رغم صعود الفن الأفريقي المعاصر إلى الواجهة، فإن مصطلحاته لا تزال متأثرة إلى حد كبير بالمقومين الأجانب، من المتاحف، وصالات العرض، وجامعي التحف، ودور المزادات الغربية التي يتركز اهتمامها على النجوم ومنح القيمة.
في المدن الأفريقية، قد يكون دعم الدولة للفنون هزيلاً، نتيجة لعقود من الضغوط التي تفرضها الميزانية؛ خصوصاً من قبل الجهات المُقرضة، مثل صندوق النقد الدولي. وكثيراً ما تمثل الوكالات الثقافية الأجنبية، مثل المعهد الفرنسي أو معهد غوته، أهم مقدمي الفنون.
لكن الموائد تنقلب كل عامين. فعلى مدى الأسابيع الخمسة المحمومة من «بينالي داكار» للفن الأفريقي المعاصر، يجتمع هنا المنتجون الثقافيون من القارة ومن مهاجريها، من أجل أكبر وأكثر التجمعات الفنية كثافة وأكثرها استدامة، وهو الآن في نسخته الرابعة عشرة، على الأراضي الأفريقية بشروطها الخاصة، وتمويل أساسي من حكومة السنغال.
بينالي العام الحالي، المؤجل من سنة 2020 بسبب الجائحة، يحمل عنوان «أنا ندافا»، وهو تعبير «سيريري» (لجماعة عرقية دينية تقطن غرب أفريقيا، وثالث أكبر الجماعات العرقية في السنغال) الذي ترجمه الحاج مالك ندياي، المدير والمؤرخ الفني، إلى عبارة «الخروج من النار»، في إشارة إلى التحول؛ حيث تتغير طبيعة المواد وتُصنع المعاني. والمدينة نفسها هي بوتقة الانصهار، مع برنامج واسع النطاق يضم نحو 500 عرض وفعالية تابعة، تُعرف باسم «Le Off»، في جميع أنحاء العاصمة المزدحمة، وتمتد إلى مشارفها وبلداتها النائية.
تقول باسكال أوبولو، المخرجة الكاميرونية المقيمة في باريس: «يحدد بينالي دكار نغمة ودرجة حرارة المشهد الأفريقي المعاصر». وهي موجودة لإدارة معرض للكتب الفنية في ساحة عامة على طريق الكورنيش البحري، يضم عشرات دور النشر والمجلات الأفريقية المستقلة.
وفي مركز فني آخر بحي أواكام، عقدت المخرجة المصرية جيهان الطاهري، جلسة عمل عن أرشيف الصورة والصوت الأفريقي، ومن ثم فتحت الأبواب أمام العروض العامة على الأسطح. وفي قرية بوبينغوين الساحلية، نظمت الأمينة الغانية نانا أوفورياتا أييم «متحفاً متنقلاً» بمشاركة فنانين وسكان محليين.
وهذه البراعة الفكرية، أي الشعور بأن عدداً لا يحصى من المشاريع قد صيغ أو قُدم مع التوجه الأفريقي العام أو التوجه العالمي للجنوب، هي طاقة مميزة لبينالي داكار، يتردد صداها لأبعد من فعالياتها الرئيسية. والواقع أن العديد من المنظمين يقولون إنهم يأتون في الغالب لأجل الفعاليات غير الرسمية. (ينتهي العرض الرئيسي اليوم؛ بيد أن العديد من الفعاليات غير الرسمية مستمرة).
يعتبر نهج البينالي مفرطاً في الطموح، ومتقيداً بالحدود بصورة كبيرة؛ لكنه يفضل الاكتشافات. العرض الرئيسي الذي تستضيفه دار محكمة حداثية سابقة، يُحافظ عليها الآن في حالة تدهور مثيرة، وزاخرة بأسماء جديدة تختارها العروض المفتوحة. وتشمل الفعاليات غير الرسمية مجموعة كبيرة من المشاريع المفاهيمية الحادة، والمشاهد المعاكسة للرسامين السنغاليين، ومعارض المواهب الناشئة، وتصميم النوافذ المنبثقة، والمشاريع المجتمعية، والفن السياحي الممجد.
ولكن بعيداً عن الطاقة الهائلة والوفرة الكبيرة، تحولت مخاطر المجال العام على نحو يشكل تحدياً لـ«بينالي داكار» وغيره من المعارض للقيام بالمزيد. السنوات الأربع التي مرت منذ البينالي الأخير، فتحت الآفاق الجديدة أمام صناعة الفن الأفريقي، والأفكار الأفريقية الأكثر عمقاً في العالم.
الاسترداد هو أكثر الجبهات ازدحاماً. بعد عقود من التقاعس عن العمل، أصبحت إعادة الأشياء التي حُصل عليها خلال النهب الاستعماري، على رأس جدول الأعمال. وتشجع سلسلة من عمليات التسليم، لا سيما من فرنسا إلى بنين في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على الاستثمار في أماكن جديدة لعرض هذه الأشياء، وكذلك مشاريع لفنانين معاصرين ينظرون متفكرين في عودة المقتنيات المسلوبة.
في متحف داكار للحضارات السمراء الذي افتتح عام 2018، أدت الممثلة الفرنسية السمراء ناتالي فيراك، ووجهها مُغطى بطلاء كاولينيت الطيني، دور قناع «بونو» من الغابون، من النوع الذي جلب ما يصل إلى 400 ألف دولار في مزاد علني، في «الأطلال العليا»، وهي مسرحية للكاتبة والمخرجة الرواندية دورسي روغامبا. تتبع القصة رحلة القناع عبر البيوت والمجموعات الاستعمارية، مؤكدة على التنافر المتراكم من جذوره وضرره الثقافي.
وفي غوري، الحي التاريخي لجزيرة داكار، وموقع إحياء ذكرى «الممر الأوسط»، قدم مصمم الرقصات الكونغولي فوستين لينيكولا، بصحبة عازف البوق، عرضاً رائعاً ومؤثراً سبر غور المخاطر الثقافية وحتى الروحانية، عندما يعود التمثال إلى مجتمع أجداده، عائداً إلى عالم متغير في الكلية.
يقدم الفنان الكاميروني هيرفيه يومبي حَلّه الخاص. في متحف تيودور مونو للفن الأفريقي، يضع قناعاً تقليدياً من شعب ديولا السنغالي مع قناع من صنعه، يمزج أشكالاً من مناطق مختلفة ومواد غير تقليدية مثل الدنيم (نسيج الجينز). ويعرض في شريط فيديو الأقنعة الهجينة الجديدة في الاستخدام الطقسي بالكاميرون والسنغال. صندوق شحن ونصان جداريان، أحدهما مكتوب على طريقة المتحف الإثنوغرافي، والآخر معاصر، يكملان الهيكل.
يقول الفنان يومبي: «كل شيء في أيدي الذين يصنعون الأشياء. لماذا يجب أن نكون أسرى لقطع خارج أفريقيا؟ يمكننا إنتاج الجديد والمضي قدماً».
تظل السوق عبارة عن عدسة مشوهة. إن هواة جمع الأعمال الفنية الأفريقية المعاصرة الأجانب، مهووسون حالياً بالاتجاه الحالي المتمثل في الرسم المجازي والتصوير الأسود، لا سيما من غانا؛ لكن الكثيرين هنا لا تبهرهم هذه الأعمال. ولا تزال متاحف الفن الأفريقية المعاصرة التي قد ترسل مقتنياتها إشارات قيمية مختلفة، نادرة إلى حد كبير.
وإذا ما نظرنا إلى الولايات المتحدة وأوروبا من داخل القارة، فلسوف نجد أن كلاً منهما تبدو هذه الأيام وكأنها بلا أفكار، عالقة في أزمات اجتماعية وانحدار ديمقراطي. كما خسرت المحاضرات في «الحكم الرشيد» زخمها. ومن أجل تجديد الرؤى الفنية الأفريقية للمجتمع العام، والمجتمعات المحلية، والبيئة، نادراً ما كان هذا المجال مفتوحاً. وتقول المخرجة أوبولو: «علينا كتابة تاريخنا الخاص بالفن المعاصر. لا يمكننا تفويت القارب هذه المرة».
وقال ندياي، المدير الفني في قاعة المحكمة القديمة، ذات الأعمدة الرقيقة حول الحديقة، إنه بنى قائمة العروض الرئيسية المكونة من 59 فناناً مع التحيز صوب الدعوة المفتوحة. وأضاف: «نمنح الفرصة للذين هم في بداية حياتهم المهنية. والمقصود من هذا البينالي أن يكون ديمقراطياً».
- خدمة «نيويورك تايمز»
في «بينالي داكار»... الفن الأفريقي يتحدث بكل أصواته
أكبر تجمع للفنون في القارة السمراء مليء بالطاقات والإمكانيات
في «بينالي داكار»... الفن الأفريقي يتحدث بكل أصواته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة