رحلة طويلة وثرية من الفن التلقائي تمتد منذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي حتى الآن يوثقها معرض جديد بغاليري «أوبونتو» بالقاهرة، والذي يسلط الضوء على تجربة مصرية فريدة هي تجربة مركز «رمسيس ويصا واصف» القائمة على إبداعات من نسيج الفنانين الفطريين من دون الاعتماد على رسومات أو تصاميم مسبقة، ويضم المعرض المستمر حتى يوم 21 يونيو (حزيران) الجاري مجموعة متميزة ونادرة ما بين المنسوجات الصوفية والقطنية.
تبدأ حكاية إنشاء المركز بعد عودة المهندس المعماري رمسيس ويصا واصف الذي درس العمارة بكلية الفنون الجميلة بباريس إلى مصر، فقد كان عاشقاً للفنون اليدوية فقرر الاهتمام بتلك الفنون انطلاقاً من إنها تمثل الهوية الثقافية لمصر وتعكس ما تتميز به من تراث أصيل وزخم إبداعي جميل من جهة.
ومن جهة أخرى أراد أن يطلق العنان لخيال الحرفيين لكي يبدعوا من دون قيود إيماناً منه أن الحرفي فنان؛ وإنه لا ينبغي تقييده بالدراسة أو بقوالب بصرية محددة. يقول أحمد الضبع مؤسس ومدير قاعة «أوبونتو» لـ«الشرق الأوسط»: «يبرز المعرض الشخصية الإبداعية لمدرسة ويصا واصف بهدف التأكيد على تميز الحرف المصرية وأنها فنون قائمة بذاتها، إلى جانب تعريف الأجيال الجديدة بالمدرسة التي وصلت شهرتها آفاق العالم منذ إقامة أول معرض لها بـ«بال» في سويسرا عام 1958، ومنه نجح المركز في الحصول على شهرة في كثير من دول العالم منها إنجلترا وأميركا وألمانيا وكندا والسويد، وأصبح له زوار يترددون عليه كلما جاءوا إلى مصر».
يضم المعرض نحو 90 عملاً فنياً مختلفة المقاسات والألوان والأشكال، وتعد نقلاً لصوراً في أذهان النساجين إلى النول اليدوي البسيط، إذ إنها تمثل حاسة الإبداع الفطري ومهارة صباغة الصوف بالعديد من ألوان الخيوط المغزولة، إلى جانب خامة القطن، التي تستخدم في نسج السجاد والمعلقات، ويستمتع المتلقي بمشاهدة تفاصيل مجموعة كبيرة من الرسوم النابضة بالحياة والمستلهمة من قلب الريف المصري والبيئة المحلية الزاخرة بالمفردات المتنوعة والتي اشتهر بها نساجو المركز.
وحول ذلك يضيف الضبع: «يروي المعرض قصة المركز فمن خلال القطع النسيجية التي يضمها يتعرف الزائر على المنهجية الفنية التجريبية التي تم اتباعها فيه، فلا توجد منهجيات منظمة أو مخططات مسبقة لأشكال الأعمال، إنما هي نتاج إبداع فطري خالص».
ويتابع: «كان واصف يؤمن أن الله غرس داخل كل إنسان موهبة ما، وأنه لا يوجد من لا يملك طاقة كبيرة داخله إلا أن البعض قد لا يجيد اكتشافها أو توظيفها، وانطلاقاً من هذه الرؤية قرر تدريب الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 سنة في منطقة الحرانية البعيدة عن قلب العاصمة بنحو 30 كم حيث البيئة الريفية الهادئة وجمال الطبيعة وغنى البيئة المحيطة بالصغار».
وأضاف «رأى واصف في الأطفال أرضاً بكراً وخيالا خصبا، فترك لهم الخيوط والألوان ليبدعوا بها على أنوال صغيرة، وبمرور الوقت والتدريب أصبحوا قادرين على تقديم أعمال على درجة متفردة من الجمال والإبداع، إذ تحولوا إلى حرفيين مخضرمين يدركون جيداً مسار تصاميمهم، ويقدمون قطعاً مبتكرة لا يمكن تكرارها بسبب أن كل فنان ينفذ لوحته النسيجية من دون وجود أي رسومات على الورق كما أشرت».
حين يتجول الزائر للمعرض بين جنباته متأملاً ما يضمه، يشعر أنه أمام سرد بصري لرحلة طويلة خاضها فنانون مبدعون ينتمون لجيلين مختلفين قدمهما المركز على مدى تاريخه، فبعد رحيل الفنان رمسيس واصف عام 1974 استكملت الطريق عائلته متمثلة في زوجته صوفي وابنتيه سوزان ويواندا، فيظهر جيل ثانٍ من النساجين وينضم المهندس إكرام نصحى زوج سوزان مديراً وراعياً للمؤسسة، تقول سوزان واصف لـ«الشرق الأوسط»: «تحقق هدف والدي في تعزيز الإبداع الفطري في مصر عبر جيلين الأول كان في حياته، والآخر قمت بتدريبه بعد إنهاء دراستي، وبداية عملي فقد كانت مهمتي هي تدريب الجيل الثاني في المركز، وهو ما بدأ في سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال هذا الجيل هو المستمر في الإبداع حتى اليوم في العمل». وتضيف: «اتبعت نفس نهجه في العمل، وهو عدم فرض أي فكر أو رسومات عليهم ليقدموا أعمالا هي نتاج خيالهم، ومن هنا فإنه لا يمكن لمن يتابع أي نساج بالمركز أثناء العمل أن يعرف الشكل النهائي للعمل بسبب طريقة العمل على النول التي لا تسمح برؤية التصميم بالشكل الكامل للسجادة إلا بعد الانتهاء من تنفيذه».
اللافت تمتع اللوحات بألوان ودرجات لونية مميزة وثيقة التواصل مع البيئة الريفية المصرية، وهو ما تعلق عليه سوزان قائلة: «لا يقتصر الأمر على مجرد التمتع بألوان جميلة معبرة عن المشاهد والمفردات التي تتضمنها الأعمال، لكنها أيضاً تتمتع بألوان ثابتة لا تتغير بمرور الزمن وذلك نتيجة زراعة النباتات الطبيعية التي تستخدم في الصبغات في المكان ذاته الذي يعملون فيه».
ويشهد المعرض تنظيم فعاليتين لإلقاء المزيد من الضوء على الفن الفطري إذ سيقام لقاء يوم الأربعاء 8 يونيو بعنوان «رحلة مع الإبداع» مع سوزان ويصا واصف وإكرام منير نصحي في نقاش مفتوح عن مدرسة رمسيس ويصا واصف ورحلته. بينما يشهد يوم السبت الموافق 11 يونيو تنظيم زيارة للمركز الثقافي بقرية الحرانية.