الحروب... هل حقاً تختار موعدها؟

كان الفارابي يرى أنها طبيعة جوهرية في الإنسان

مارشال روزمبيرغ
مارشال روزمبيرغ
TT

الحروب... هل حقاً تختار موعدها؟

مارشال روزمبيرغ
مارشال روزمبيرغ

ليس بغريب أن يحتاط الإنسان من كل شيء قد يتسبب في تعطيل نبض الحياة فيه. يتشبث بتلابيبها ويحرص على استمراريتها فيه واستمراريته فيها. لكنه رغم ذلك يأسره شغف المغامرة بأنواعها، ويستهويه ركوب الأخطار، ومحاذاة شبح الموت، بل مشاكسته وملامسته أحياناً.
ليس بعجيب أن يمجد الإنسان الحياة أيما تمجيد، ثم يذهب منصاعاً إلى الحرب. جندياً بسيطاً. يختبئ خلف سلاحه العاج بالذخيرة. يحتمي به. يتمترس خلفه وهو يدرك أنه لن يقدر على صد خطر الموت عنه. ثم إن شعوراً بالوحدة والاغتراب سيجتاحه رغم وجود آلاف المقاتلين حوله، وخلفه، وأمامه، وترسانة الأسلحة الضخمة والمتطورة. سينتابه الإحساس أنه سيموت وحيداً وغريباً إن أصابته شظية. لن ينتبه له أحد. فكل مجند من هؤلاء الآلاف بل الملايين، سيراوغ الحياة عن نفسها وحيداً، ويتشبث بالجحيم الذي هو فيه، بكل ما أوتي من قوة وحيلة، حتى لا يعبُر إلى العالم الآخر بجحيمه وجناته.عالم الأموات. رغم أنه عالم آخر يشمل الحياة الأخرى التي يؤمن بها بشدة وعمق، ويوصلها بحياته المؤقتة، كأفق جديد مفتوح على الخلود والجمال والعدالة والحرية... نعم...سيكون وحيداً في موته، مثل آلاف المحاربين الآخرين. سيكونون جميعاً وحيدين في ميتاتهم.
- الحياة جميلة لكن بها أشياء حمقاء.
- مثل ماذا؟
- الحرب مثلاً.
لا شك فهي لعنة دائمة. تغيرت قناعات كثيرة عند المخلوق البشري، من دهشته حيال ظاهرة شروق الشمس وغروبها، وصولاً إلى علم الأنساب الجيني. ما عدا الحرب فقد ظلت هي الحرب.
ويا للغرابة. فقد تغيرت عنده قناعات عدة، من بينها أن الأرض لم تعد مركز الكون، وأنها ليست ثابتة، وتبدّى له أيضاً أنها تدور حول نفسها وتدور حول الشمس. إلا الحرب ظلت حالة ثابتة. يدور الزمن، ويخبرنا التاريخ منذ «ملحمة جلجامش» أول نص بشري كُتب على الأرض وحتى عصرنا هذا الحافل بثمار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بأن الحرب نشاط بشري بامتياز. إنها حالة درامية تتكرر عبر الأزمنة. لا تهدأ الصدامات بكل أنواعها ومنها الدبلوماسية، ويحتدم الصراع، وتتواصل الانقلابات، والتسابق نحو التسلح، وحروب العصابات، والنزاعات، والاحتلالات، والمواجهات الداخلية، والحروب الطويلة، والاحتجاجات، والمظاهرات الدامية، والهجرات الجماعية، والعصيانات المدنية، والانتفاضات، والاستثمار في تطوير الأسلحة الفتاكة وليس يهم إذا ما فتكت بالكون كله.
لكن من قال إن المخلوق البشري يستطيع أن يُشفى من إدمانه من نشاطه الأثير الموجع: الحرب؟ إنه فقط يتناساها ليسترجع أنفاسه منها ولها، كما يفعل عصفور حين يغرد صباحاً بشغف، وكأنها لم تكن عاصفة البارحة...
نعم منذ أقدم حرب، حرب الحاضرتين السومريتين لغاش وأُمّا، وحروب بلاد ما بين النهرين، إلى حرب طروادة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إلى غزوات المغول التي خلفت ثلاثة وخمسين مليون قتيلٍ، وحروب روما القديمة، وآسيا الشرق الأوسط، واليونان، وأوروبا، وأميركا الجنوبية، وتمرد التابينغ في الصين الذي خلف أربعة وأربعين مليون قتيلٍ وغيرها وغيرها... وحتى الحربين العالميتين المدمرتين حيث خلفت الأولى 1914 - 1918 حوالي 18 مليونا كخسائر بشرية، والثانية 1939 - 1945 تسببت في 60 مليون ضحية لتأتي الحروب الارتدادية التي توالدت بعدها وحتى الآن. حروب تشاهَد على المباشر بدم بارد. تتسارع أحداثها المأساوية على الشاشات. أمام أعين الناس الباردة. وكأن وباء خطيراً انتشر بين البشر اسمه: التحديق البارد في المجازر.
هل حقاً تختار الحروب موعدها؟ هل هذا ما يحدث الآن... إذ يدور الكوكب دورته، وينتصف القرن بالكاد أو يزيد، كما ينتصف نهارٌ تتوسط سماءَه شمسُ صيف حارق. يبدو أنه الوقت الملائم لموعد انطلاق الحروب الكبرى. فبعد أن اختمرت، بدأت تتململ آلياتُها وتزمجر على الأبواب. انقضت فترة الاستراحة الباردة من الحروب الحامية السابقة. فترة ليست للسلام ولكن من أجل الاستعداد لحرب جديدة، من أجل سن السيوف، والنصال، والحِراب، والمجانيق، وتصنيع الرصاص، والقنابل البيولوجية البكتيرية الجرثومية، والمهجنة وراثياً، وتحديث المدرعات، والراجمات، والقباب السماوية الواقية، وتحديث الترسانة النووية، ومداعبة الرؤوس الحربية النووية الغافية إلى حين، قبل أن تحملها الصواريخ العابرة للقارات، وتطوير تكنولوجيا السلاح، والتخطيط لاستراتيجيات نووية، وعد الصواريخ فرط - صوتية، والأزرار النووية، وتوفير أقراص اليود والملاجئ النووية...
هل يجب الهلع؟! لماذا يهجم البشر على بشر آخرين ويرومون إفناءَهم... ما الذي يجب فعله بما أن الحرب ليست أمراً طارئاً، وأنها متجذرة في جينات المخلوق البشري منذ البدء، وأن فاعليتها بدت جلية في نواميس الكون منذ الصراع الدموي الأول لسليلي آدم، قابيل ضد أخيه هابيل، إلى ما يخترعه خيال عرافي التاريخ البشري المسكون بحرب نجوم قادمة ونهاية العالم...
ما الخطب؟ أليس من سبيل إلى واقع جديد، تستحدِث فيه مهاراتُ العقول الخلاقة في مراكز أبحاثها العلمية العالمية مصْلاً ناجعاً يُسمى «مصل السلام العالمي»، يقي البشرَ ويحميهم من فيروس الوباء العضال المسمى: «الحرب»؟ وتفنيد الفكرة الشائعة أنها شر لا بد منه، وأنها حتمية كي يستعيد بها الإنسان طبيعته السياسية التي خلق من أجلها كما يرمي إلى ذلك الفيلسوف أرسطو، لتتردد حتى زمن دوركهايم وميكافيلي وسيغموند فرويد. وأنها ضرورية كما يخبرنا بذلك ابن خلدون حاسماً، وهو فيلسوف الحروب بامتياز، يسوغ الحرب علانية مستنداً إلى ما استقاه من آراء الفلاسفة والملاحظين لشؤون الحروب قبله، من فلاسفة اليونان ومن فلاسفة المسلمين، من بينهم الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي مجد الحرب في كتاب له، والقديس أوغسطين الذي اعتبرها مرتبطة بطبيعة السوء الكامن في جوهر الإنسان منذ خطيئته الأولى وخروجه من الجنة. لكن فيلسوف الحرب ابن خلدون يستند أكثر في هذه المسألة إلى الفيلسوف والعالم أبي نصر الفارابي. أقربهم إليه، ومرجِعه في تأسيس رأيه القائل بأن الحرب طبيعة جوهرية في الإنسان. تنتج من رغبته في حب التسيد والسيطرة وأخذ ما في يد الغير، والاستيلاء على ما ليس يملكه من خير. ومنطلقاً من معرفته لملابسات الحروب في عصره وما سبقه، يذهب ابن خلدون، إلى تحليل ظاهرة الحرب وزعمائها وأسباب قيامها، وأشكالها، وخِدعها، وحِيلها، ويعالج تأثيراتها السلبية من خراب وتدمير، ويعرض نتائجها الإيجابية باعتبارها من أسباب التمدن. فهل سيفيد اختراع المصل في شيء يا ترى؟ لا بأس... فلنحلم ما دام الحلم لا يحاسب عليه بالقتل.
لا شك أن التفكير في السلام أجدى للإنسانية... فالتنظير للحرب وتسويغها يصير من باب الترف الفكري ما دامت كل حرب تجرّ حرباً أخرى جديدة بكل حمولتها المأساوية... ماذا لو تم التنظير للسلام والبحث عن شروطه وأسباب انتفائه ومسوغات دوامه. ما دامت الحرب حماقة فردية لمن يأمر بها ويشعل فتيلها، وحماقة وسذاجة جماعية لمن يصير حطباً ونثار رماد لها.
لماذا الانحدار المريع نحو جحيم الحرب، بينما العقل البشري بعبقريته وهو الذي اخترع الحوار، ربما قبل أن يفعل ذلك أفلاطون في جمهوريته، يستطيع إيجاد طرق وأسباب لتفاديها.
ولأن لا جمهورية فاضلة مشتهاة على الأرض، تظل تركيبة الإنسان المركبة المتناقضة، تشغل أذهان الذين يحفرون في طبقات التاريخ وجيوبه، ويؤمنون بقدرات العقل البشري على الهدم وعلى البناء على السواء. ويؤذي ضمائرَهم ما تركته الحروبُ من أحزان وجروح ومصائب وآلام للإنسانية منذ غابر الأزمان.
لا مصل هناك... لكن العقل البشري بعبقريته تفطن بأن لكل شيء نقيضه. الحرب لها نقيضها: إنه السلام ولن يتحقق إلا بالحوار العالِم والهادئ، وبالدبلوماسية الماهرة، وتجاوز منطلقات «الحوار» الذي يدخله كل طرف مدججاً - مسبقاً - بقناعاته ومعتقداته الراسخة بِنية تَخطيء الآخر وتكذيبه وشيطنته. منطلقات مغلوطة تؤدي إلى العنف كما يؤكد ذلك صاحب نظرية «التواصل غير العنيف»، الفيلسوف مارشال روزمبيرغ Marshall Rosenberg. الحوار يضحى لعبة خطيرة وعنيفة عندما يأتيه كل طرف بقناعة امتلاك الحقيقة كلها. ينصتُ إلى الآخر ليس بنية محاولة فهمه، بل بنية تفنيد رأيه. إنها سبل لن توصل إلا إلى مزيد من العنف، ولن تتمخض إلا عن قرقعة السلاح، وبدل أن تتكلل بمصافحة الأيدي للسلام، ستدفع باليد القلقة لتتسلل أصابعُها، وتضغط على الزر السري للسلاح النووي لا قدر الله.
أحقاً أن الإنسان لا يطيق العيش في سلام، ولا يستطيع أن يقاوم مضاعفات إدمان رؤية الدم بدم بارد، فيعود للُعبتِه الأثيرة، لعبة القتال، بعد الشعور القاتل بالحرمان منها...؟ أم أن المواطن البسيط في كل أنحاء البسيطة، يريد أن يعيش حياة تنعم بالسلام لمقاومة موت آخر؟ لعل الحقيقة أن هذا يتعارض مع الأقوياء، لأنهم يدركون أن «السلام» لا يخلق أبطالاً، ولا الدبلوماسية قادرة أن تخلق رموزاً. بل هي الحرب، الحرب وحدها تسجل أسماءهم في سجلاتها حتى وإن كانت سجلات سوداء ودامية.

