ملامح من تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي

مئوية ما يطلق عليها بـ«الإبادة» وعلاقتها بالأتراك

أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
TT

ملامح من تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي

أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)

لقد عُنيت وأنا أسجل بعُجالة واختصار، مع شيء من العسر، بعرض تعريف هاد ربما يزيح بعض اللغط والكابوس، ويلطف ما يعتري النفوس، فقد ذهب أمس بما فيه وجاء يوم بما يقتضيه، ولقد حاولت منه جمع مضامين تاريخية غنية تنطلق بمعطيات علاقة الأرمن بالعالم الإسلامي بعيدة عن بلاء التكرار والنمطية، قريبة ما أمكن من التشويق بقدر ما يسمح فيه المجال، وقديمًا قالت العرب «المكان من المكين».
في نهاية سبتمبر (أيلول) 331 قبل الميلاد قضى الإسكندر المقدوني على الإمبراطورية الأخمينية الفارسية بعد إلحاقه الهزيمة بجيش داريوس (داريوش أو دارا) الثالث وضمه أراضيها إلى إمبراطوريته الممتدة من بلاد الإغريق إلى شبه القارة الهندية، وما بينهما، وبالتالي غدت أرمينيا جزءًا منها.
وعمومًا، تأخذ الأمصار أسماءها من تسميات شعوبها أو سكانها، في حالات أخرى تسميات حكامها ملوكًا كانوا أم زعماء، وثمة أسماء ترتبط بمواقع ومعالم جغرافية. وتبعًا لذلك يذكر المؤرخ الأرمني القديم موسى الخوريني أن تسمية أرمينيا جاء نسبة إلى الملك أرمو، وترجع إلى نهاية الإمبراطورية الآشورية، كما أنه يصرّ ومواطنه المؤرخ توما الأردزوني، وغيرهما من مؤرخي الأرمن القدماء، بأن الشعب الأرمني يتحدّر من نسل النبي نوح، ويعزون ذلك إلى قرب ديارهم أرمينيا من جبل آرارات الذي استقرّ عليه فلك نوح - أو سفينة نوح - بعد الطوفان الكبير، كما تذكر الديانات السماوية التوحيدية، ونحن هنا نعرض روايةً من وجهة نظر المؤرخين الأرمن ولا نجزم - طبعًا - بصحتها.
أما عن اتصال الأرمن بالعرب، فإنه بدأ منذ بداية الفتوحات الإسلامية وسقوط الإمبراطورية الساسانية الفارسية عام 642م. ونتج عنه احتكاكات بين الأرمن الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية عبر المُبشّر (المُنصّر) غريغوري (جرجورة) نحو عام 303م، وكثيرًا ما تدخّلت الكنيسة عبر رئيسها بتهدئة الاحتكاك والصراع بين أمراء الأرمن والخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 702م. وهو ما أدى إلى استقرار الأمور وازدهار العلاقات، لا سيما، بعد العهود المواثيق التي وقعت بين الخليفة الأموي وملك الأرمن آشوت.
وما أن أخذت الإمبراطورية البيزنطية تبذل محاولات لكي يتبع الأرمن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حتى ابتدأ السلاجقة التحرّش عام 1020م، ومن ثم انتهى الأمر باحتلال جزء كبير من بلاد بيزنطة، وفي ما بعد أدى إلى اتحاد الأرمن مع الكُرد ليتولى زعامتهم لاحقًا من أطلق عليه مسمى «شاه الأرمن»، وهو كردي من أبناء عمومة صلاح الدين الأيوبي، وذلك حتى الاحتلال المغولي عام 1240م، وحينذاك هاجر من أرمينيا أعداد كبيرة إلى أوروبا (بولندا وبلاد البلقان) وبقية أراضي بيزنطة.
