ثنائية الحضور والغياب

« دفوف رابعة العدوية} لعبد الستار البيضاني

ثنائية الحضور والغياب
TT

ثنائية الحضور والغياب

ثنائية الحضور والغياب

في رواية «دفوف رابعة العدوية» للروائي عبد الستار البيضاني والصادرة عام 2022، ثمة همّ مركزي يهيمن على الرواية هو البحث عن الحقيقة الغائبة، أو بالأحرى عن جملة من الحقائق والوقائع الخلافية الملتبسة التي خلقها التاريخ الرسمي والمدون. فالرواية، احتكاماً إلى عنوانها «دفوف رابعة العدوية» هي عملية بحث واستقصاء، ربما على طريقة الصحافة الاستقصائية عن المتصوفة الإسلامية رابعة العدوية البصرية المولودة في البصرة نحو سنة 100 للهجرة والمتوفاة سنة 185 للهجرة، كما يذهب إلى ذلك أغلب المؤرخين. وحياة رابعة العدوية مليئة بالتناقضات والأضداد؛ مما جعلها تقع فريسة سوء تأويل وقراءة من قِبل المؤرخين والفقهاء. فهي تجمع في آن واحد بين الغناء، وهو في الغالب غناء صوفي، لكنه لا يخلو من بعد حسي، وبين الانصراف كلياً إلى عبادة الله. لذا؛ تجد من يرفعها إلى مرتبة القداسة بوصفها شهيدة العشق الإلهي، وهناك من يتهمها بالفسوق والتحلل والكفر.
ويمكن أن نعد رواية «دفوف رابعة العدوية» هذه محاولة جديدة، على مستوى السرد الافتراضي، لإعادة الاعتبار للجوهر الإنساني والروحي معاً لشخصية رابعة العدوية. ويحق للناقد أن يشير إلى هيمنة ثنائية الغياب والحضور في الفعل الروائي. فثمة صراع جدلي محتدم بين ما هو غيابي، وما هو حضوري. ويمكن القول، إن نص حياة رابعة العدوية وسيرتها يمثلان النص الغائب والموازي معاً للنص الروائي المكتوب، وهما يتحكمان إلى حد كبير في مسار الحبكة الروائية وتعرجاتها. كما يمكن النظر إلى نص حياة بطلة الرواية «قبس» بوصفها تمثل العناصر الحضورية الحية والمباشرة التي يتلقاها القارئ. لكن هذا القارئ يشعر بوجود نص باطني أو بنية تحتية deep structure تختفي تحت البنية السطحية surface structure للنص الروائي.
وكان الروائي موفقاً إلى حد كبير في التقريب التدريجي بين هذين النصين، حيث يلتحم نص «قبس» الحضوري الحي المباشر، بنص «رابعة العدوية» الغيابي الروحي، والموازي، وربما المتحكم في حركة الأحداث الروائية. ويلتحم النصان في نهاية الرواية: نص رابعة العدوية بدفوفها الروحية والصوفية ونص «قبس» بسنطورها وجسدها وجمال عينيها، في ضربة ذكية من الروائي بالانحياز إلى الجانب الحسي والجسدي، على الجانب الروحي المحض الذي تختتم به الرواية.
كما تمثل الرواية عملية بحث عن السر الذي يربط رابعة العدوية ودفوفها وبين المرأة التي أحبها «قبس» وسنطورها. وتمثل الرواية، من جهة أخرى، عملية بحث عن الهوية من خلال رحلة البطل إلى البصرة بحثاً عن وثيقة للرعوية العراقية لأسرته تؤكد عراقيتها.
إذْ يخبرنا الراوي المركزي وبطلها، أنه «معتقل في رأس امرأة، وتحديداً في حجرة عينيها». (ص5) ويمكن القول، إن الرواية هي أيضاً نضال البطل للتحرر من هذا المعتقل ومواجهة حبيبته (قبس) وجهاً لوجه، وهو فعلاً ما تحقق في نهاية الرواية عندما انحلت الثنائية الضدية: الغياب والحضور بانتصار الجانب الحسي والدنيوي في الدمج بين دفوف (رابعة العدوية) وسنطور (قبس)، حيث اكتشف البطل وحدة الأضداد في شخصية حبيبته الواقعية التي غمرته بالحب والروحانية معاً. إذْ يشعر لأول مرة أنه قد تحرر من معتقل عينيها:
