الحروب... هل حقاً تختار موعدها؟

كان الفارابي يرى أنها طبيعة جوهرية في الإنسان

مارشال روزمبيرغ
مارشال روزمبيرغ
TT

الحروب... هل حقاً تختار موعدها؟

مارشال روزمبيرغ
مارشال روزمبيرغ

ليس بغريب أن يحتاط الإنسان من كل شيء قد يتسبب في تعطيل نبض الحياة فيه. يتشبث بتلابيبها ويحرص على استمراريتها فيه واستمراريته فيها. لكنه رغم ذلك يأسره شغف المغامرة بأنواعها، ويستهويه ركوب الأخطار، ومحاذاة شبح الموت، بل مشاكسته وملامسته أحياناً.
ليس بعجيب أن يمجد الإنسان الحياة أيما تمجيد، ثم يذهب منصاعاً إلى الحرب. جندياً بسيطاً. يختبئ خلف سلاحه العاج بالذخيرة. يحتمي به. يتمترس خلفه وهو يدرك أنه لن يقدر على صد خطر الموت عنه. ثم إن شعوراً بالوحدة والاغتراب سيجتاحه رغم وجود آلاف المقاتلين حوله، وخلفه، وأمامه، وترسانة الأسلحة الضخمة والمتطورة. سينتابه الإحساس أنه سيموت وحيداً وغريباً إن أصابته شظية. لن ينتبه له أحد. فكل مجند من هؤلاء الآلاف بل الملايين، سيراوغ الحياة عن نفسها وحيداً، ويتشبث بالجحيم الذي هو فيه، بكل ما أوتي من قوة وحيلة، حتى لا يعبُر إلى العالم الآخر بجحيمه وجناته.عالم الأموات. رغم أنه عالم آخر يشمل الحياة الأخرى التي يؤمن بها بشدة وعمق، ويوصلها بحياته المؤقتة، كأفق جديد مفتوح على الخلود والجمال والعدالة والحرية... نعم...سيكون وحيداً في موته، مثل آلاف المحاربين الآخرين. سيكونون جميعاً وحيدين في ميتاتهم.
- الحياة جميلة لكن بها أشياء حمقاء.
- مثل ماذا؟
- الحرب مثلاً.
لا شك فهي لعنة دائمة. تغيرت قناعات كثيرة عند المخلوق البشري، من دهشته حيال ظاهرة شروق الشمس وغروبها، وصولاً إلى علم الأنساب الجيني. ما عدا الحرب فقد ظلت هي الحرب.
ويا للغرابة. فقد تغيرت عنده قناعات عدة، من بينها أن الأرض لم تعد مركز الكون، وأنها ليست ثابتة، وتبدّى له أيضاً أنها تدور حول نفسها وتدور حول الشمس. إلا الحرب ظلت حالة ثابتة. يدور الزمن، ويخبرنا التاريخ منذ «ملحمة جلجامش» أول نص بشري كُتب على الأرض وحتى عصرنا هذا الحافل بثمار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بأن الحرب نشاط بشري بامتياز. إنها حالة درامية تتكرر عبر الأزمنة. لا تهدأ الصدامات بكل أنواعها ومنها الدبلوماسية، ويحتدم الصراع، وتتواصل الانقلابات، والتسابق نحو التسلح، وحروب العصابات، والنزاعات، والاحتلالات، والمواجهات الداخلية، والحروب الطويلة، والاحتجاجات، والمظاهرات الدامية، والهجرات الجماعية، والعصيانات المدنية، والانتفاضات، والاستثمار في تطوير الأسلحة الفتاكة وليس يهم إذا ما فتكت بالكون كله.
لكن من قال إن المخلوق البشري يستطيع أن يُشفى من إدمانه من نشاطه الأثير الموجع: الحرب؟ إنه فقط يتناساها ليسترجع أنفاسه منها ولها، كما يفعل عصفور حين يغرد صباحاً بشغف، وكأنها لم تكن عاصفة البارحة...
نعم منذ أقدم حرب، حرب الحاضرتين السومريتين لغاش وأُمّا، وحروب بلاد ما بين النهرين، إلى حرب طروادة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إلى غزوات المغول التي خلفت ثلاثة وخمسين مليون قتيلٍ، وحروب روما القديمة، وآسيا الشرق الأوسط، واليونان، وأوروبا، وأميركا الجنوبية، وتمرد التابينغ في الصين الذي خلف أربعة وأربعين مليون قتيلٍ وغيرها وغيرها... وحتى الحربين العالميتين المدمرتين حيث خلفت الأولى 1914 - 1918 حوالي 18 مليونا كخسائر بشرية، والثانية 1939 - 1945 تسببت في 60 مليون ضحية لتأتي الحروب الارتدادية التي توالدت بعدها وحتى الآن. حروب تشاهَد على المباشر بدم بارد. تتسارع أحداثها المأساوية على الشاشات. أمام أعين الناس الباردة. وكأن وباء خطيراً انتشر بين البشر اسمه: التحديق البارد في المجازر.
هل حقاً تختار الحروب موعدها؟ هل هذا ما يحدث الآن... إذ يدور الكوكب دورته، وينتصف القرن بالكاد أو يزيد، كما ينتصف نهارٌ تتوسط سماءَه شمسُ صيف حارق. يبدو أنه الوقت الملائم لموعد انطلاق الحروب الكبرى. فبعد أن اختمرت، بدأت تتململ آلياتُها وتزمجر على الأبواب. انقضت فترة الاستراحة الباردة من الحروب الحامية السابقة. فترة ليست للسلام ولكن من أجل الاستعداد لحرب جديدة، من أجل سن السيوف، والنصال، والحِراب، والمجانيق، وتصنيع الرصاص، والقنابل البيولوجية البكتيرية الجرثومية، والمهجنة وراثياً، وتحديث المدرعات، والراجمات، والقباب السماوية الواقية، وتحديث الترسانة النووية، ومداعبة الرؤوس الحربية النووية الغافية إلى حين، قبل أن تحملها الصواريخ العابرة للقارات، وتطوير تكنولوجيا السلاح، والتخطيط لاستراتيجيات نووية، وعد الصواريخ فرط - صوتية، والأزرار النووية، وتوفير أقراص اليود والملاجئ النووية...
هل يجب الهلع؟! لماذا يهجم البشر على بشر آخرين ويرومون إفناءَهم... ما الذي يجب فعله بما أن الحرب ليست أمراً طارئاً، وأنها متجذرة في جينات المخلوق البشري منذ البدء، وأن فاعليتها بدت جلية في نواميس الكون منذ الصراع الدموي الأول لسليلي آدم، قابيل ضد أخيه هابيل، إلى ما يخترعه خيال عرافي التاريخ البشري المسكون بحرب نجوم قادمة ونهاية العالم...
ما الخطب؟ أليس من سبيل إلى واقع جديد، تستحدِث فيه مهاراتُ العقول الخلاقة في مراكز أبحاثها العلمية العالمية مصْلاً ناجعاً يُسمى «مصل السلام العالمي»، يقي البشرَ ويحميهم من فيروس الوباء العضال المسمى: «الحرب»؟ وتفنيد الفكرة الشائعة أنها شر لا بد منه، وأنها حتمية كي يستعيد بها الإنسان طبيعته السياسية التي خلق من أجلها كما يرمي إلى ذلك الفيلسوف أرسطو، لتتردد حتى زمن دوركهايم وميكافيلي وسيغموند فرويد. وأنها ضرورية كما يخبرنا بذلك ابن خلدون حاسماً، وهو فيلسوف الحروب بامتياز، يسوغ الحرب علانية مستنداً إلى ما استقاه من آراء الفلاسفة والملاحظين لشؤون الحروب قبله، من فلاسفة اليونان ومن فلاسفة المسلمين، من بينهم الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي مجد الحرب في كتاب له، والقديس أوغسطين الذي اعتبرها مرتبطة بطبيعة السوء الكامن في جوهر الإنسان منذ خطيئته الأولى وخروجه من الجنة. لكن فيلسوف الحرب ابن خلدون يستند