تخبرنا الوثائق التاريخية بوجود أدلة يُستشفّ منها من الإقليم الذي تقع فيه أرمينيا كانت تسكنه أقوام لا تنتمي إلى العنصر الآري قبل الميلاد بألف وخمسمائة سنة من العنصر الذي يُطلَق عليه في علم الأعراق الحديث اسم «آرمينويد»، ويعتبر الحثيون هم من يمثّل هذا العنصر. وأما سكان تلك البقعة فيطلقون على أنفسهم اسم «كالديني» نسبة إلى ربّ كانوا يعبدونه. ولكن نحو 700 قبل الميلاد غزت أقوام هندو أوروبية (آرية) مرتفعات أرمينيا وفرضت على السكان الأصليين لغتها. وعند بروز الميديين والفرس امتزجوا بهم ليصبحوا ما بات يعرف بالأرمن لاحقًا. إن سكان سلسلة جبال طوروس (في جنوب هضبة الأناضول) ومعظمهم من الفلاحين، وفق علماء الأعراق، كانوا من أصحاب البُنيات القوية الطويلة القامة والأشكال الوسيمة الجميلة، وكانوا يتميزون بالشجاعة أيضًا. أما سكان الوديان فكانوا من أصحاب البنيات المليئة (جسيمون) النشطة والشعر الأسود السابل والأنوف المعقوفة وكانوا زرّاعًا مهرة ورعاة ماشية، وأما أهل المدن منهم فكانوا حرفيين بارعين وتجار ناجحين وذوي ذكاء حاد، مما جعلهم يتعاملون مع أصقاع بعيدة مثل الهند والصين، كما كانت أفراد الطبقة الراقية منهم متعلمين متفوقين.

الأرمن وتركيا

كان همّ السلطان العثماني محمد الثاني «الفاتح» أن يجعل من مدينة بيزنطة أو القسطنطينية - كما عُرفت لاحقًا تكريمًا للإمبراطور قسطنطين - التي غدت إسطنبول (أو إسلامبول أو الآستانة) بعدما فتحها، عاصمة الدولة العثمانية. ويجعل منها بوابة لتفاعل الإسلام والمسيحية. كذلك كان محمد الثاني، وفق المصادر التاريخية، معجبًا بالثقافة الإغريقية، وبالذات، بشخصية الإسكندر المقدوني الذي كان كُتّاب يونانيون يقرأون له سيرته في مجالسه الخاصة، وكان يفكّر كثيرًا بما يمكن أن يجلبه اليونانيون من غنى ورخاء لعاصمته إسطنبول.
وبالفعل، قرّر مع مشاوريه عام 1455م - بعد سنتين من فتحه عاصمة المسيحية الشرقية سابقًا عام 1453م وجعلها عاصمة الخلافة - زيارة مقر رئيس البطارقة جيناديوس، ولقد طلب منه أن يكتب له شرحًا عن المسيحية تُرجِم من اليونانية إلى التركية لكي يطلع عليه السلطان، وأطلق على الشرح اسم «التفسير القصير لدين المسيح». والحقيقة، إن ذلك العمل لم يكن قصيرًا أو بسيطًا بل إن فحواه كانت صعبة حتى على من اعتنق المسيحية بعدما آمن بها. غير أن هذه الصعوبة لم تضعف عزيمة السلطان العثماني على الاهتمام بالتعاليم المسيحية ومبادئها. وكان من مُجمل مقتنياته «مهد المسيح» الذي قال عنه إنه لن يتخلّى عنه ولن يبيعه بأغلى الأثمان، كذلك احتفظ بجمجمة وعظام يوحنا المعمدان. ومع أن ليس كل مستشاري محمد الثاني كانوا يشاركونه عقليّته المنفتحة، فإنهم لم يستطيعوا تغيير تفكيره واهتمامه باحتواء المسيحيين وحمايتهم حتى وإن حدثت أعمال من شأنها إثارة الفتنة من جانب بعض المسلمين.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن السلطان محمد الثاني «الفاتح» كان أول من شجّع الأرمن المسيحيين على التوطّن في عاصمته إسطنبول، بعدما كانوا جماعات معزولة تسكن منذ القرن السادس قبل الميلاد بين شرق الأناضول وجبال القوقاز، ولقد انقرضت آخر مملكة لها خلال القرن الرابع عشر وكانت لها لغتها وحروفها، وكانت من الناحية الدينية تؤمن بأن المسيح ذو طبيعة واحدة (مونوفيسية) إنسانية مقدسة، بينما كانت الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية تؤمنان بأن له طبيعتين (دووفيسية) واحدة إنسانية والثانية قدسية.