«سرت قشعريرة في جسدي وقواي». (ص 168)، وبأنه، «كما حدست (قبس) بأنه من خلال هذا اللقاء الحسي والجسدي بينهما قد وصل إلى رابعة العدوية، بلحمها، ودمها، ومعانيها». (ص 176).
ومن الجدير بالذكر، أن معظم الكتابات الصوفية تنطوي على عناصر حضورية تتمثل في اللغة والبناء والتشكيل وعناصر غيابية تتمثل في المعنى والترميز، وهو ما سبق وأن أكده تودوروف، وهو ليس بعيداً عما قاله فرديناند دوسوسور، بأن الدال يمثل العناصر الحضورية، بينما يحيلنا المدلول إلى العناصر الغيابية. وسبق للصوفي المعروف محيي الدين بن عربي أن قدم تحديداً لمفهومي الحضور والغياب في الخطاب الصوفي، قريباً من هذا التصور. وهذه الرواية، وأعني بها «دفوف رابعة العدوية»، تحفل بمظاهر هذه الثنائية بوجهيها الصوفي، العرفاني، والحسي الدنيوي معاً؛ وهو ما يشجع القارئ والناقد معاً على تفكيك شفرات هذا النص الروائي، والوصول إلى مكامن العناصر الغيابية في السرد الروائي ورموزه. ومن اللافت للنظر، أن الروائي قد حاول مراراً الاحتكام إلى القارئ، وربما إلى المروي له أيضاً، للمشاركة في حل بعض أسرار السرد. فمنذ الصفحة الأولى يشير إلى القارئ وإلى المروي narratee له معاً:
«لا أريد أن أشغل أحداً معي في البحث عن الإجابة، فلدي الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى أن أحسم إجاباتها بالمزيد من التأمل والتفسير». (ص 5)
ويبدو لي، وكأنه وهو يروي كيفية تعرفه على «هذه المرأة» وكأنه يخاطب هذا القارئ أو المروي له:
«منذ سنوات طويلة أعرف هذه المرأة، أستطيع القول أنّا من أصدقاء العمر،... ومعنى اسمها قبس». (ص 6)
ومن الناحية السردية، نلاحظ أن بطل الرواية هو الراوي المركزي والمهيمن على حبكتها وحركة أحداثها جغرافياً وتاريخياً، أفقياً وعمودياً. كما أن هذا الراوي المركزي يمنح بعض الشخصيات الفرصة لالتقاط خيط السرد، مثلما يفعل عادة مع حبيبته «قبس» التي يشجعها على الحكي ورواية جوانب من سيرتها وحياتها وسر تعلقها برابعة العدوية وبالسنطور معاً، للوصول إلى ذرى روحية من الحلول الصوفي بالذات الإلهية. ولذا؛ فقد جاء سرد «قبس» في الدرجة الثانية بعد سرد البطل، بوصفه الراوي المركزي الذي يوزع الأدوار على الرواة الأخرى، مثلما يفعل «المايسترو» مع الفرقة السمفونية، كما فعل عندما منح عدداً من الرواة الثانويين فرصاً للتعبير عن وجهات نظرهم منهم «عبيد الخربطلي» الذي ساعده عند الإدلاء بشهادة تؤكد عراقية «رعوية» أسرته ذات الأصول البصرية العريقة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الرواية فضلاً عن كونها رواية «بوليفونية»، تنطوي على تعدد صوتي، فإنها تكشف عن عناصر ميتا سردية من خلال الإشارة إلى احتمالية كتابة سيرة روائية عن تجربة البطل ورحلته البحثية إلى البصرة. ففي حوار بين البطل وصديقه علي حسين العلي، أشار صديقه إلى أنه لو كان مكانه لكتب رواية:
«لو كنت مكانك لكتبت رواية جديدة عنها». (ص 172) وعندما لم يجد صديقه استجابة جادة على مقترحه بادره بالقول:
«أنا إذن سأكتب الرواية، أو سأرويها لزملائي، أصحاب محال بيع الإطارات الذين يجمعهم الحديث عن رابعة العدوية كل يوم في محلي». (ص 172)
لقد حققت رواية «دفوف رابعة العدوية» مجموعة كبيرة من المعطيات والنتائج المباشرة وغير المباشرة، فضلاً عن تقديم الكثير من الرسائل والشفرات التي أطلقتها أمام القراء والنقاد والمؤرخين. إذ استطاعت الرواية أن تقدم تاريخاً افتراضياً جديداً لسيرة رابعة العدوية الروحية، وتربطها بجذر حسي ودنيوي يتعلق بتماهي شخصية «قبس» معها في الكثير من الجوانب الحياتية، فكلتاهما عصاميتان، واجهتا الحياة منذ الطفولة بشجاعة وثقة؛ فقد اضطلعت رابعة العدوية بنت الماضي بعد وفاة والدها، بقيادة الزورق الذي تركه لها أبوها والذي كان مصدر رزق العائلة، لكي تستكمل المشوار وتقوم بنقل الركاب بين ضفتي نهر البصرة آنذاك لتكون قادرة على إعالة شقيقاتها الثلاث. وفعلت «قبس» بنت الحاضر، فعلاً مماثلاً عندما تحملت، وهي صغيرة، مسؤولية إعالة شقيقاتها الصغيرات بعد وفاة أبويها. ولم تقتصر الرواية على تقديم تاريخ بديل، بل قدمت سلسلة من الطقوس والعادات الاجتماعية والأنثربولوجية التي كانت شائعة في المجتمع البصري آنذاك. ونزلت إلى القاع الاجتماعي للمدينة عند الاطلاع على أزقة البصرة وأسواقها ومحالها، وبشكل خاص زيارة منطقة «الحكاكة» المكتظة بصور الجمال الحسي والروحي معاً. فضلاً عن ذلك فقد أعادت الرواية رسم تضاريس خريطة مدينة البصرة القديمة وجغرافيتها وصولاً إلى منطقة الزبير ومقبرة الصوفي الحسن البصري، حيث التقت تخييلياً رابعة العدوية التي تخيلتها وهي بين اليقظة والمنام تجلس على حافة قبرها وهي تمد رجليها في الهواء. ليس هذا فحسب، بل إنها قدمت لها الدف الذي اشترته من أسواق البصرة هدية، ونجحت في النهاية في تثبيت ما أسماه بول ريكور بالهوية السردية narrative identity لمدينة البصرة؛ ولذا يمكن أن تنطبق مقولة السرد الثقافي cultural narrative والتي يترجمها معجم مصطلحات النقد الثقافي الذي أعده الدكتور سمير الخليل بالرواية الثقافية أيضاً على رواية «دفوف رابعة العدوية». فالرواية هي متحف كامل للعادات والطقوس الاجتماعية وللمأثورات والمعالم الأنثربولوجية التي كانت تشيع في مدينة البصرة في تلك الفترة التاريخية الدقيقة من تأريخ تأسيسها وصيرورتها المدنية. وكما أشرنا في مناسبة سابقة؛ فالفضل يعود إلى الدكتور سمير الخليل الذي انتزع هذا المصطلح من ذخيرة النقد الثقافي وطبّقه بشكل ذكي في كتابه النقدي الموسوم «الرواية سرداً ثقافياً: سيسيولوجيا الثقافة وأرخنتها وتسييسها»، كما قدم الدكتور سمير الخليل في معجمه «دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي» تحديداً واضحاً لمفهوم السرد الثقافي جاء فيه، أن «الرواية الثقافية هي قصة ترتبط بالعادات والسلوكيات لمجتمع ما، وقد تكون القصة محكية أو مقروءة أو متخيلة، وقد يكون للقصة الواحدة أكثر من زاوية نظر تمثل كل أو بعض منظورات شخوص القصة. كما أن السرد الثقافي يقترن إلى حد كبير بالمكان، حيث إن ثقافة المكان هي التي تتشكل بفعل ماهية السرد».
وبذا؛ يمكن القول، إن رواية «دفوف رابعة العدوية» ثرية بمعطياتها ومعالجاتها السردية ومزاوجتها بين التاريخي واليومي وبين الواقعي والفنتازي؛ مما يجعلها واحدة من الروايات المميزة التي صدرت حديثاً.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.