أكثر في هذه المسألة إلى الفيلسوف والعالم أبي نصر الفارابي. أقربهم إليه، ومرجِعه في تأسيس رأيه القائل بأن الحرب طبيعة جوهرية في الإنسان. تنتج من رغبته في حب التسيد والسيطرة وأخذ ما في يد الغير، والاستيلاء على ما ليس يملكه من خير. ومنطلقاً من معرفته لملابسات الحروب في عصره وما سبقه، يذهب ابن خلدون، إلى تحليل ظاهرة الحرب وزعمائها وأسباب قيامها، وأشكالها، وخِدعها، وحِيلها، ويعالج تأثيراتها السلبية من خراب وتدمير، ويعرض نتائجها الإيجابية باعتبارها من أسباب التمدن. فهل سيفيد اختراع المصل في شيء يا ترى؟ لا بأس... فلنحلم ما دام الحلم لا يحاسب عليه بالقتل.
لا شك أن التفكير في السلام أجدى للإنسانية... فالتنظير للحرب وتسويغها يصير من باب الترف الفكري ما دامت كل حرب تجرّ حرباً أخرى جديدة بكل حمولتها المأساوية... ماذا لو تم التنظير للسلام والبحث عن شروطه وأسباب انتفائه ومسوغات دوامه. ما دامت الحرب حماقة فردية لمن يأمر بها ويشعل فتيلها، وحماقة وسذاجة جماعية لمن يصير حطباً ونثار رماد لها.
لماذا الانحدار المريع نحو جحيم الحرب، بينما العقل البشري بعبقريته وهو الذي اخترع الحوار، ربما قبل أن يفعل ذلك أفلاطون في جمهوريته، يستطيع إيجاد طرق وأسباب لتفاديها.
ولأن لا جمهورية فاضلة مشتهاة على الأرض، تظل تركيبة الإنسان المركبة المتناقضة، تشغل أذهان الذين يحفرون في طبقات التاريخ وجيوبه، ويؤمنون بقدرات العقل البشري على الهدم وعلى البناء على السواء. ويؤذي ضمائرَهم ما تركته الحروبُ من أحزان وجروح ومصائب وآلام للإنسانية منذ غابر الأزمان.
لا مصل هناك... لكن العقل البشري بعبقريته تفطن بأن لكل شيء نقيضه. الحرب لها نقيضها: إنه السلام ولن يتحقق إلا بالحوار العالِم والهادئ، وبالدبلوماسية الماهرة، وتجاوز منطلقات «الحوار» الذي يدخله كل طرف مدججاً - مسبقاً - بقناعاته ومعتقداته الراسخة بِنية تَخطيء الآخر وتكذيبه وشيطنته. منطلقات مغلوطة تؤدي إلى العنف كما يؤكد ذلك صاحب نظرية «التواصل غير العنيف»، الفيلسوف مارشال روزمبيرغ Marshall Rosenberg. الحوار يضحى لعبة خطيرة وعنيفة عندما يأتيه كل طرف بقناعة امتلاك الحقيقة كلها. ينصتُ إلى الآخر ليس بنية محاولة فهمه، بل بنية تفنيد رأيه. إنها سبل لن توصل إلا إلى مزيد من العنف، ولن تتمخض إلا عن قرقعة السلاح، وبدل أن تتكلل بمصافحة الأيدي للسلام، ستدفع باليد القلقة لتتسلل أصابعُها، وتضغط على الزر السري للسلاح النووي لا قدر الله.
أحقاً أن الإنسان لا يطيق العيش في سلام، ولا يستطيع أن يقاوم مضاعفات إدمان رؤية الدم بدم بارد، فيعود للُعبتِه الأثيرة، لعبة القتال، بعد الشعور القاتل بالحرمان منها...؟ أم أن المواطن البسيط في كل أنحاء البسيطة، يريد أن يعيش حياة تنعم بالسلام لمقاومة موت آخر؟ لعل الحقيقة أن هذا يتعارض مع الأقوياء، لأنهم يدركون أن «السلام» لا يخلق أبطالاً، ولا الدبلوماسية قادرة أن تخلق رموزاً. بل هي الحرب، الحرب وحدها تسجل أسماءهم في سجلاتها حتى وإن كانت سجلات سوداء ودامية.