أما من الناحية الاجتماعية، ومع أن الأرمن من أبناء بيئة جبلية فإنهم أجادوا المهن والحِرَف التي تحتاج إلى دقة ومهارة كالصياغة والنسج والبناء والنشاط التجاري عمومًا. وبناء عليه، من يتمتع بمهارات كهذه يكون هدفًا مطلوبًا لبناء الإمبراطوريات. وحقًا كتب المؤلف مايكل كرتوفوليوس أن السلطان محمد الثاني اهتم بجلب الأرمن ووضعهم تحت رعايته «لحيازتهم على كفاءات ومهارات استثنائية في شؤون المال والصناعة والمعرفة والبناء والقدرة على التعامل في الأسواق». وقد تكون هذه العبارة هي الصفة الناعمة لما فعله السلطان العثماني، بيد أن ما كتبه التاجر الأرمني نرسيس عام 1480م ليس بالقدر نفسه من الإيجابية؛ إذ كتب لائمًا السلطان «على إثارته زوبعة بين قومه والمسيحيين عندما نقلهم من مكان إلى آخر، وإني أخلط بين الوقت والمرارة حينما تحوّلنا من أماسيا إلى القسطنطينية (أي إسطنبول) بالقوة وليس برضانا، وإني لأخطّ ذلك بدموع وعويل».
بدأ صعود نجم الأرمن في الدولة العثمانية منذ عام 1700 مقابل انخفاض مكانة اليهود، حتى إن بعض كنس اليهود وأماكن عبادتهم في إسطنبول مهددة بالإقفال لتعثّر الحالة المادية للجالية وتعذر صيانتها، في حين ارتفعت أعداد القادمين الأرمن إليها بنتيجة تردي الأوضاع السياسية في أرمينيا وغرب الأناضول بفعل الثورات والحروب. ولقد أمتهن في مطلع عهد استقرارهم في العاصمة العثمانية مهنًا بسيطة مثل بيع الخبز وأواني الفخّار واللحم المجفّف المقدّد (البسطرمة) في شوارع المدينة. ثم انتقلوا إلى أعمال أرفع بفضل مساعدة القصر السلطاني خلال حكمي السلطانين مراد الثاني وإبراهيم نتيجة بروز اسم المعماري الأرمني سركيس باليان الذي أصبح معماري القصر، كما عيّن الأرمني دوزيان مدير دار المسكوكات النقدية عام 1727 بدلاً من مديرها السابق اليهودي ياقو بونفيل. ومن ثم، أصبح جميع العاملين فيها من الأرمن بفضل استمرار تولي مدراء من أسرة دوزيان حتى 1890 لأن سجلات العمل كانت تكتب باللغة والأحرف الأرمنية التي يجهلها الجميع باستثناء الأرمن.
أيضًا غدا أبناء أسرة دوزيان مسؤولين عن جواهر السلاطين الذين كانوا يعتبرونهم أكثر أمانة وصدقًا من موظفيهم من اليهود واليونانيين. ومن ثم صار ممصلافي القصر من الأرمن بين عامي 1770 و1840، وهكذا صار الأرمن العنصر الرئيسي في تمويل الولايات وجباية الضرائب وسن تشريعاتها، فبلغوا من رفعة الشأن والشهرة حد إطلاق عليهم ألقاب كـ«قادة الأمة» و«الأمراء اللامعين» أو «أمراء الشرف الرفيع». وكان قصر أرتين دوزيان، مدير دار المسكوكات من أفخم قصور المدينة المطلة على مضيق البوسفور، وفي هذا دليل على الجاه والسطوة. كذلك كان السلطان محمود الثاني صديقًا حميميًا لمستشاره الأرمني بازديجان هوريتليان وكان يزوره في بيته، وعند وفاته أمر السلطان بنقل جثمانه إلى القصر ليودعه قبل دفنه. وكان مدينًا له بإنقاذه إسطنبول من المجاعة عام 1829.
وبالنسبة لأمور الصناعة العسكرية، لعب الأرمن دورًا لا يستهان به، وبرز في مجال صناعة البارود والمتفجرات أفراد من أسرة داديان الشهيرة التي حصلت على صيت كبير امتد نحو قرن من الزمن منذ عام 1795 بدءًا من عميدها أراكيل الذي كسب لقب «بارود باشي»، ولقبه السلطان محمود الثاني «أسطى أراكيل أمين وعامل مجد دام حفظ الله». وجاء من بعد ابنه أوهانس الذي تولى أعمال أبيه وأضاف إليها مصنعًا للورق وآخر للنسيج وثالثًا للبنادق. وكان أوهانس داديان يجيد عدة لغات أوروبية، وزار فرنسا وبريطانيا مرتين أقام خلالهما لمدة سنتين لدراسة تطور صناعة الأسلحة ومستلزماتها حتى ما عادت الدولة العثمانية بحاجة إلى استيرادها.
من ناحية ثانية، وكدليل على تطوّر مكانة الأرمن، أخذت الكنيسة الكاثوليكية تنشط لاختراق الأرمن. وحقًا بدأت اجتذاب بعضهم للالتحاق بالكنائس الغربية (الكاثوليكية) والاعتراف بسلطة البابا مع إبقاء معتقداتهم القديمة وتخفيف بعضها، مثل خفض مدة صيامهم من 240 يومًا إلى 40 يومًا فقط، وخفض ما كانوا يدفعونه للكنيسة ورجالها الإكليروس: وبالنتيجة نشأت كنيسة أرمنية كاثوليكية وبات الأرمن الكاثوليك يتوقون للانضواء تحت حماية فرنسا. غير أن غالبية الأرمن ظلوا أرثوذكس لم يقبلوا بالتغريب الكاثوليكي، ورفع بطريركهم شكوى إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء العثماني) عام 1707 ضد بعض القساوسة الأرمن الذين اعتنقوا الكثلكة، مطالبًا بمعاقبتهم بحجة أنهم يشقّون وحدة الطائفة وينقلون ولاءهم من «الدولة العلية» (أي الدولة العثمانية) إلى الإفرنج ليصبحوا عُملاء لهم، تلبية لطلب البطريرك أعدم عدد منهم.
لقد دفعت تحوّلات جيو سياسية، صاحبتها ضغوط اجتماعية واقتصادية كبيرة بعض المجتمعات لأن تستسلم لمعطيات وطنية وقومية، منها الدولة العثمانية وعاصمتها الكوزموبوليتانية إسطنبول. فعوامل كالأعراق والاقتصاد والثقافة وإن كان يمسكها رباط المعيشة بحدوده الحضارية المتوافرة، فإن الانصهار الكامل لا يتحقق بالضرورة. فـ«المدينة» عند البعض غير كافية بل يطمح إلى ما هو أكبر مثل «دولة» خاصة بهم. وبما يخص الأرمن، هذا ما عبر عنه نفر من مثقفيهم مثل كريكور أدويان، الذي درس في العاصمة الفرنسية باريس ولقد كتب بعد رجوعه إلى إسطنبول في كبريات صحفها «إن حب الأمة يبعث أقوى شعور هو في طبيعته كحب الإنسان لوالديه والبر والعاطفة لإخوته بالدم والحب والدفء اللامنتهي إلى أبنائه. كل ذلك بمجموعه لا يعادل حب الإنسان لأمته».
الأمة - أو الملّة - التي قصدها أوديان ما كانت الدولة العثمانية بل «الأمة الأرمنية». فهناك فارق حاسم بين النصين اللغويين الأرمني والعثماني تمثله نصوص دستور عام 1863، التي تقول إن «الأرمن طائفة (ملّت – أي ملّة) مثل اليهود واليونانيين»، ولقد هيئ لهم مجلسان أحدهما للشؤون الدينية والثاني للزمنية. وهذان المجلسان انتخبا بموافقة عامة وحقّقت النقابات والمثقفون في المدينة النصر على الكنيسة والطبقة المتنفذة، ومن ثم رأى الأرمن في ما تحقق «القانون الوطني للأرمن»، أما بالنسبة للعثمانيين الترك فرأوه مجرد تنظيمات للكنيسة الأرمنية.