- روائية وشاعرة جزائرية


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
TT

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

عاماً بعد عام وبدأب وطموح كبيرين يُثبت معرض فن أبوظبي مكانه في خارطة المعارض الفنية العربية، وهذا العام احتفل بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم في مقره بجزيرة السعديات الملتفة برداء الفنون. التجول في أروقة المعرض الفني يحمل الكثير من المتعة البصرية والفنية، نعيد مشاهدة أعمال لفنانين كبار، ونكتشف أعمالاً لم نرها من قبل لفنانين آخرين، ونكتشف في وسط ذلك النجوم الصاعدة. ولم يختلف الوضع هذا العام بل أضاف أقساماً جديدة ليستكشف الزائر من خلالها أعمالاً فنية بعضها عتيق وبعضها حديث، من الأقسام الجديدة هناك «صالون مقتني الفنون» و«فن جريء، فن جديد» و«طريق الحرير، الهويات المتبادلة» إضافة إلى معرض منفصل من مجموعة فرجام عن الفن الحديث والتحرر من الاستعمار سنعود له لاحقاً.

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

صالون مقتني الفنون

يُعد إضافة مميزة لنسخة هذا العام، ويعرض المخطوطات والأسطرلابات والتحف التاريخية والكتب النادرة بتنظيم من روكسان زند. نطلق الجولة من غرفة أنيقة حملت جدرانها خريطة ضخمة أحاط بها من اليمين واليسار قطعتان مثبتتان على الحائط، ونقرأ أنها كانت تُستخدم لحمل العمامة في العهد العثماني، في كوات حائطية نرى أطباقاً من الخزف أحدها يعود للقرن الـ16، ويصور فارساً عربياً على صهوة جواده، وفي أخرى إبريق ذهبي اللون يعود للعهد العثماني. في جناح «شابيرو للكتب النادرة» من بريطانيا نرى نسخاً من مصاحف تاريخية مزخرفة ومذهبة بجمال وحرفة لا تتخطاها العين، ما يجذب الزائر هو أن الكتب والمصاحف كلها في متناول اليد مفتوحة الصفحات ومنتظمة في عرض جميل.

مصاحف أثرية (الشرق الأوسط)

تستعرض القائمة على العرض بعض القطع المميزة، وتقول: «إنها المرة الأولى التي نشارك فيها في معرض أبوظبي. نعرض بعض المخطوطات والكتب النادرة من متجرنا في لندن، منها صفحة من مصحف بالخط الحجازي يعود للقرن السابع، وبعض المصاحف المصغرة أحدها يعود للقرن الـ19». وعن الأسعار تقول إنها تتراوح ما بين آلاف الدولارات لبعض اللوحات التي تعود لعهد الحملة الفرنسية على مصر، أما المصاحف فتتراوح أسعارها حسب تاريخها ونسبة مالكيها السابقين، كمثال تشير إلى نسخة تعود لبلاد فارس في القرن الـ16 سعرها 335 ألف دولار، وصحائف من القرآن تتراوح أسعارها ما بين 20 و30 ألف دولار. هنا أكثر من مثال للمصاحف المصغرة منها مصحف مكتوب بدقة متناهية بالذهب على أوراق خضراء اللون مشكلة على نحو ورق الشجر، وبجانبه نرى مصحفاً مصغراً آخر محفوظاً في علبة ذهبية تتوسطها عدسة مكبرة. الكتابة دقيقة جداً، وهو ما يفسر وجود العدسة المكبرة، تقول: «هذا المصحف ليس مكتوباً باليد مثل المصاحف الأخرى هنا، بل مطبوع من قبل دار نشر في غلاسكو في عام 1900 باستخدام تقنية جديدة للطباعة الفوتوغرافية. ومثل هذا النوع من المصاحف المصغرة كانت تطبع لاستخدام الجنود البريطانيين المسلمين في الحرب العالمية الأولى، وكانوا يرتدونها معلقة في قلائد كتعويذة، يقدر سعر المصحف بـ3.5 ألف دولار أما المصحف على هيئة ورقة الشجر فيقدر سعره بـ40 ألف دولار.

مصحف مصغر مطبوع في غلاسكو عام 1900

نمر على «غاليري آري جان» الذي يعرض لوحات المستشرقين من القرن الـ19، ومنها أعمال جاك ماجوريل، ثم نصل إلى جناح «كتب دانيال كاروش النادرة» الذي يعرض مكتبة تضم أكثر من 500 ألبوم صور تحتوي على صور تاريخية للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعالم العربي الأوسع. هنا نرى مجموعة من الصور النادرة المكبرة معروضة على كامل الحائط، من ضمنها صور من الجزيرة العربية قديماً، بعضها لأشخاص مشهورين مثل الرحالة غيرترود بيل ولورانس العرب، وغيرها لأشخاص لا نعرف أسماءهم، نرى أيضاً صوراً للكعبة المكرمة وصوراً عامة لأشخاص يرتدون الزي العربي. في الصدارة مجموعة من المجلدات، يقول عنها المشرف على الجناح إنها المجموعة الكاملة التي تضم 33 ألف صورة من 350 ألبوماً، يقول: «إنَّ المجموعة تعود لسيدة من لندن تُدْعَى جيني ألزوث، وإنها جمعت الصور على مدى 25 إلى 30 عاماً. الشيء المثير للاهتمام في هذه المجموعة هو أنها تعبّر عن لمحات من الحياة اليومية في الجزيرة العربية التقطها زوار أوروبيون بريطانيون على مدار 130 عاماً».

صور تاريخية للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعالم العربي

يضيف محدثنا أن الصور لم تنشر من قبل، «نأمل أن تقدم هذه الصور سرداً لتاريخ المنطقة لم يوثقه أحد من قبل»، ويقدر سعرها بمبلغ 2 مليون دولار.

ولفت جناح دار «كسكينار - كنت آنتيكس» الأنظار إليه بمجسم لحصان وضع عليه سرج صُنع للسلطان العثماني سليم الثالث (1789-1807) ومزين بـ1036 شكلاً مذهباً، منها أكثر من 500 نجمة فضية، وكل نجمة يصل وزنها إلى 11 غراماً تقريباً، ويصل سعر السرج إلى 3 ملايين دولار.

«فن جريء، فن جديد»

«فن جريء، فن جديد»، بإشراف ميرنا عياد، يعيد عرض أعمال لفنانين مهمين كان لهم أدوار محورية في تاريخ الفن في المنطقة. من خلاله تستعرض صالات من تونس ومصر وفلسطين ولبنان والمملكة العربية السعودية وإيران وفرنسا، مجموعة ملهمة من أعمال الفن الحديث لفنانين وفنانات رواد من أوائل الستينات، وحتى أوائل الثمانينات»، وفي هذا الإطار نستمتع بنماذج رفيعة لرواد أمثال إنجي أفلاطون من مصر ونبيل نحاس من لبنان وسامي المرزوقي من السعودية وغيرهم. الأعمال المعروضة في هذا القسم لها ألق خاص فهي تعيد فنانين حفروا أسماءهم في تاريخ الفنون في بلادهم، وفي الوطن العربي بعضهم انحسرت عنه أضواء السوق الفنية، وأعادها العرض مرة أخرى لدائرة الضوء.

عمل للفنانة المصرية إنجي أفلاطون (الشرق الأوسط)

في «غاليري ون» نرى أعمالاً للفنانة الأردنية الفلسطينية نبيلة حلمي (1940-2011)، يصف موقع المتحف الوطني الأردني أسلوب الفنانة الراحلة بأنه خليط من «الكولاج والألوان المائية والحبر الصيني. تتميز أعمالها الزيتية بشفافية حالمة وعفوية، فيها تجريد تعبيري يتسم بالغموض والنضج الفني». نرى هنا نماذج لأعمالها، ونتحدث مع المشرف على القاعة عنها، يقول إنَّ الفنانة لها أعمال في متاحف عالمية وعربية، ولكنها قليلة في السوق التجارية. الفنانة الثانية هي إميلي فانوس عازر (فلسطينية، مواليد الرملة عام 1949)، ويعرض لها الغاليري أكثر من عمل منها بورتريه لامرأة تنظر إلى الأمام بينما عقدت ذراعيها أمامها، العمل يجبر الزائر على التوقف أمامه والتأمل فيما يمكن أن تخفيه تلك المرأة خلف نظرتها الواثقة والعزيمة التي تنبعث منها.