- روائية وشاعرة جزائرية


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
TT

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

«ماريا»، الذي سبق وتناولناه هنا قبل يومين، ليس سوى أحد الأفلام المعروضة على شاشة الدورة 81 لمهرجان «ڤينيسيا»، (انطلق في 28 من الشهر الماضي وتسدل ستارته في 7 سبتمبر «أيلول» الحالي)، الذي يتناول حياة شخصيات شهيرة. إذ إن هناك أفلاماً عدّة تتحدّث عن شخصيات حقيقية أخرى بينها ثلاثة أفلام غير درامية.

إنها أفلام وثائقية وتسجيلية عن أسماء مشهورة تتباعد في أزمانها وشخصياتها كما في أدوارها في الحياة. هناك «رايفنشتال» عن المخرجة الألمانية ليني رايفنشتال التي عاشت نحو 101 سنة، و«جون ويوكو» عن حياة المغني جون لينون (من فرقة البيتلز) والمرأة التي ارتبط بها، كذلك يطالعنا فيلم المخرج التسجيلي إيرول موريس «منفصلون» الذي يتناول بعض ما تمر به الولايات المتحدة من أزمات بخصوص المهاجرين القادمين من فنزويلا وكولومبيا ودول لاتينية أخرى.

في هذا النطاق، وبالمقارنة، فإن «ماريا» للمخرج التشيلي بابلو لاراين، يبقى الإنتاج الدرامي الوحيد بين هذه المجموعة متناولاً، كما ذكرنا، الأيام الأخيرة من حياة مغنية الأوبرا.

المخرجة المتّهمة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية والسياسية. حققت ليني في حياتها 8 أفلام، أولها سنة 1932 وآخرها «انطباعات تحت الماء» (Impressions Under Water) سنة 2002. لكن شهرتها تحدّدت بفيلميها «انتصار الإرادة» (Triumph of the Will) (1935)، و«أولمبيا» الذي أنجزته في جزأين سنة 1938.

السبب في أن هذين الفيلمين لا يزالان الأشهر بين أعمالها يعود إلى أنهما أُنتجا في عصر النهضة النازية بعدما تبوأ أدولف هتلر رئاسة ألمانيا.

دار «انتصار الإرادة» عن الاستعراض الكبير الذي أقيم في عام 1934 في مدينة نورمبيرغ، الذي ألقى فيه هتلر خطبة نارية أمام حشد وصل تعداده إلى 700 ألف شخص. فيها تحدّث عن ألمانيا جديدة مزدهرة وقوية وعن مستقبل كبير ينتظرها.

الفيلم الثاني من جزأين كان عن الأولمبياد الرياضي الذي أقيم صيف 1936، وحضرته أمم كثيرة بعضها من تلك التي تحالفت لاحقاً ضد الاحتلال الألماني لأوروبا.

شغل المخرجة على الفيلمين فعلٌ فني لا يرقى إليه الشك. تصوّر بثراء كل ما يقع أمامها من الجموع إلى المسيرات العسكرية والرياضية، ومنها إلى هتلر وهو يخطب ويراقب سعيداً الاستعدادات العسكرية التي خاضت لاحقاً تلك الحرب الطاحنة التي خرجت ألمانيا منها خاسرة كلّ شيء.

