تزامُن رحيل عاصي الرحباني مع عيدَي الموسيقى والأب، وبداية الصيف الشاهد على اختمار الأكواز المُثقلة أغصانها؛ ليس من مزاجيات العبث. 36 عاماً على غياب عبقري المثلث الذهبي، عاصي الرحباني، الذي طبع مع شقيقه منصور ورفيقة المشوار فيروز بديع الوجدان اللبناني. وقلّما يُحبَّذ فصل الأخ عن أخيه في الاستعادة والتحية، فهما، بوفاق وتجانس، أسسا المدرسة والإرث وذوّبا الموهبة عن قصد في انصهار مدهش. الحديث عن عاصي بمعزل عن منصور و«جارة القمر»، هو لدواعي المناسبة، ولأن العبقرية المضيئة من تلقائها وضمن «الأخوين»، بتأكيد فرادتها، لا بسلخها عن محيطها الإبداعي، تملك من السطوع ما يرفعها عالياً، حيث مجدها في توهجها بذاته وبصميم الثلاثية.
خطّت الطبيعة قدر صبي جذوره من الشوير الخلابة بمناظرها: زهور تتحايل على الصخور فتنبثق من صلبها؛ جداول تعانق وعورة المنحدرات فتُليّن قسوتها، وصدى عواء الذئاب في الفلاء الواسع والاخضرار الفسيح. وفي أنطلياس، نشأ بجوار الفلاح والراعي؛ مسرحه الأول البساتين وانشراح الزهر والشجر، وإلهامه الأرض العظيمة بخياراتها ووطأة الفصول على كائناتها. وصدف أنّ الجدة المُحبة للحكايات، أغنت مخيلته بذاكرتها، فكبُر الصبي متشرباً الروح الخلاقة والظروف المواتية لتفتّح العبقرية.
صقل الأب بولس الأشقر الأنطوني الموهبة الخام المرصّعة بفطرتها، ومنه تعلّم الألحان الشرقية والكنسية ومبادئ النظريات الموسيقية، قبل التتلمذ على يد برتران روبيار، أستاذ العلوم الموسيقية الغربية. سبق الصقل غذاء الجوهر المبدع من النسائم في الصيف والعصف في الشتاء، ومن المنحدر والكرْم والوادي، والسماء بقرص الشمس ووجه القمر ودلع النجوم. لمع بالشعر والقصيدة المحكية وأدهشته تركيبة الزجل في الموروث الشعبي اللبناني، فظلّ يُراكم علوّ الكلمة واللحن، ومنه خلّد أسطورة الظاهرة الرحبانية.
المراكمة تعبٌ لا يرغب في استراحة، ومطاردة مُعذِّبة للكمال. حين يقول عاصي الرحباني: «لا أستطيع العيش دقيقة بلا تلحين وعطاء»، فلأنه مُعذّب بالبراعة والتوق إلى الارتفاع. في فيلم «كانت حكاية»، إخراج ابنته ريما الرحباني في الذكرى الـ23 لغيابه، تعبُر مزاياه على لسان فيروز المُلهمة، ومَن غيّرت نظرته وعمّقت إحساسه. تتحدث عن «مطارح دخلتها ولم يعد في الإمكان مغادرتها»، وتلك مطارحه بمرتبة عالمها. صانع الحيّز الممتلئ بالعبق، ومُوسّع الأفق المتجاوز انحصاره بخط واحد ولون واحد ونظرة جامدة.
هو المعروف عنه «عناده» في التمسّك برقي الصناعة الجمالية. لا يتنازل عن مبدأ ولا ينحرف عن مسار جدّية العمل والالتزام الكبير. ليس من باب الذم، خروج فيروز من وقت إلى آخر بفيديوهات تنشرها ابنتهما ريما، لتستعيد «القسوة». قسوة العبقري على الآخرين ونفسه بالدرجة الأولى، حيث هي وهم في المصاف الواحد ورفض المساومة.
هذا «الديكتاتور»، بوصف الزوجة - القامة، تقوده «ديكتاتوريته» إلى العطاء الخلاق. يلاحق، باللسان الشعبي، «كل شاردة وواردة». لا تقل أهمية النغمة عنده عن أهمية خبطة قدم راقص في مسرحية. وما يُبهج الجمهور مُستمد من انضباط الكواليس بتعليماته وإدارته وفق ما يراه مناسباً. يفرّ الخلل من الساحة، فرأس عاصي يُفعّل الحلول البديلة. لا تتقدّم مشكلة، حتى تتراجع بهمّة عقله المدبّر. يدان تحرّكان مائة جبهة، وقلب يؤمن بأن ما لا يصل إلى الناس قدره الفشل، عندها لا بدّ من إعادة الحسابات ومراجعتها.
في فيديو نشرته ريما الرحباني لمناسبة ذكراه عبر صفحتها «الفيسبوكية»، صوّرت شقيقتها الراحلة ليال الرحباني والدتهما فيروز في إحدى حفلات لندن. مانع عاصي آنذاك، عام 1978، عودتها إلى المسرح للقاء الجمهور لاعتباره أن الغناء وحده كافٍ. وبعد إصرار الهاتفين بحب، وافق بأن تلقي التحية لمرة واحدة. هي بذاتها تعترف أنها تنفّذ كل ما يطلب لثقتها به وإيمانها برؤيته. ورغم رفضه النقاش، بقولها، لم تكفّ عن الإعجاب بآرائه وأفكاره. سحرها وسحرته.
لا يولد عباقرة كل يوم، وإن توافرت لهم طبيعة أنطلياس والشوير ودهشات الأرض. تلك جينات مفعمة بالفرادة يسكن فيها نوع الينابيع التواق إلى التفجّر، فيُخرج منه الماء الغزير الصافي العصي على الشوائب أو الجفاف والصمت. النبع هو عذوبة من تلقائها، أكانت الأيام معه أو ضده، يولّد ذاته من الداخل إلى الخارج فيمتنع عن الانصياع لما قد يُعكّر. يظل مصراً على الجريان، بلا تكرار مسار الجري بالخطوات نفسها. تجديد وابتكار، وتوليد كأنه دائماً من الصفر وفي الحقيقة هو من التراكم المُرصّع والخبرة الاستثنائية.
ليس مثل عاصي الرحباني أحد، ولن يكون. وهو ليس هذه القامة الذهبية لولا أنّ فيه «سوسة» تعنّ حدّ الوجع، ولا تكفّ عن إصدار الأصوات ما لم يخرج بأروع الأغاني وأعذب الصور الشعرية. عبقريته في كونه جريئاً بالابتداع، وذلك يتخطى «وظيفة» الشعر والتلحين والتوزيع والغناء والإخراج. أن يتفوّق المرء بالبراعة، فهنا الندرة. ويا للهول وهو يبتدع للبنانيين وطناً مشتهى، يعذّب اليوم الباقين على الأرض والتائهين في المهجر. «قاسٍ»، هو الآخر، الحلم الرحباني داخل المساحة المشتعلة والحريق الرهيب. يكوي، في الوقت الذي ينتشل من اللهب.
36 عاماً على غياب عاصي الرحباني صانع المطارح العابقة
يتزامن الرحيل مع بداية الصيف وعيدَي الموسيقى والأب
36 عاماً على غياب عاصي الرحباني صانع المطارح العابقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة