي الأصول الحميرية اليمنية، في جبال شمال إيران - وهذا موضوع يطول شرحه.
لكن ما يمكن قوله هنا هو أن فترة توزير الأرمن المسلمين بدأت مع بدر الجمالي عام 1073م، وانتهت بعد مقتل ابن رزق (رزيق) آخر وزير أرمني ، عام 1163م. وتولّى خلالها ثمانية وزراء منهم. وللعلم، امتد العهد الفاطمي 262 سنة تولّى الخلافة خلالها 14 خليفة، حتى أفول نجمها عام 1171م، وتسلُّم الأيوبيين السلطة وإعادة صلاح الدين الأيوبي المذهب السنّي إلى مصر.

الأرمن والدولة الصفوية – إيران

لعب الشاه عباس (أعظم شاهات الصفويين) دورا كبيرا في توطين الأرمن في إيران عند نهاية القرن السادس عشر الميلادي ومطلع القرن السابع عشر – وتحديدا عام 1605م – وذلك إبان حروبه المستمرة ضد العثمانيين. وكان العثمانيون نتيجة إنهاكهم في حروب البلقان واجهوا موجة من الثورات والانتفاضات داخل دولتهم، سببها ضيق الناس من استمرار الحروب والتجنيد الإجباري والضرائب الباهظة المفروضة عليهم. ومنحت تلك الفترة الحرجة بين 1596 و1608م فرصة ذهبية استغلها الشاه عباس لنسف اتفاقيات السلام المعقودة بين الفريقين، عازيا ذلك إلى فقدان الأمان وتكرار تعديّات ولاة المناطق الحدودية على أراضي دولته.
استغل الشاه عباس تلك الظروف، وإن بدا لبعض الوقت وكأنه غير مكترث بما يحدث في الشمال مركزا جهوده جنوبا في التصدي للتوسع البرتغالي في الخليج. غير أنه سرعان ما باغت العثمانيين بالمسير شمالا نحو مدينة قزوين (العاصمة القديمة)، ثم احتلال اردبيل وتبريز. ومن هناك عبر بجيشه نهر آراس (آراكس) متوغّلا في أرض أرمينيا، حيث استسلمت مدنها له دون مقاومة، حتى غدا على مشارف العاصمة الأرمنية إريفان (يريفان). ولقد رافق الشاه الصفوي في زحفه هذا ممثل لإمبراطور النمسا رودولف الثاني الذي استقبله الأرمن بحرارة كونه – يومذاك - ممثل أقوى دولة مسيحية في أوروبا، وكانت تقاوم التوسّع العثماني في العالم المسيحي. ونظم الأرمن احتفالا مشهودا للجيش الصفوي حين دخل مدينة جلفا، التي كانت لتجّارها مصالح واسعة مع إيران.
وعلى صعيد تلك المعارك، استسلمت الحامية العثمانية في إريفان للصفويين طوعا بعد محاصرتها العاصمة الأرمنية، وتلقى الشاه الصفوي تهاني الإمبراطور أكبر، إمبراطور الهند المغولي. وكنتيجة للتوسع الصفوي بدأت الإمبراطوريات والممالك الأوروبية ترسل سفراءها إلى الشاه عباس، وكانت الغاية أن تتضامن كلها للانقضاض على العثمانيين الذين كانوا يقلقون أوروبا المسيحية. وفي المقابل، جرّد العثمانيون حملة عسكرية لصدّ تقدم جيش الشاه عباس قادها القائد (والصدر الأعظم لاحقا) سنان باشا.
وهنا، قرّر الشاه عباس الانسحاب، وطلب ذلك أيضا من الأرمن في إريفان ونخجوان وجلفا، وناشدهم ألا يتركوا أي مؤن أو طعام للجيش العثماني المتقدم، وبلغت أعداد الأرمن المنسحبين مع القوات الصفوية عبر نهر آراس نحو 60 ألف عائلة. حظي أرمن جلفا لذلك بمعاملة مُميزة من الشاه، فباتوا وسطاءه المفضّلين في توسيع تجارة الحرير الخام إلى أوروبا. وكان هذا الحرير يرسل إلى أسواق أوروبا عبر حلب مقابل عملات فضية، كما كان يرسل وفودا منهم إلى البندقية بإيطاليا للقيام بالمهمة نفسها، خصوصا أن الشاه عباس نفسه كان من أكبر المتاجرين بالحرير الخام، بل كان عمليا يحتكر تجارته في كل البلاد.
بناءً على ما سلف، تجدر الإشارة إلى تولّي الأرمن الوزارة حين ساءت الأحوال السياسية والاقتصادية في دولة الصفويين في أعقاب وفاة الشاه عباس، كما حصل لهم من قبل مع الفاطميين. إذ جرى توزير خليفة سلطان عام 1654م، وبعد وفاته خلفه محمد بك وهو مثل سلفه من الأرمن المسيحيين الذين تحوّلوا إلى الإسلام. ويمكن اعتبار عام 1605م بدء تاريخ استقرار الأرمن في إيران، ومن ثم ازداد تدفقهم، ومنها انتشروا لاحقا في عدد من الأقطار العربية بعد سقوط الدولة الصفوية عام 1722م التي كانت تحميهم.

الأرمن في العراق إبان الحكم العثماني

لعبت الأقلية الأرمنية دورًا مهمًا وكبيرًا في العراق، وتحديدًا في القطاع التجاري، منذ بداية القرن الميلادي السابع عشر مستفيدة من سياسة الصفويين وحمايتهم، وكانت تلك السياسة تقوم على تنشيط الحركة التجارية اعتمادًا على الأقليات الإثنية. وبالإضافة إلى الأرمن استفاد أيضا من هذا المناخ التجار اليهود والهنود (البانيان). وكانت الدولة الصفوية قد جعلت من عاصمتها أصفهان مركزا تجاريا رئيسيا لجذب المصالح الأوروبية في منافسة مباشرة مع النفوذ العثماني الذي كان يغطي العراق، ونجحت في التحالف مع بريطانيا بشل التوسع البرتغالي في الخليج والقضاء عليه نهائيا عام 1622م. وهنا من المفيد الإشارة إلى أنه إبان فترة الاحتلال الصفوي لبغداد تولى حكم المدينة ضابط من أصل أرمني هو بكداش باشا (1630 – 1635م). غير أن غروب شمس الصفويين عام 1722م حمل معه فقدان الأرمن الرعاية القوية التي حظوا بها نحو قرن من الزمن، لكنهم مع ذلك حافظوا قدر الإمكان على مكانتهم المالية والتجارية المهمة، وظل وضعهم طيبا قرنا آخر، أي طوال القرن التاسع عشر.
وتقرّ جميع المصادر بأن التجار الأرمن الذين استقروا في مدينة البصرة كانوا يسيطرون على معظم التجارة مع الهند، إذ تذكر تقارير وكالة الهند الشرقية البريطانية عام 1729م أنهم كانوا وراء عمليات الاستيراد من البنغال، وهو ما تثبته سجلات (Manifests) السفن البريطانية العاملة على خطوط الهند وموانئ الخليج. كذلك فإن السفن المغادرة من البصرة إلى سَورَت (Surat) كانت تحمل إرساليات من اللؤلؤ لحساب تجار أرمن. وكانت البصرة حينذاك مركزا رئيسيا لتجارة اللؤلؤ حتى إن اللؤلؤ في الهند كان ينسب إليها فيقال باللغة الهندية «موتي بصرة» أي لؤلؤ بصري. ثم إن السجلات نفسها تشير إلى تردد التجار الأرمن على الهند طوال القرن، وكذلك إلى العلاقات مع التجار الأرمن في حلب بشمال سوريا. والجدير بالذكر أن خط القوافل الذي يربط أوروبا والهند وشرق آسيا عبر البحر الأبيض المتوسط كان يمرّ بحلب ثم البصرة، ومنها إلى الهند فالشرق الأقصى.
أيضا، كانت المشاركات العائلية بين طوائف التجار البصريين تضع التجار الأرمن خلال السنوات الممتدة طوال القرن في المرتبة الثانية، بإحدى عشرة مشاركة، مباشرة خلف المسلمين العرب (16 مشاركة)، متقدمين على التجار الفرس بالمرتبة الثالثة (9 مشاركات). أما التجار اليهود فجاءوا في المرتبة الرابعة (5 مشاركات). وكان التنافس التجاري الأشد بين الأرمن واليهود.
ومعلوم أنه لا بد لطبقة التجار، من جميع الأطياف، من التمتّع بدعم الحكومات أو المؤسسات الضخمة لأسباب عرقية أو دينية أو طائفية. وفي هذا السياق نتوقف عند الروابط القوية التي قامت بين البريطانيين والأرمن. وكان يُعتقَد منذ القرن السابع عشر أن التجار الأرمن كانوا يشكلون عوائق أمام التجار الأوروبيين تمنعهم من التغلغل في الأسواق المحلية، فكانت منافستهم حادة إلى درجة العرقلة للتجار البريطانيين والهولنديين في مدن الإقليم وموانئها. ولغاية عام 1724م كان الوكيل البريطاني في البصرة يشكو من مزاحمة الأرمن التي «تصل إلى حد الضرر وفي كل مناسبة».
إلا أن التنافس تحوّل إلى تعاون وتوافق، خاصّة بعدما فقد الأرمن دعم الصفويين ورعايتهم، وهكذا تحوّلوا لتعويض سندهم السابق بصداقة البريطانيين ورعايتهم وحمايتهم. وحقا، كان البريطانيون راغبين في لعب هذا الدور، وكانوا يبرّرون ذلك بأنه يستحيل وجود تجارة مُربحة لبلد ما من دون مساندة من التجار المحليين. كما أن من عوامل نجاح هذه العلاقة إجادة اللغة وتحديد أو تنظيم مهمة الوكيل وهذا ما توافر للبريطانيين مع الأرمن.
وفي المقابل، أثبت البريطانيون القدرة على تأمين الحماية المطلوبة بامتياز عندما سُجن تاجر أرمني عام 1754م على أثر شرائه عبدا مسلما، وتمكّن الوكيل من إطلاق سراحه، وكانت تلك أول محاولة أثبتت فعليا مجال التعاون. وفي نهاية القرن أصبح كل التجار الأرمن محصّنين بالرعاية، بل والحماية، البريطانية وكأنهم جزء من الوكالة البريطانية.
أدى هذا الوضع الجديد إلى تفاقم الخلافات بين التجار الأرمن ومنافسيهم اليهود، والتي بلغت مداها الأقصى عام 1791م عندما عُثر على جثة تاجر يهودي مرمية قرب مكبّ للفضلات خارج حدود مدينة البصرة. ويومذاك اتهم اليهود رجلا أرمنيا بجريمة القتل، وعلّلوها بالكراهية الدينية المزمنة بين المسيحيين واليهود، وتجمّع مئات من اليهود أمام مقر المتسلّم مطالبين بقصاص القاتل. وبالفعل، أمر المتسلّم باعتقال عدد من الأرمن، إلا أنه عندما تناهى النبأ إلى أسماع الوكيل البريطاني قابل المتسلّم وأعلمه بأن الأرمن تحت حماية بريطانيا. وبعدها تعقّدت الأمور وانتقلت الشكوى إلى سليمان باشا، الوالي العثماني في بغداد، الذي أخذ جانب اليهود. وكانت النتيجة انسحاب الوكالة البريطانية وإغلاقها أعمالها وانتقالها إلى الكويت، وكان ذلك يوم 30 أبريل (نيسان) 1793م، وبقيت في الكويت لمدة سنتين.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأرمن كانوا في تلك الفترة يشكلون غالبية المسيحيين في البصرة، غير أن نسبتهم تناقصت بفعل تزايد هجرات الكلدان (النساطرة الكاثوليك) خلال القرن التاسع عشر من بغداد وحلب، ثم هجرات الآثوريين (النساطرة الأرثوذكس) من محيط الموصل، للعمل أساسا على البواخر النهرية العاملة بين بغداد والبصرة، إضافة إلى السريان (اليعاقبة) الكاثوليك وبنسبة أقل السريان الأرثوذكس. ومجدّدا، ازدادت أعداد الأرمن بعد ما وصف بالمذابح الأرمنية بين 1911 و1917م. واستقرّ اللاجئون الأرمن في مدنٍ من خيام أقامتها لهم السلطات البريطانية بعد احتلال البصرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1914، إلا أن اللاجئين نقلوا لاحقا إلى مساكن خاصة بهم في ما عُرف بـ«كامب أرمن» (معسكر الأرمن)، بقيت من دون تغيير حتى ستينات القرن العشرين. وكان الأرمن يشكلون قوة عاملة من الكتبة وذوي المهارات الحرفية العالية عملت في شؤون الموانئ وشركات النفط وغيرها.

الأرمن والخليج

عموما لم يكن للأرمن شأن يذكر أو وجود مؤثر، بل كانت هناك مبادرات فردية وشذرات فردية، منها ما يلي:
في الكويت، كانت المقابلات بين الشيخ مبارك (الكبير) الصباح وقباطنة السفن الروسية تجري باللغة الفرنسية. وذكر قبطان المدمرة «أسكولد» (Askold) عند زيارته الكويت يوم 9 نوفمبر 1902م أن المترجم كان رجلا أرمنيا يعمل وكيلا لشركة بواخر في الكويت، ويسكن في بيت الشيخ مبارك، مما يعني أن الأرمن كانوا من القلة التي تجيد اللغات الأوروبية. وتذكر السجلاّت البريطانية أن أفرادا أرمن عملوا في تجارة التبغ وموظفين في شركات الملاحة الأجنبية.
وفي البحرين، كانت لعبد النبي آغا جعفر كازروني تجارة ناشطة، وكان على علاقة وثيقة بتجار أرمن في البصرة بينهم كاربيبيان ودرفيشيان، وفي جلفا الجديدة بأصفهان كذلك.
أما في بوشهر، بجنوب غربي إيران، فاشتهرت عائلة مالكام (مالكولم) التي كانت لها علاقات قديمة أولا في بندر عباس إبان حكم الصفويين، ثم لاحقا في بوشهر. وبرز من هذه العائلة جيمس آرتون (وارطان) مالكولم (1888 – 1952م) الذي درس في جامعة أكسفورد البريطانية العريقة وقبلها في مدرسة خاصة راقية تحت رعاية السير ألبرت ساسون من مؤسسي البنك الشرقي، وكان صديقا للسير مارك سايكس أحد «مهندسي» اتفاقية «سايكس – بيكو»، وكان ممثلا للمنظمة الأرمنية العالمية في لندن. ويذكر أن بعض التجار من بقايا فترة الصفويين استقروا في بوشهر تحت الحماية البريطانية عندما كانت مقرّ المقيمية السياسية للمعتمدين البريطانيين في الخليج.

مقتطفات عن الأرمن من «كتاب الظاهر بيبرس» ـ مصر

> إبان عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في مصر والشام، كانت تقوم ممالك مسيحية مجاورة منها في كيليكيا، بجنوب الأناضول، منها مملكة أرمينيا المتأخرة (1223 - 1280) التي توّج أول ملوكها الإمبراطور فريديريك الأول بارباروسا ملك ألمانيا عام 1198، وكان لعائلتها المالكة مصاهرة مع أمراء أنطاكية Antioch. ولقد قامت هذه المملكة بموازاة ممالكة الفرنجة (الصليبية) في شرق المتوسط وزالت بزوالها.
ومن ثَم، غدت كيليكيا حاضنة للدولة السلجوقية المسلمة في منتصف القرن الميلادي الثالث عشر، التي توسّعت لاحقًا لتشمل كل بلاد الأناضول، وكان السلطان ملك شاه من أبرز سلاطينها، وفي عهده غدت دولة مترامية الأطراف ضمت العراق وإيران، وبلغت من القوة حد إلحاق جيشها الهزيمة بجيش الإمبراطور رومانوس السادس.
بعدها احتلّ المغول أرمينيا عام 1232 في زحفهم الكبير الذي قوّض الدولة العباسية في بغداد يوم 10 فبراير (شباط) 1258. وكان الملك هيثوم الأول (ملك أرمينيا الصغرى 1227 – 1270) قد توقّع سيطرة المغول الآتية، التي تحققت بالفعل عام 1243. وعندما كُسر الجيش السلجوقي استسلم هيثوم دافعًا من الأموال ضرائب تبغي سلامة مملكته وحمايته من أعدائه، مع العلم بأن السلاجقة أعادوا بعد ذلك تنظيم صفوفهم، وتحالفوا مع الأمير الأرمني لامبروت. وعندها ساعد الملك الأرمني القائد المغولي هولاكو في هجومه على حلب في فبراير 1260، كما شاركه بنصيب كبير من الغنائم، وأعاد إليه هولاكو ما اغتصب من أراضيه.
وعندما أرسل الظاهر بيبرس - سلطان المماليك الذين خلفوا الأيوبيين في حكم مصر - جيشه إلى حلب عام 1262 لمهاجمة المغول شارك الملك الأرمني هيثوم المغول - الذين كان قد ساعدهم على احتلال سوريا - بالتصدي لجيش المماليك ومعه بعض القبائل العربية القاطنة في البادية السورية. ولكن ما أن حلّ شهر يونيو (حزيران) 1264م (شعبان 662ه) حتى أطبق جيش بيبرس على جيش الأرمن من جميع الجهات وألحق بالأرمن هزيمة شنعاء وفرّ ملكهم. ولاحقًا، اضطر هيثوم للتنازل عن قلاع عسكرية كثيرة، كما تنازل عن عرشه لابنه ليفون الثاني عام 1270 واعتزل في أحد الأديرة حتى وفاته.



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».