عندما يقف راغب علامة على شرفة السنوات التي انقضت سريعة، إنما جميلة، يلمح طيف صبي في الـ14 من عمره يحمل حقيبة سفر صغيرة ويطير إلى البصرة العراقيّة.
كانت الحرب تطحن لبنان في ذلك الصيف من عام 1976، وكان وضع والد الثمانية «على قد الحال». فلم يتردّد راغب في السفر خلال الإجازة المدرسية، والعمل في تركيب المكيّفات تحت حَرّ العراق، من أجل مساعدة أبيه في مصاريف البيت.
من تلك التجربة، خرج الفنان اللبناني بدروسٍ كثيرة، لعلّ أهمها هي تلك التي ترافقه حتى اللحظة: عدم الاستسلام، والتعامل مع الواقع بواقعيّة. تَعلّمَ راغب أن يلتفّ على الحائط إذا ارتفع سد في وجهه. زادته السنوات حنكة ودبلوماسية، فعَبرَ الأجيال من دون أن يخسر بريقه.
مكوّنات واقعيّة لخلطة الاستمرارية
عن سرّ الاستمرارية، يقول راغب علامة لـ«الشرق الأوسط»: «إن لا خلطة سحرية هنا، بل خلطة واقعيّة. لست ممن يملّون أو يتكاسلون أو يتعبون. وأنا أعرف كيف أتعامل مع الجدران المسدودة».
الفنان الذي يحتفل بيوبيله الأربعين في عالم الموسيقى والأغنية، لم يقف مذهولاً ولا مرتبكاً أمام تحوّلات الأزمنة العابرة. «أتعايش مع تطوّر التقنيات ومع سرعة العصر. لا أحارب الواقع الحالي بل أمشي مع الدنيا»، يوضح علامة الذي لا يسمح للماضي، مهما كان ذهبياً، بأن يُغرقه في النوستالجيا الهدّامة. يأخذ من الحنين طاقة للانطلاق إلى الأمام، «من دون أن يؤثّر ذلك على جودة ما أقدّم»، حسبما يؤكد.
صحيح أنّ جائحة «كورونا» لم تمرّ من دون أن تصيب الفنان بالتعب وبالضياع وبعلامات استفهامٍ كثيرة، ولكن رغم ذلك لم يدع الكسل يغلبه: «ما فكّرت يوماً في أخذ استراحة شهرين أو ثلاثة. فالفن كما ركوب الدراجة الهوائيّة، وهي رياضتي المفضّلة، التوقّف عنه غير مسموح».
يحدث أن يسترجع راغب علامة فيديو كليباته القديمة. يشاهد شاباً عشرينياً جريء الصورة، كرّس موجة التصوير الخارجي بين زملائه: «كنت شاباً مواكباً للموضة الرائجة آنذاك. أعرف أن البعض يتنمّر حتى اللحظة على اللوك المعتمد حينها، لكنّي لم أعتد الرد على أعداء النجاح».
لم تكن البدايات خالية من التحديات. في مشهد لا يغيب عن ذاكرة علامة، يدخل مع عوده إلى الإذاعة اللبنانية، يقف ليؤدي إحدى أغاني فرقة بندَلي أمام الموسيقار توفيق الباشا، فيؤنّبه الأخير لاختياره، ويجبره على أداء أغنية لعبد الوهاب: «يومها انزعجت وانقهرت، حتى إنني بكيت أمامه. لكنني ابتلعت دموعي، وغنيت للموسيقار عبد الوهاب، ونجحت».
أما حين يسترجع وجوه الجالسين في الصفوف الأمامية للداعمين، فيرى أولاً صورة المخرج سيمون أسمر الذي كان له فضل كبير على انطلاقته، هو الذي نصحه بتقديم الأغنية الشعبية الشبابية التي تشبه شخصيته. وبتلك الأغنية فاز في المركز الأول ببرنامج «ستوديو الفن» عام 1982.
في الصفوف الأمامية للداعمين، جلس أيضاً الفنان إحسان المنذر الذي ألّف لعلامة أجمل الألحان وقاد فرقته الموسيقية. وإلى جانبه جلست العائلة من أبٍ وأمٍ وإخوة. «كان رضا والدي علي أساسياً بالنسبة لي، ولا يزال كذلك»، يقول راغب. ويتابع: «حتى بعد رحيلهما عن هذه الدنيا، أشعر بأنّ رضاهما موجود. يرافقني دعاء أمي وألمسُه من خلال كل ما تمنحني إياه الحياة. في البداية، كانت خائفة علي من الفن وجَوّه المؤذي بالنسبة إليها، لكنّي عرفت كيف أطمئنها. ولاحقاً صارت تقول لي: «حسناً فعلت بأنك لم ترضخ لمخاوفي. كدتُ أن أقضي على مستقبلك».