بورتريه للفنانة إميلي فانوس عازر (الشرق الأوسط)

من مصر يقدم «أوبونتو آرت غاليري» المشارك للمرة الأولى عدداً من أعمال الفنان المصري إيهاب شاكر (1933-2017)، المألوفة للعين، فالفنان له خطوط مميزة رأيناها في أعمال الكاريكاتير التي نشرها في الصحف المصرية. يقول المسؤول عن الغاليري إن شاكر انتقل للعمل في مسرح العرائس مع شقيقه ناجي شاكر قبل أن يسافر إلى فرنسا في عام 1968 حيث عمل في مجال أفلام الرسوم المتحركة، ونال عدداً من الجوائز عن أحد أفلامه. تلفتنا تعبيرات شاكر التي تحمل عناصر شعبية مصرية يقول عنها محدثنا إنَّها تبعث البهجة، ويشير إلى أن الحس الموسيقي يميز أعمال الفنان أيضاً، ويظهر ذلك في الوحدة والتناغم بين العناصر، ويؤكد أن «لديه خطوطاً مختلفة عن أي فنان آخر».

من أعمال الفنان إيهاب شاكر (الشرق الأوسط)

 

في «غاليري بركات» من بيروت نجد مجموعة من الأعمال المتنوعة ما بين اللوحات والمنحوتات الخشبية والبرونزية، يتحدث معنا صالح بركات مالك الغاليري عن الأعمال المعروضة، ويبدأ بالإشارة لعمل ضخم من البرونز للفنان معتصم الكبيسي يمثل أشخاصاً يتهامسون: «يعكس خلفيات المسرح السياسي، الكل يتهامس، وما لا يقال قد يكون أكثر أهمية مما يقال». للفنان جوزف الحوراني منحوتات خشبية تحمل كتابات بالخط العربي، تنتظم ببراعة، وتتضافر في تشكيلات خشبية مدهشة تجعلنا ندور حولها، ونحاول قراءة الجمل المكتوبة، ومنها «مصائب قوم عند قوم فوائد» و«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ». «عبقرية!» يصفها صالح بركات، ويتحدث عن الخط العربي ونقله للعالم المعاصر: «أنا اليوم يعنيني أن نحافظ على تراثنا بطريقة عصرية. نريد أن نأخذ تراثنا للمستقبل».

من أعمال الفنان العراقي سيروان باران (الشرق الأوسط)

ينتقل إلى عملين للفنان سروان بهما الكثير من الحركة، نرى أشخاصاً يتحركون في اتجاهات مختلفة، يحملون حقائب وأمتعة، ليست حركة مرحة بل متعجلة، يعلق: «الفنان لا يتحدث فقط عمّن يرحل، بل أيضاً عمّن يعود، حالات ذهاب وعودة وضياع».

 

الفن السعودي حاضر

عبر مشاركات في «غاليري أثر» و«غاليري حافظ» نرى عدداً من الأعمال الفنية السعودية المميزة، فيعرض «غاليري أثر» مجموعة من أعمال الفنانة المبدعة أسماء باهميم تفيض بالحيوانات الأسطورية وقصص من الخيال مرسومة على الورق الذي تصنعه الفنانة بيدها. للفنانة باهميم هنا مجموعتان جذابتان: «ملاحظات في الوقت» و«فانتازيا». تستكشف الأخيرة الفروق الدقيقة والتعقيدات في سرد القصص. وتتعمق «ملاحظات في الوقت»، وهي سلسلة أحدث، في الفولكلور العربي، وتفحص الأدوار الجنسانية في الحكايات التقليدية وتأثيرها اللاحق على الهوية الثقافية.

من أعمال الفنانة أسماء باهميم (الشرق الأوسط)

كما يقدم «أثر» عدداً من أعمال رامي فاروق الفنية وسلسلة للفنانة سارة عبدو بعنوان «الآن بعد أن فقدتك في أحلامي، أين نلتقي». أما «غاليري حافظ» فيقدم صالتين تتضمنان أعمال مجموعة من الفنانين المعاصرين والحديثين، فيقدم عدداً من أعمال الفنان سامي المرزوقي تتميز بألوانها وخطوطها التجريدية. وفي قسم الفن المعاصر يعرض أعمال الفنانة بشائر هوساوي، التي تستمد فنونها من بيئتها الغنية وذاكرتها البصرية العميقة، باستخدام مواد طبيعية مثل النخيل، وتعبر عن موضوعات مثل الانتماء، والحنين، والهوية الإنسانية المتغيرة. بجانبها يستعرض سليمان السالم أعماله التي تتعمق في الطبيعة الزائلة للوجود. باستخدام تقنيات الطباعة العدسية والفيديو ووسائط أخرى، تستكشف أعماله التفاعل بين الشعور والإدراك والتواصل الإنساني.