«بياف» تطلق دورتها السادسة لعام 2015 مهدية إياها للراحلة صباح

تكرم فيها 24 شخصية من لبنان والعالم منهم نانسي عجرم وتوم فليتشر وراوول دي بلازيو

ملصق المهرجان
ملصق المهرجان
TT

«بياف» تطلق دورتها السادسة لعام 2015 مهدية إياها للراحلة صباح

ملصق المهرجان
ملصق المهرجان

أطلقت مهرجانات بيروت الدولية للتكريم «بياف» دورتها السادسة مهدية إياها للراحلة صباح. وزير السياحة ميشال فرعون أعلن يوم 12 يونيو (حزيران) موعد تقديم الجوائز وانطلاقة افتتاح الموسم السياحي لصيف 2015 في لبنان. وسيتم تكريم 24 شخصية وذلك في نادي اليخوت في منطقة الزيتونة باي.
وأشار ميشال ضاهر رئيس لجنة «بياف» إلى أنه تم اختيار اسم الدورة السادسة للمهرجان بصورة عفوية، نظرا للتعاطف الشعبي الكبير الذي شهده رحيل الفنانة صباح التي تركت بصمتها وتأثيرها في لبنان والعالم العربي. وأضاف: «هي شخصية زرعت الفرح وأحبت الحياة وكانت رمزا للتفاؤل وتصدّرت ألقابها المشرق العربي حتى باتت أسطورة حقيقية ما زلنا نتحدث عنها حتى بعد رحيلها».
والمعروف أن مهرجانات بيروت الدولية أطلقت على كل دورة من دوراتها الخمس الماضية، أسماء شخصيات لبنانية مبدعة كجبران خليل جبران والبروفسور مايكل دبغي والأخوين عاصي ومنصور الرحباني ووليام وحنا برباري (مطلقي شخصيتي توم وجيري الكرتونيتين) وغيرهم.
وفي المناسبة تحدّث كل من كلودا عقل، ابنة شقيقة صباح، وجوزف غريب مصفف شعرها، فشكرا لجنة مهرجانات «بياف» للفتتهما الكريمة لصباح بعد أن عددا مزاياها. وكان قد سبق ذلك عرض مقتطفات مصوّرة من أغانيها كـ«آلو بيروت» و«ساعات» و«اخدوا الريح» و«عالبساطة» و«عالندّى» وغيرها وقد اختتمت بأغنيتها الوطنية «تسلم يا عسكر لبنان» التي باتت بمثابة نشيد وطني يتلى في المناسبات الرسمية والوطنية معا.
وتم الإعلان عن عدد من الشخصيات المشاركة في «بياف» هذه السنة (26 شخصية)، على أن يتم تكريم 24 منها، وهي تنتمي إلى مجالات مختلفة سياسية واجتماعية وإعلامية وفنية وأكاديمية وغيرها. وعلمت «الشرق الأوسط» أن من بين هؤلاء المكرمين الفنانة اللبنانية نانسي عجرم وعازف البيانو العالمي راوول دي بلازيو وسفير بريطانيا لدى لبنان توم فليتشر وكاتب المسلسلات التلفزيونية شكري أنيس فاخوري.
وأشار ميشال ضاهر إلى أن الشخصيات المكرّمة تنتمي إلى 12 بلدا أجنبيا وعربيا وبينها إيطاليا وإنجلترا وفرنسا وأرمينيا وسوريا والعراق ولبنان وغيرها.
أما وزير السياحة ميشال فرعون فقد تمنى في الكلمة التي ألقاها في المناسبة، أن يكون موسم الصيف المقبل على قدر آمال اللبنانيين في ظلّ الاستقرار الأمني الذي يشهده لبنان والمحصّن بخطة أمنية مشددة.
والمعروف أن جائزة مهرجان «بياف» تعطى كل سنة لمجموعة من الوجوه الشهيرة في عالم الثقافة والفن والإعلام. فمن بين 200 اسم تقدم للجنة المسؤولة عن اختيار المكرمين سنويا، يصار إلى غربلتها واختيار الأسماء المميزة فيها والتي كانت لديها نسبة عطاءات وإنجازات أكثر من غيرها. أما أعضاء اللجنة التي يرأسها ميشال ضاهر فتتألف من سياسيين ومثقفين وفنانين يقومون بخياراتهم ارتكازا على خبراتهم الغنية في هذا المجال. وكان المجلس البلدي لمدينة بيروت قد قرر وبالتعاون مع اللجنة المنظمة برئاسة ورعاية ودعم مهرجان التكريم، تخصيص حائط للمشاهير ينوى إقامته في حديقة الرئيس رينيه معوض (الصنائع) سيتضمن منحوتات للعمالقة الراحلين والمكرمين سنويا في مهرجان «بياف».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)