{فاس للموسيقى الروحية}... تجدد وإبداع

إحدى اللوحات الفنية في المهرجان (الشرق الأوسط)
إحدى اللوحات الفنية في المهرجان (الشرق الأوسط)
TT

{فاس للموسيقى الروحية}... تجدد وإبداع

إحدى اللوحات الفنية في المهرجان (الشرق الأوسط)
إحدى اللوحات الفنية في المهرجان (الشرق الأوسط)

بما لا يدع مجالاً للشك، فرضت مدينة فاس التاريخية المغربية نفسها عاصمة للموسيقى الروحية عبر العالم، وعاصمة للتلاقي بين الديانات والحضارات والشعوب؛ حيث تحول مفهوم التسامح إلى ممارسة وواقع. وإذا كانت هناك حاجة للتثبت من هذه القيمة العالية، فإن مهرجان الموسيقى الروحية العالمية، في نسخته السادسة والعشرين الذي اقيم في الفترة ما بين 9 و12 من يونيو (حزيران) الجاري، يأتي بالدليل القاطع على ذلك. مدينة فاس أثبتت، عاماً بعد عام، أنها مدينة الانفتاح والتلاقي.
لأربع ليالٍ، كانت فاس على موعد مع 120 فناناً، جاؤوها من 15 بلداً، ليحيوا سهرات رائعة لم تكن حكراً على أهل المدنية أو على أهل البلاد؛ بل إن العرب والأجانب توافدوا عليها؛ لأن المهرجان فرض نفسه بقوة على خريطة المهرجانات الرئيسية الناجحة والفريدة من نوعها عبر العالم.
لم يعد الموقع المعروف بـ«باب ماكينة» موقعاً جغرافياً عادياً، بل أصبح عنواناً لحدث عالمي منذ انطلاقة المهرجان الأول في عام 1998، بيد أن جائحة «كوفيد- 19» فرضت توقفه لعامين. ولكن انطلاقته الجديدة هذا العام عوضته الكثير عما افتقده في العامين المنصرمين بفضل الرعاية الخاصة التي يحظى بها من الملك محمد السادس، الذي مثلته في ليلة الافتتاح شقيقته للا حسناء. كذلك، فإن الجهود التي بذلتها اللجنة المنظمة تحت إشراف عبد الرفيع زويتن، رئيس «مؤسسة روح فاس» التي تدير المهرجان آتت أكلها؛ حيث كانت مع النجاح على موعد. ثم إن أنشطة المهرجان لم تقتصر على لياليه؛ بل واكبها نشاط فكري في إطار الشعار العام للمهرجان، المندرج تحت باب «البنى المعمارية والموسيقى الروحية» التي فتحت الباب لمداخلات قيمة ولمناقشات مثرية.

«باب ماكينة» مقر المهرجان (الشرق الأوسط)

ولا بد من الإشارة إلى أن اللجنة عملت في ظروف استثنائية بسبب انعدام اليقين المتأتي عن تبعات جائحة «كوفيد- 19»، والإجراءات الصحية التي فرضتها، في السفر الجوي والتجمعات وخلافها.
وقد لعب المدير الفني للمهرجان، برونو مسينا، إلى جانب عبد الرفيع زويتن، دوراً مهماً في إنجاح المهرجان. فقد تمكن مسينا في فترة زمنية قصيرة من دعوة 120 موسيقياً موزعين على 15 بلداً، من عمان وكازخستان والهند والسنغال وفرنسا وإيطاليا وجزيرة سردينيا، إلى جانب الفرق المغربية من فاس، وخصوصاً من مكناس المعروفة.

عبد الرفيع زويتن رئيس «مؤسسة روح فاس» (الشرق الأوسط)

وفي لقاء خاص مع «الشرق الأوسط»، عرض المدير الفني رؤيته للمهرجان والآفاق الواسعة التي يفتحها عبر العالم، وقدرة المهرجان على أن يجعل من المغرب وجهة رئيسية لمحبي الموسيقى الروحية، وللراغبين في شيء آخر غير المنوعات الخفيفة أو المهرجانات الغنائية التي تتواتر في عديد من مدن العالم. وما يميز المدير الفني أنه لا يعد نفسه بعيداً عن المغرب؛ إذ إن والدته الأندلسية ولدت في الدار البيضاء، بينما والده من جزيرة صقلية ولكنه عاش في تونس.
ليس من السهل أن تلخص في سطور أنشطة أربعة أيام وليالٍ حافلة بالفكر والموسيقى والأغنية والأنشودة. فهي متنوعة المشارب والمصادر والثقافات. ثم إن ليلة الافتتاح كانت ناجحة بكل المعايير. فالتزاوج كان واضحاً بين الصورة والنغم. فالصورة اتضحت من خلال استخدام حائط «باب ماكينة» ببرجيها المرتفعين كشاشة ضخمة لصور متلاحقة، دعت المشاهد إلى الترحال في الزمان والمكان للتعرف على مرابع الأديان الخمسة: الإسلام، والمسيحية، واليهودية، والبوذية، والهندوسية.

فنانون في صورة جماعية (الشرق الأوسط)

انطلقت الرحلة من المغرب وعادت إليه، بعد أن جالت في القدس والتيبت وتاج محل في الهند، وصولاً إلى باريس وكاتدرائية نوتردام، لتكون محطتها الأخيرة في مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، وذلك أظهر العلاقة بين الفن المعماري والموسيقى الروحية.
وإذا كانت الصورة أبهجت العين، فإن الموسيقى المرافقة التي قدمتها الفرق الفنية بوصلاتها المتلاحقة والسريعة كانت كافية لاستكمال بهجة العين والأذن معا. أربع من هذه الفرق كانت مغربية، واثنتان من الهند، وواحدة من إسبانيا، وواحدة من التيبت، وواحدة من إيران، الأمر الذي يبين التنوع في الإبداع ومصادره.
استضاف «باب ماكينة» في لياليه الأربع فرقاً عالمية، منها الفرقة الهندية الصوفية المسماة «روحاني سيسترز» التي تحييها الأختان جاغريتي لوترا ونيتا بادي، اللتان تتمتعان بطاقات صوتية لا تقارن. وفي الليلة التالية استقبل فرقة «حيدوتي أوركسترا» التي يديرها الفنان اللبناني- الفرنسي، ساحر موسيقى الجاز، إبراهيم معلوف، والمتشكلة من موسيقيين متنوعي المشارب: «البلقان، وشرق أوروبا، والأندلس، والشرق الأوسط...»، والتي ألهبت المشاهدين طيلة ساعة ونصف؛ لكنها لم تكن كافية لإشباع نهم الحاضرين الذين تجاوبوا مع إبراهيم معلوف المعروف عالمياً كأحد أفضل مبدعي الجاز في الوقت الحاضر.
وكانت ليلة الختام، في المكان عينه، مخصصة في جزئها الأول للفرقة العمانية «الزاوية»، وفي قسمها الثاني لفرقة متشكلة من فناني فاس ومكناس. وهذه الأخيرة التي أعادت إحياء التراث الموسيقي الأندلسي- المغربي، امتد السهر معها لمنتصف الليل، لتكون خاتمة للمهرجان ووعداً للمهرجان القادم.
بيد أن «باب ماكينة» لم يكن المكان الوحيد للأنشطة؛ حيث تنقلت بينه وبين حديقة «جنان السبيل» و«دار أديال» إضافة إلى الكنيس اليهودي التاريخي «ابن دنان»؛ حيث غنت السوبرانو ماريون غرانج، ورافقها عزفاً على البيانو ميكاييل ليفيناس. وشهدت «جنان السبيل» أداء فرقة من كورسيكا تسمى «لإيليتا» وفرقة الموسيقى الصوفية العمانية «الزاوية»، إضافة إلى أغانٍ تقليدية وروحية لفرقة «لا تومبيت» (العاصفة). أما «دار أديال» فقد استضافت تباعاً الفرقة الموسيقية المغربية التي يديرها أمين هادف، المغنية السنغالية سيني كامارا ومجموعة «سانيه إسماعيل» من آسيا الوسطى.


مقالات ذات صلة

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

يوميات الشرق رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً. فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه.

يوميات الشرق ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

يعتمد الموسيقار المصري هشام خرما طريقة موحّدة لتأليف موسيقاه، تقتضي البحث في تفاصيل الموضوعات للخروج بـ«ثيمات» موسيقية مميزة. وهو يعتزّ بكونه أول موسيقار عربي يضع موسيقى خاصة لبطولة العالم للجمباز، حيث عُزفت مقطوعاته في حفل الافتتاح في القاهرة أخيراً.

محمود الرفاعي (القاهرة)
يوميات الشرق معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

زائرون يشاهدون عرضاً في معرض «أحلام الطبيعة - المناظر الطبيعية التوليدية»، بمتحف «كونستبلاست للفنون»، في دوسلدورف، بألمانيا. وكان الفنان التركي رفيق أنادول قد استخدم إطار التعلم الآلي للسماح للذكاء الصناعي باستخدام 1.3 مليون صورة للحدائق والعجائب الطبيعية لإنشاء مناظر طبيعية جديدة. (أ ب)

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

«نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

ستُطرح رواية غير منشورة للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز في الأسواق عام 2024 لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الروائي الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، على ما أعلنت دار النشر «راندوم هاوس» أمس (الجمعة). وأشارت الدار في بيان، إلى أنّ الكتاب الجديد لمؤلف «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» سيكون مُتاحاً «عام 2024 في أسواق مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية باستثناء المكسيك» و«سيشكل نشره بالتأكيد الحدث الأدبي الأهم لسنة 2024».

«الشرق الأوسط» (بوغوتا)

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.