تبعاً لهذين الفيلمين عدّ الإعلام السياسي الغربي المخرجة رايفنشتال ساهمت في الترويج للنازية. تهمة رفضتها رايفنشتال مؤكدة أنها نفّذت فقط ما طُلب منها. في مقطع من الفيلم مأخوذ عن مقابلة مسجّلة تنفي أنها كانت تنفّذ ما طُلب منها تنفيذه، وإنها لم تنتمِ إلى الحزب النازي (وهذا صحيح) ولم تكن تعلم، شأن ملايين الألمان، بما يدور في المعتقلات.

ليني رايفنشتال خلال تصوير «أولمبياد» (مهرجان ڤينيسيا)

يستعرض الفيلم حياة المخرجة التي دافع عن أعمالها نُقاد السينما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. فيلماها لا يزالان من أفضل ما طُبع على أشرطة في مجال الفيلم الوثائقي إلى اليوم، وذلك عائد إلى اختياراتها من اللقطات والمشاهد وتوثيقها لحدثين مهمّين لا يمكن تصوّر السينما من دون وجودهما بدلالاتهما المختلفة. النتيجة الواضحة إلى اليوم، حتى عبر المقتطفات التي يعرضها الفيلم، تفيد بحرفة متقدّمة وتعامل رائعٍ مع الحدث بأوجهه المتعدّدة.

ينتهج المخرج فايل موقفاً يشيد فيه بالمخرجة ومجمل أفلامها السبعة. لا يفوته الاعتراف بأن رايفنشتال كانت فنانة سينما حقيقية، لكن يوجّه مشاهديه في الوقت نفسه إلى أن هذا الفن لم يكن سوى مظهر دعائي للنازية، وأنها لعبت الدور المباشر في البروباغاندا في الفترة التي سبقت الحرب.

حيال سرد هذا التاريخ يستعين المخرج فايل بمقابلات متعددة أدلت بها (معظمها بعد نهاية الحرب) وواجهت فيها منتقديها كما يعمد المخرج إلى مشاهد من حياتها الخاصة. زواجها. رحلتها إلى السودان خلال اضطرابات عام 2000 حيث تحطمت الطائرة المروحية التي استقلّتها وأصيبت برضوض. رحلتها تلك كانت بصدد التعرّف على البيئة النوبية، وكانت قد حصلت على الجنسية السودانية قبل سنوات (إلى جانب جنسيتها الألمانية وإقامتها البريطانية)، وبذلك كانت أول شخص غربي يُمنح الجنسية السودانية.

لا يأتي الفيلم بجديد فِعليّ لما يسرده ويعرضه. هناك كتب عديدة دارت حولها أهمها، مما قرأ هذا الناقد، «أفلام ليني رايفنشتال» لديفيد هنتون (صدر سنة 2000) و«ليني رايفنشتال: حياة» الذي وضعه يورغن تريمبورن قبل سنة من وفاة المخرجة عام 2003.

هو فيلم كاشف، بيد أنه يتوقف عند كل المحطات التي سبق لمصادر أخرى وفّرتها. محاولة الفيلم لتكون «الكلمة الفصل» ناجحة بوصفها فكرة وأقل من ذلك كحكم لها أو عليها.

جون لينون ويوكو أونو

في الإطار الفني، ولو على مسافة كبيرة في الاهتمام ونوع المعالجة، يأتي (One to One: John & Yoko) «واحد لواحد: جون ويوكو» لكيڤن ماكدونالد، الذي يحيط بحياة الثنائي جون لينون وزوجته يوكو أونو اللذين وقعا في الحب وانتقلا للعيش في حي غرينتش فيلاج في مدينة نيويورك مباشرة بعد انفراط فريق «البيتلز» الذي كان جون لينون أحد أفراده الأربعة.

النقلة إلى ذلك الحي لم تكن اختياراً بلا مرجعية سياسية كون غرينتش فيلاج شهدت حينها حياة ثقافية وفنية وسياسية حافلة تعاملت ضد العنصرية وضد حرب فيتنام، وكانت صوت اليسار الشّعبي الأميركي إلى حين فضيحة «ووترغيت» التي أودت بمنصب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. يكشف فيلم مكدونالد (الذي سبق وأُخرج قبل أعوام قليلة، فيلماً عن المغني الجامايكي بوب مارلي) عن اهتمام لينون وزوجته بتلك القضايا السياسية. جون الذي باع منزله المرفّه في ضواحي لندن واستقر في شقة من غرفتين في ذلك الحي، ويوكو التي لعبت دوراً فنياً وتثقيفياً في حياته.

لا يكتفي الفيلم بالحديث عن الثنائي معيشياً وعاطفياً بل عن المحيط السياسي العام ما يُعيد لمشاهدين من جيل ذلك الحين بعض الأحداث التي وقعت، ويوجه المشاهدين الذين وُلدوا سنوات صوب تقدير الثنائي، كما لم يفعل فيلم ما من قبل. ليس لأن «واحد لواحد: جون ويوكو» فيلم سياسي، بل هو استعراض منفّذ مونتاجياً بقدر كبير من الإجادة لحياة ثنائيّ موسيقيّ مطروحة على الخلفية المجتمعية المذكورة.

إرث ترمب

نيسكون مضى ومعه قناعاته وبعد عقود حلّ دونالد ترمب ليسير على النهج اليميني نفسه.

يرتسم ذلك في «منفصلون» (Separated) للمخرج المتخصص بالأفلام التسجيلية والوثائقية السياسية إيرول موريس. من بين أفضل أعماله «ضباب الحرب» (The Fog of War)، الذي تناول الحرب العراقية وكيف تضافرت جهود الحكومة الأميركية على تأكيد وجود ما لم يكن موجوداً في حيازة العراق، مثل القدرات النّووية والصواريخ التي يمكن لها أن تطير من العراق وتحط في واشنطن دي سي (وكثيرون صدّقوا).

«منفصلون» لديه موضوع مختلف: إنه عن ذلك القرار الذي اتخذه ترمب خلال فترة رئاسته ببناء سياج على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لمنع تدفق المهاجرين القادمين من الدول اللاتينية بدافع الفقر وانتشار العنف.

كان يمكن تفهّم هذا القرار لو أنه توقف عند هذا الحد، لكن ترمب تلاه بقرار آخر يقضي بفصل الأطفال عن ذويهم الراغبين في دخول البلاد عبر الحدود. بذلك لدى هؤلاء إمّا العودة من حيث أتوا مع أولادهم، أو العودة من دونهم على أساس وجود هيئات ومؤسسات أميركية ستعني بهم.

مثل هذا الموقف، يؤكد الفيلم، غير الأخلاقي، وكان له معارضون ومؤيدون. بعض المعارضين من أعضاء الكونغرس انقلبوا مؤيدين ما بين مؤتمر صحافي وآخر.

محور الفيلم هو رفض هذا الانفصال على أسس أخلاقية وإنسانية والمتهم الأساسي في فرض العمل به هو ترمب الذي لم يكترث، والكلام للفيلم، لفظاعة الفصل بين الآباء والأمهات وأطفالهم. تطلّب الأمر أن يخسر ترمب الانتخابات من قبل أن يلغي بايدن القرار على أساس تلك المبادئ الإنسانية، لكن بذلك تعاود أزمة المهاجرين حضورها من دون حل معروف.

يستخدم المخرج موريس المقابلات لتأييد وجهة نظره المعارضة وأخرى لرفضها، لكنه ليس فيلماً حيادياً في هذا الشأن. مشكلته التي يحسّ بها المُشاهد هي أن الفيلم يتطرّق لموضوع فات أوانه منذ أكثر من عامين، ما يجعله يدور في رحى أحداث ليست آنية ولا مرّ عليه ما يكفي من الزمن لإعادة اكتشافها ولا هي بعيدة بحيث تُكتشف.