ولقد كان أمل السلطان عبد الحميد الثاني أن يتخلى رعايا الدولة العثمانية عن هويّاتهم القومية لهويتهم إمبراطوريتهم على غرار مهاجري الولايات المتحدة غير أن ذلك لم يتحقق بين مصالح شللية العوائل والشعور القومي. فأسرة باليان كانت تبني قصور السلطان وأسرة داديان تصنع لجيشه البارود. وكان الأرمن موظفي المحاسبة والأطباء والطبّاعين والمصوّرين وخياطي القصور السلطانية. وباختصار، لم تتمتع أقلية بثقة السلاطين ومنافعهم مثل الأرمن.
السلطان عبد الحميد منح الأرمن المقربين منه شرف وضع الختم الذهبي على طرابيشهم، ومثل أبيه كان يزور بيوتهم عام 1832، وأقام في قصر داديان بين يومين وثمانية أيام في أعوام 1842 و1843 و1845 و1846؛ فأن يبيت السلطان في بيت مواطن يعد شرفًا لا يدانيه شرف، ولا سيما إذا كان هذا المواطن غير مسلم. ومن جهة ثانية، احتفظت كنيسة سان ستيفان الأرمنية بالإبريق والطشت اللذين استخدمهما السلطان لغسل يديه. وصرّح أحد أبناء أسرة داديان بفخر عام 1867 بـ«أن السلاطين يمحضون الأرمن ثقتهم الكاملة»؛ مما أثار سخط كثرة من المسلمين وحسدهم.
ومن ثم أخذت بوادر النزعات القومية تطل برؤوسها وتظهر على السطح بشكل احتجاجات على سوء إدارة ولاة المناطق وفسادهم في استغلال مواطنيها.
وهكذا، ظهر شعور اليونانيين بالتفوق التاريخي في كل المناسبات باعتبارهم أنفسهم «العنصر المنتصر» وأنهم في «أرض الآباء»، حسب تعبيرهم. وبلغت قمة العداء عند البلغار الذين حاولوا غير مرة إحراق العاصمة وظهر هذا العداء بوضوح على لسان أحد قادتهم الثوريين ليوبين كارافيلوف الذي كتب عام 1869 «التركي يبقى تركيًا، ولن تستطيع الآلهة أو الشياطين أن تجعل منه آدميًا».
واستمر كريكور أوديان بمقالاته مخاطبًا البطريرك: «لا تحبط نفسك بالآمال المزيفة يا ابن أرض الآباء الحبيب. إن طائر الفينيق لن ينهض من الرماد. هنا نرى القصور التي شيّدتها أيادي الأساتذة، دع عنك ذلك الرماد وارجع. تعال إلى هنا لكي تنام عيناك على رداء الكهنوت الذهبي». وفي المقابل، رد بعض المسلمين وتعالت أصواتهم مشبعة بنزعة وطنية قومية تركية، منهم الضابط الشاب سليمان باشا، آمر المدرسة العسكرية ومؤلف كتاب «قواعد اللغة التركية» الذي كتب عام 1876: «إن عبارة عثماني هي مجرد اسم لدولتنا فقط، بينما اسم أمتنا هو الترك، ومن المحتم أن لغتنا هي التركية وأدبنا هو الأدب التركي». وبالفعل، انتشرت النزعة القومية التركية أو «الطورانية»، وطالب المنادون بها «بالعودة إلى الجذور» آخذين المبادئ من جنكيز خان لا من الإسكندر وقيصر، كما راجت الأشعار في تمجيد «طوران» بلاد الترك الأسطورية في الشرق.
والتحق بالركب الأكراد، فأصدر السيد عبد القادر جريدة «كردستان» التي ظهرت باللغتين الكردية والتركية، وأسست «جمعية التقدم والتطوّع» المتبادل التي نادت بإنشاء المدارس الكردية، وبرز منهم لطفي فكري المبعوث (النائب) الكردي الذي كان يطالب بالحكم المدني لا الديني للدولة والكتابة بالأحرف اللاتينية.