على موجة الحداثة
منذ انطلاقته الفنية وحتى اليوم، تكاد لا تمرّ سنة من دون أن يُصدر علامة أغنية ضاربة أو أكثر. أتقنَ ركوب موجة التحديث شكلاً ومضموناً. يحب أغانيه الجديدة بقدر ما يحنّ إلى تلك القديمة مثل «يا ريت فيي خبيها»، و«بنت السلطان»، و«راغب بقربك». وهو يرغب بتجديد أعمال لم تأخذ فرصتها بما يكفي، مثل «سهران لمين يا شوق»، و«فراقنا قدرنا».
عاصر علامة كل تقنيات التسجيل والتوزيع والتسويق الموسيقيّ، وأصرّ على إتقانها كلها لئلا يبتلعه قطار الزمن السريع. يقول في حديثه مع «الشرق الأوسط»: «أعمل على جديدي بالحماس والشغف نفسيهما اللذين عملت بهما على أغاني القديمة. أحب كيف كنا نسجّل في الماضي، لكن للتسجيل الحديث حسناته كذلك». أما السيّئات فيختصرها علامة بالقول إنّ «التقنيات المتطوّرة التي تصحّح الأصوات، تسمح لأي كان بأن يسمّي نفسه مغنياً». ويضيف: «في الماضي، كانت النُدرة تصنع التميّز، أما اليوم فثمّة منابر مفتوحة لكل من لديه بضاعة غير جيدة ليعرضها في السوق، ويحوّلها إلى (ترند) بقوّة المال. أما نحن فكنّا نخضع لامتحانات أمام كبار الموسيقيين، قبل أن نتجرأ ونسمي أنفسنا فنانين».
حتى الجمهور المتلقي خضع لتحولات الزمن، في رأي علامة. يتساءل: «أين اللهفة التي كان يتعامل فيها الناس مع الموسيقى آنذاك؟ أين سحر شريط الكاسيت؟ أين المجهود والتركيز لحفظ الأغاني؟».
سهّلت التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي المهمة على الفنانين، لكن ذلك لا يعني أنّ نجاح هؤلاء يأتيهم على طبق من فضة. يعترض علامة على النظرية القائلة بأن الفنان لا يتعب، وبأنّ مالَه سهل (easy money). «الفن يُطعم خبزاً و(بسكويت) وراحة وحتى كافيار إذا أراد الفنان ذلك. لكن هذا لا يجيئ بلا تعب. فعملنا يستلزم شهوراً وسنوات من التحضير، والتسجيل، والتصحيح، والتصوير، والسفر. تمرّ فترات أعمل فيها ليلاً ونهاراً لإنجاز ألبوم أو حتى أغنية».
ومن ثَم يأتي تعبٌ من نوع آخر... تعبٌ لا تتوقّع من راغب علامة أن يتحدث عنه...
«ما زالت لحظة ما قبل الصعود إلى المسرح تُرهقني. هي أصعب ما في حياتي. أشعر بأنّ هناك حمولة 100 طن فوق رأسي»، يكشف الفنان الذي كادت المسارح أن تصير بيتَه. ويتابع: «اليوم أكثر من أي وقت، أشعر بتلك الرهبة لأن المسؤولية كبرت بعد 40 سنة من النجاح. ممنوع أن أكون عادياً... يقلقني هذا الموضوع ويأخذ الكثير من تفكيري».
عندما يقف علامة على شرفة العمر الآتي، يبصر ويتمنّى مزيداً من سنوات العطاء، والشغف، والنجاح، والرضا. يرى في الأفق كذلك ابنَيه خالد ولؤي، وقد حققا نفسيهما بالاستقلاليّة التي زرعها فيهما مع زوجته جيهان. يقول: «أدعم ولدي في خياراتهما الشخصية والمهنية رغم أنوف الحاقدين».
من شرفة منزله البيروتي، يلقي علامة نظرة حزينة على البلد: «أنا لبناني في الصميم، غير تابع لأحد من منظومة الفاسدين ومغتصبي الوطن». يأسف لتحوير تغريداته ومواقفه عن الوضع الحاليّ، من قِبل من يسمّيهم «جماعات الفاسدين على وسائل التواصل الاجتماعي». ينفي أن يكون سياسيو المنظومة الحاكمة حالياً أصدقاءه، بل هم مجرّد معارف ينتقدهم وجهاً لوجه حين يلتقيهم.
علامة، المقيم بين بيروت ودبي، يخشى، لا بل هو على شبه يقين، بأن كلمات أغنيته «طار البلد» صارت حقيقة مرّة.