شتان هو الفارق الذي وجده الهولندي رونالد كومان في فترته كلاعب في برشلونة ووضعه في مصاف الأساطير، وفترته كمدرب حينما خرج مُقالاً بعد نحو سنة واحدة في المنصب.
ربما يشعر الهولندي بغصّة في نفسه من عدم تقدير الإدارة الحالية لفريق برشلونة له، لكنه يعترف بأن هذا النادي هو الذي جعل منه لاعباً أسطورياً، قبل تحوله لمسار التدريب. ويتذكر المدافع الهولندي ذكرياته عندما كان يلعب تحت قيادة مواطنه المدير الفني القدير يوهان كرويف، في الفريق الكاتالوني، وكيف تجرأ على أن يقول له: «سيدي، هذه هي المرة الأولى وستكون أيضاً المرة الأخيرة». وبعد خمسة مواسم مزيّنة بالبطولات والألقاب -ثلاثة ألقاب للدوري الإسباني الممتاز، ولقب لكأس أوروبا، ولقب لكأس ملك إسبانيا، ولقب لكأس الكؤوس الأوروبية– كان الأمر يتطلب لاعباً جريئاً لكي يكون قادراً على توجيه الانتقادات لقرارات كرويف، لكنّ كومان كان على حق فيما فعل.
ففي إطار سعيه لتحقيق الكمال، تعاقد كرويف مع المهاجم البرازيلي روماريو من أيندهوفن في صيف عام 1993، وكانت قواعد الدوري الإسباني الممتاز آنذاك تنص على أنه لا يمكن لأي نادٍ إشراك أكثر من ثلاثة لاعبين أجانب في المباراة. وعادةً ما كان كرويف يستبعد مايكل لاودروب من أجل إفساح المجال أمام روماريو، لكن المدير الفني الهولندي الفذّ قام بمفاجأة في المباراة الأولى من الموسم واستبعد كومان من قائمة المباراة حتى يتمكن من اختيار تشكيلة هجومية قوية.
سحق برشلونة نظيره ريال سوسيداد بثلاثية نظيفة في تلك المباراة بفضل هاتريك من روماريو، الذي أثبت أن كرويف كان محقاً في استبعاد كومان من أجل الدفع بالمهاجم البرازيلي الرائع، لكن كومان لم يتردد في إبلاغ مديره الفني بأن جلوسه بانتظام على مقاعد البدلاء لا يمكن أن يكون خياراً من الأساس.
وقد ثبت بعد ذلك أن ما حدث في تلك المباراة كان استثناءً وليس القاعدة، فبعد ذلك كان كرويف يفكر كثيراً قبل استبعاد كومان. كان من الممكن أن تؤدي الطريقة التي تحدّث بها كومان إلى أن يفهمه الناس بطريقة خاطئة، لكن كرويف تفهم ردة فعله تماماً. لقد كان كومان موهبة استثنائية، فلم يكن مجرد مدافع قادر على قراءة أحداث المباراة ببراعة، لكنه كان هدافاً غزير الإنتاج أيضاً.
لقد سجل المدافع الهولندي 239 هدفاً في مسيرته الكروية، وسجل أكثر من عشرة أهداف في كل موسم من المواسم الستة التي قضاها في برشلونة؛ وسجل 26 هدفاً لأيندهوفن في موسم 1987 - 1988 عندما فاز النادي بالدوري الهولندي الممتاز، وكأس هولندا، وكأس أوروبا. ولم يقتصر الأمر على تسجيله هدف الفوز في المباراة النهائية عندما فاز برشلونة بأول كأس أوروبية في عام 1992، بل كان أيضاً هداف البطولة عندما قاد الفريق الكاتالوني للوصول إلى المباراة النهائية مرة أخرى في عام 1994.
ومن الواضح للجميع أن برشلونة دائماً ما يفضّل الاعتماد على مدير فني من مدرسة أياكس وبرشلونة ويوهان كرويف، أي مدرسة «الكرة الشاملة»، التي تعتمد على اللعب الهجومي والاستحواذ على الكرة واللعب بشكل ممتع. صحيح أن كومان لم ينتقل إلى برشلونة قادماً من أياكس، لكنه لعب في أياكس تحت قيادة كرويف، قبل أن ينضم إليه في برشلونة. وكان كومان يلعب في البداية في خط الوسط، قبل أن يتم تغيير مركزه ليلعب كقلب دفاع، وهو الأمر الذي انعكس بشكل واضح على قدراته وفنياته الكبيرة في الخط الخلفي. أحرز كومان 88 هدفاً في ستة مواسم مع برشلونة حصل خلالها على لقب دوري أبطال أوروبا مرة واحدة، ولقب الدوري الإسباني الممتاز أربع مرات متتالية.
دخل كومان موسم 1993 - 1994 وهو يسعى للحصول على كأس أوروبا للمرة الثالثة، لكن برشلونة بدأ مشواره في البطولة بشكل سيئ في الجولة الافتتاحية أمام دينامو كييف. وعلى الرغم من أن برشلونة لعب معظم فترات مباراة الذهاب أمام فريق يلعب بعشرة لاعبين، فقد خسر المباراة التي أُقيمت في أوكرانيا بثلاثة أهداف مقابل هدف وحيد، أحرزه كومان بنفسه من ركلة جزاء.
وفي مباراة العودة على ملعب «كامب نو»، افتتح لاودروب التسجيل للعملاق الكاتالوني قبل أن يسجل خوسيه ماري باكيرو هدفين، لكن ركلة الجزاء التي سجلها سيرهي ريبروف كانت تعني أن النتيجة قد أصبحت التعادل بأربعة أهداف لكل فريق في مجموع مباراتي الذهاب والعودة. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها برشلونة إلى كومان لكي يستغل قدراته وإمكانياته الهائلة ويساعد الفريق على الخروج من الأوقات الصعبة. لقد سجل كومان ركلة حرة مباشرة بشكل رائع في الزاوية السفلية من على بُعد 20 ياردة ليمنح برشلونة التقدم بنتيجة خمسة أهداف مقابل أربعة، ليصعد الفريق إلى الدور التالي بفارق هذا الهدف الحاسم.
وكان الدور التالي أقل توتراً على مشجعي برشلونة، الذي فاز على فيينا النمساوي بثلاثية نظيفة على ملعبه في مباراة الذهاب، التي سجل خلالها كومان هدفين، قبل إنهاء المهمة تماماً في فيينا بالفوز بهدفين دون رد كانا من توقيع النجم البلغاري خريستو ستويشكوف.
وبذلك، تأهل برشلونة لدور المجموعات، ووقع في مجموعة تضم كلاً من غلاطة سراي وموناكو وسبارتاك موسكو. وفي مباراته الأولى بدور المجموعات، تعادل برشلونة من دون أهداف أمام غلاطة سراي في تركيا، لكنه فاز في المباراة الثانية بهدفين دون رد على موناكو الفرنسي، بفضل ثنائية من تكسيكي بيغيريستين. وسجل كل من روماريو ولاودروب في المباراة التي انتهت بالتعادل بهدفين لكل فريق أمام سبارتاك موسكو، وهو ما يعني حصول برشلونة على خمس نقاط من تسع نقاط محتملة.
وعندما سجل فاليري كاربين هدف التقدم لسبارتاك موسكو في المباراة التي أُقيمت على ملعب «كامب نو»، أصبح برشلونة فجأة في ورطة ومهدَّداً بالإقصاء. لقد كان برشلونة مطالباً بأن يحتل المركز الأول أو الثاني في المجموعة للوصول إلى الدور نصف النهائي، وبالتالي كان يتعين عليه عدم ارتكاب الكثير من الأخطاء. لم يكن كومان قد سجل أي هدف في المباراتين السابقتين، لذا فقد كان هذا هو الوقت المناسب لهز الشباك من جديد. عادل ستويتشكوف النتيجة، وقدم برشلونة أداء هجومياً رائعاً في الشوط الثاني ليفوز بنتيجة خمسة أهداف مقابل هدف وحيد. أحرز غويليرمو أمور هدف التقدم لبرشلونة، قبل أن يتوهج كومان ويحرز هدفين رائعين من ركلتين حرتين مذهلتين -كانت أولاهما من تسديدة دقيقة للغاية من على بُعد 30 ياردة.
وعندما حصل روماريو على ركلة جزاء لفريقه، بدا الأمر كأن كومان هو الذي سيتقدم للتسديد من علامة الجزاء حتى يُكمل الثلاثية. لكنّ كرويف كان له رأي آخر واستبدل المدافع الهولندي. لقد لعب كومان كل دقيقة لبرشلونة في دوري أبطال أوروبا في ذلك الموسم، باستثناء اللحظات الأخيرة من المباراة التي فاز فيها الفريق الكاتالوني على سبارتاك موسكو. لقد كان ذلك قراراً غريباً للغاية من المدير الفني، لكنّ العزاء الوحيد لكومان كان يتمثل في تلك العاصفة من التصفيق التي تلقاها كومان أثناء خروجه من الملعب. خرج كومان من الملعب برشاقة وهو يشاهد رومارو يسجل الهدف الخامس من ركلة جزاء.
واصل برشلونة نتائجه القوية وسحق غلاطة سراي بثلاثية نظيفة. سجل أمور هدف التقدم بعد الحصول على تمريرة متقنة برؤية مذهلة من بيغيريستين، قبل أن يسجل كومان الهدف الثاني من ركلة جزاء، ثم اختتم أوزيبيو ساكريستان الثلاثية بتسديدة قوية.
وعلاوة على ذلك، أظهر كومان قدراته الدفاعية بشكل مذهل في المباراة الأخيرة لبرشلونة في دور المجموعات والتي فاز فيها على موناكو بهدف نظيف. سجل ستويتشكوف هدف اللقاء الوحيد في الدقيقة الثالثة عشرة بعد تمريرة رائعة من جوسيب غوارديولا، لكن لاعبي برشلونة تراجعوا للخلف واكتفوا بالقيام بالدور الدفاعي خلال ما تبقى من عمر اللقاء. وبذلك، تأهل برشلونة للدور نصف النهائي ضد بورتو، وأُقيمت المباراة الأولى على ملعب «كامب نو».
بدأ برشلونة مباراة نصف النهائي بسرعة، حيث انطلق ستويتشكوف داخل منطقة الجزاء وسدد رائعة في المرمى ليمنح فريقه التقدم في الدقائق العشر الأولى. وأضاف النجم البلغاري، الذي كان يقدم مستويات استثنائية في تلك الفترة، الهدف الثاني قبل نهاية الشوط الأول، عندما تركه دفاع بورتو من دون رقابة عند القائم الخلفي في خطأ لا يُغتفر. كان برشلونة متقدماً بهدفين دون رد وكان متحكماً تماماً في زمام المباراة. وبعد ذلك، قرر كومان إضافة لمحة من الإبداع ليُمتع الجماهير الغفيرة التي وصل عددها إلى 92 ألف متفرج على ملعب «كامب نو».
مرر غوارديولا، الذي كان يقوم في كثير من الأحيان بدور اللاعب الذي يربط كومان بخط الوسط، كرة جانبية إلى المدافع الهولندي في دائرة منتصف الملعب. كان لاعبو بورتو مرهقين للغاية لأن الفريق كان يلعب بعشرة لاعبين بعد طرد خواو بينتو، وبالتالي فشلوا في الضغط على كومان، الذي قرر الركض بالكرة باتجاه المرمى. ربما اعتقد لاعبو خط وسط بورتو أن هذا مجرد مدافع يمكنه التقدم للكرة لأمتار قليلة قبل أن يتوقف ويمرر الكرة لأحد زملائه في الفريق، لكن عندما تلعب بعشرة لاعبين في ظروف صعبة كهذه فلا يتعين عليك أن تتخذ قرارات غير محسوبة. لم يكن كومان مثل أي مدافع عادي، لكنه كان المدافع الذي سجل 19 هدفاً لبرشلونة في ذلك الموسم، والذي قَبِل هدية لاعبي بورتو ليسجل هدفه الثامن في ذلك الموسم في دوري أبطال أوروبا.
كان من الممكن أن يمرر كومان الكرة إلى زملائه في وسط الملعب، لكنه بدلاً من ذلك فعلاً شيئاً مذهلاً، حيث سدّد الكرة من على بُعد 40 ياردة لتستقر الكرة في الزاوية العليا لشباك الحارس فيتور بايا. احتفل كومان المبتهج وهو يمد ذراعيه، في تلك الصورة المألوفة والشهيرة الآن، ووقف الجمهور الموجود في الملعب بالكامل لتقديم التحية والتصفيق لهذا النجم الهولندي الرائع. لقد نجح كومان في قيادة برشلونة للتأهل إلى الدور النهائي لدوري أبطال أوروبا بإحراز أفضل هدف له في ذلك الموسم. وعلى الرغم من الترسانة الهجومية التي كان يمتلكها كرويف، لم يسجل أي لاعب آخر أهدافاً مثل تلك التي سجلها كومان.
كان كومان يمتلك كل الصفات والمقومات التي تجعله مدافعاً من الطراز الرفيع، فكان بإمكانه القضاء على خطورة أفضل المهاجمين في العالم، وبناء الهجمات من الخلف بتمريرات دقيقة للغاية يمكنها الوصول لأي مكان داخل المستطيل الأخضر، والتقدم إلى الأمام والكرة بين قدميه، وشن هجمات خطيرة من عمق الملعب. لقد لخص الهدف الذي سجله في مرمى بورتو كل تلك الصفات: الهدوء في الاستحواذ، والذكاء في استغلال المساحات الخالية، والحسم عندما تكون الفرصة متاحة.
لكن هذا الموسم الاستثنائي للاعب الهولندي انتهى بخيبة أمل في المباراة النهائية. وبعد أن كان كومان هو البطل قبل عامين ضد سامبدوريا على ملعب ويمبلي الشهير، أصبح جزءاً من خط الدفاع الذي تفوق عليه لاعبو ميلان في أثينا. كان برشلونة قد حسم للتو لقب الدوري الإسباني الممتاز للمرة الرابعة على التوالي، وكان متفائلاً للغاية بشأن قدرته على الفوز في المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا، لكن كرويف قلل من شأن ميلان.
أكد المدير الفني الهولندي بثقة كبيرة أن «برشلونة هو المرشح الأوفر حظاً للفوز في النهائي». وأضاف: «نحن أكثر اكتمالاً وتنافسية وخبرة مما كنّا عليه في ويمبلي. ميلان يبني طريقة لعبه على الدفاع، أما نحن فنبني طريقة لعبنا على الهجوم». لكن على أرض الواقع، قدم ميلان بقيادة مديره الفني فابيو كابيلو أداءً متكاملاً في المباراة النهائية وسحق برشلونة برباعية نظيفة.
في الحقيقة، لم تكن هذه هي النهاية التي يستحقها كومان بعد الموسم الاستثنائي الذي قدمه، لكن سجله التهديفي في ذلك الموسم يظل فريداً من نوعه حتى يومنا هذا. لقد سجل كل من خريستو ستويتشكوف، ويورغن كلينسمان، ولوك نيليس، وجان بيير بابان، وروماريو، ويوري دجوركاييف، وإريك كانتونا جميعهم في دوري أبطال أوروبا في ذلك الموسم، لكن لم يتمكن أي منهم من تسجيل نفس عدد الأهداف التي سجلها كومان. ولم يسجل ثمانية أهداف مثل كومان في ذلك الموسم سوى وينتون روفر، اللاعب الدولي النيوزيلندي الذي كان يتألق آنذاك في خط هجوم نادي فيردر بريمن. لقد كان كومان هو مصدر الإلهام الرئيسي بالنسبة لبرشلونة في طريق الوصول إلى المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا في أثينا، وبعد خيبة الأمل التي شعر بها نتيجة استبعاده من الجولة الافتتاحية للموسم، لم يتم استبعاده من التشكيلة الأساسية للفريق مرة أخرى.
وتمر السنوات ويحصل كومان على وظيفة الأحلام كمدرب لبرشلونة، لكن على ما يبدو أن التوقيت هذه المرة لم يكن جيداً لكي يحقق الهولندي طموحاته وترك بصمته على الفريق.
لقد وصل كومان إلى برشلونة مع بداية موسم 2020 – 2021، لكنه أُقيل قبل نهاية عام 2021.
عندما وصل كومان إلى القيادة الفنية لبرشلونة لم تكن مهمته فقط إعادة التوازن لفريق كان يعاني تحت إدارة المدرب كيكي سيتين، بل أيضاً أن يكون الواجهة للإدارة في حملة التخلص من عدد كبير من اللاعبين الكبار. ولم يخفِ رئيس نادي برشلونة السابق، جوسيب ماريا بارتوميو، خططه عندما قال: «لقد حان الوقت لتقديم وداع مشرف لعدد من اللاعبين الأسطوريين، لكن في البداية كان يجب الترحيب بمدربنا الجديد كومان». وفي ظل تداعيات الأزمة المالية التي ضربت النادي وتغيير مجلس الإدارة بقدوم خوان لابورتا رئيساً جديداً لبرشلونة، كان على كومان أن يدفع الثمن كأنه هو صاحب قرار التخلص من نجوم أصحاب جماهيرية أبرزهم الأرجنتيني الأسطورة ليونيل ميسي. لقد تناست الجماهير الهدف الاستثنائي لكومان اللاعب، الذي ما زال يطلق مشجعي برشلونة عليه «كومان بطل ويمبلي»، في إشارة إلى ملعب ويمبلي الذي احتضن تلك المباراة التاريخية.
لقد أُقيل كومان وحل نجم الفريق الأسطورة الآخر تشافي هيرنانديز مدرباً، لكن ما الذي تغير؟ لقد خرج برشلونة من دوري الأبطال ثم تبع ذلك الفشل في منافسات الدوري الأوروبي، بالإضافة إلى فقدان المنافسة على لقب «الليغا» الذي تُوج به الغريم ريال مدريد. ليسخر كومان، من إدارة الرئيس لابورتا، مؤكداً: «حل أزمة برشلونة لم يكن في إقالتي، تغيير المدير الفني لا يعني دائماً القدرة على التحسن، تشافي لا يتحمل نهائياً ما يمر به النادي، والشيء الوحيد الذي أطلبه الآن، هو دعم الجماهير للمدرب الحالي، لأنني لم أحصل على الدعم الكامل من خوان لابورتا، وآمل أن يكون الرئيس قد تعلم الدرس».