وبحلول 1908 انضم العرب إلى مسيرة نهوض الشعور القومي، وصارت إسطنبول مركزًا لحركتهم وليست القاهرة أو بيروت. وازدادت الأمور تعقيدًا حين ظهر أن السلطان عبد الحميد أخذ يشجع جواسيس ومرافقين من العرب. ولما هاجمت جريدة «إقدام» التركية، العرب، تعرضت لرد عنيف من العرب المقيمين في إسطنبول أدى إلى تخريب مطابعها. كذلك أسّست في المدينة جمعيتان سرّيتان هما «القحطانية» و«العهد» بين عامي 1909 و1914 التحق بهما معظم الضباط العرب في الجيش العثماني.

«المسألة الأرمنية»

في ثمانينات القرن التاسع عشر، كما توقّع البطريرك كرمنيان، اختار الأرمن طريق الثورة والعنف؛ إذ أسّس نفر منهم بينهم أرمني روسي اسمه آفاديس نازاربكيان عام 1886 في مدينة جنيف بسويسرا حزب «الهنشاق» (أي: الناقوس) فكان أول منظمة ماركسية ثورية في المنطقة متأثرة بالمبادئ الشعبية والثورات العامية أو «العاميّات».
واستطاع «الهنشاق» ضم 700 عضو في إسطنبول معظمهم من الأرمن العاملين في مصالح وشركات أجنبية. وبعد ثلاث سنوات أسست منظمة ثورية أرمنية قومية حملت اسم «تروشاق» (أي: العلم) في مدينة تفليس (تبيليسي) - عاصمة جورجيا الحالية - ثم غير اسمها إلى «طاشناق» (أي: الاتحاد) عندما فقد الأرمن التأييد القيصري الحكومي الروسي، لكنه وفق بالحصول على التأييد الثوري المنظم. ومن ثم شن الحزبان الأرمنيان «الهنشاق» و«الطاشناق» حملة اغتيالات استهدفت الشخصيات الأرمنية العاملة في خدمة السلطان العثماني.
وعلى الأثر، أخذت شكوك الحكومة تحوم حول سلوك الأرمن. وعام 1889 أجريت مقابلة في قصر يلدز بين السلطان عبد الحميد والمؤرخ المجري فامبري المتخصّص بالشأن التركي الذي كان يقوم بعمليات تجسس لصالح بريطانيا، أبدى السلطان غضبه لدرجة أنه رفع غطاء رأسه عدّة مرات، وقال له: «أبلغ أصدقاءك الإنجليز، خصوصًا اللورد سولزبري، الذي أكن له الاعتبار والتقدير، بأنني أستطيع معالجة مصدر الشر في أرمينيا، لكنني (قالها بغضب بالغ) لاحقًا سأفضل أن أترك له أن يقطع هذا الرأس عن جسدي من أن أترك من يريد فصل أرمينيا».
واستمرت محاولات «الهنشاق»، ومعظمهم من أرمن القوقاز، إثارة المشكلات بين الأرمن في إسطنبول ووصلت إلى حد احتلال الكاتدرائية الأرمنية واحتجاز البطريرك وقراءة بيانات تهاجم السلطان، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات أسفرت عن سقوط 20 أرمنيًا من المتظاهرين ورجلي شرطة. وكانت تلك أول مواجهات دامية تشهدها المدينة منذ فتحها محمد الثاني عام 1453م وأول مرة يجرؤ فيها مسيحيون على مهاجمة رموز سلطة آل عثمان.
وبعدها تردّت الأوضاع، فاستقال البطريرك وارتفعت الشعارات والهتافات المنادية بحياة الأرمن وأرمينيا علنًا، وهكذا سقطت الحجب وظهر التحدّي بكل أبعاده. وفي العام التالي، عام 1894 جمّد «القانون الوطني للأرمن» وأصيب البطريرك بجروح خلال محاولة اغتياله على يد شاب أرمني متحمس. وفي سبتمبر 1895 سارت تظاهرة ضمت ألفين من الأرمن المسلحين بالمسدّسات والسكاكين أمام «الباب العالي» (مقر رئاسة الوزراء) وهتفت «الحرية أو الموت!» وأنشدت أناشيد قومية أرمنية. وجاء الردّ شديدًا وتحوّل المشهد إلى «حرب شوارع» بين المسلمين والأرمن، واستمر الوضع على هذا المستوى من التوتر حتى أغسطس (آب) من العام التالي حين أقدم أفراد من «الطاشناق» بتفجير قنابل في أنحاء متعددة من إسطنبول، كما هوجم المقر الرئيسي للبنك العثماني في حي غلاطة التجاري بالمدينة.
واستمرت الاعتداءات على الأرمن وبيوتهم ومحلاتهم التجارية وأدت تلك الحوادث سقوط نحو ستة آلاف قتيل، وشنت الصحف الأوروبية حملة عنيفة على العثمانيين ووجهت احتجاجات حكومية عنيفة طاولت أعلى المراتب بل أطلق الزعيم الفرنسي جورج كليمنصو على السلطان عبد الحميد بعد تلك الأحداث لقب «غول يلدز» (في إشارة إلى قصر السلطان) و«السلطان الأحمر» وينسب هذا اللقب الأخير إلى الصحافي بيار كيار. وفي المقابل، من جملة ما قاله السلطان عبد الحميد في مذكراته عن الأرمن «لقد عاملت الأرمن معاملة رحيمة لكنني منعت تجمعهم على فكر واحد».
غير أن الأمور وصلت إلى منتهاها حين وقعت محاولة اغتيال فاشلة استهدفت السلطان عبد الحميد في باحة جامع يلدز بعد صلاة الجمعة يوم 21 يوليو (تموز) 1905 حين انفجرت عربة ملغمة بقنابل موقوتة أعدها بلجيكي اسمه شارل إدوار جوريس، كان من مناصري «الطاشناق» في باريس، ومع أن السلطان لم يصب بأذى راح ضحية المحاولة نحو 80 بين قتيل وجريح.
بعد هذه المحاولة بأربع سنوات عُزل السلطان عبد الحميد الثاني يوم الثلاثاء 27 أبريل (نيسان) 1909 ومن ثم نُفي إلى مدينة سالونيك (في شمال شرقي اليونان اليوم) وعاش فيها ثلاث سنوات حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 1912. ثم نقل إلى بيلرباي المطل على البوسفور في إسطنبول حتى وفاته عام 1918.
بين 1909 و1914 تحسنت الأوضاع بين حكومة جمعية «الاتحاد والترقي» – التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد – وبين الأرمن، وساد جو من الهدوء على الساحة السياسية. وعقدت اجتماعات بين مجلس المبعوثان (البرلمان) وأعضاء من حزب «الهنشاق» في إسطنبول. وعلى أثر هذا التحسن في العلاقة عيّن الأرمني جبرائيل نردونجيان وزيرًا للخارجية، ولاحقًا عرضت خطط للتحديث والتطوير في شرق الأناضول.
ولكن، ما أن حلّ عام 1914 ودخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا، في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، حتى بدأت الأجواء تكفهر. ومن ثم بادرت جهات أرمنية إلى التعاون مع الروس ضد القوات العثمانية في الأناضول، أعقبتها أعمال عنف في مدينة فان (وان) بشرق الأناضول، كما بدا واضحًا تأييد الأرمن في إسطنبول لروسيا وسرورهم بنجاحات الروس العسكرية على الجبهة الشرقية في أوروبا.
عندها قررت «الاتحاد والترقي» الحاكمة اتخاذ سياسات حازمة والقضاء على تدخلات الأرمن، ووصلت الأمور في النهاية إلى إقصائهم وطردهم نهائيًا من الأناضول، وهنا اندلعت المجازر التي بلغ عدد ضحاياها من الأرمن مئات الألوف. وفي سياق الحملة، صدرت أوامر عليا بنفي وعزل ألفين من الشخصيات الأرمنية البارزة من النواب والساسة وكبار الموظفين والكتّاب، تلتها عمليات تهجير جماعية للأرمن نحو بلاد الرافدين (العراق) باتجاه الموصل ودير الزور في ظروف سيئة للغاية، وهام المهجّرون الأرمن على وجوههم في الجبال والصحارى حفاة عراة، شيوخًا ونساء وأطفالاً، وتوفي الألوف ضحايا الجوع والعطش والمرض.



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».