في عصر ما بعد الآيديولوجيا... ما الآيديولوجيا؟

كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
TT

في عصر ما بعد الآيديولوجيا... ما الآيديولوجيا؟

كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)

كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت الآيديولوجيا بتعريفاتها وأنواعها المختلفة، والتحليلات التي حللت طبيعتها المرجعية والسلطوية والغائية؛ خصوصاً بعد سقوط عدد من الآيديولوجيات التي سادت القرن المنصرم مع انهيار السرديات الكبرى وسقوطها في مأزق الحداثة. وهذا جعل الآيديولوجيا مفهوماً مستهلكاً وقديماً، وساهم في ظهور ما يُسمى بالسرديات الصغرى، التي يُزعَم أنها تتمحور حول الفرد ولا تحمل طابعاً شمولياً، وفي التحوّل نحو مفهوم الهوية والخصوصية الثقافية.
غير أنه عبر النظر في صراعات القرن العشرين الآيديولوجية يجد المرء أنها لم تخلُ من سرديات صغرى وصراعات حول الهوية، وعبر النظر في صراعات الهوية بمكوناتها الثقافية المختلفة اليوم يجد المرء أنها لا تخلو من آيديولوجيات «فاقعة» وسرديات كبرى أيضاً، بل إنها تستند أيضاً إليها. وعليه، يكون الفصل الحاد بين مفهومي الآيديولوجيا والهوية مضلّلاً، ويكون الحسم في انهيار السرديات الكبرى عارياً تماماً من الصحة.
لقد غلب الطابع التحليلي على معظم الدراسات والنظريات التي تناولت مفهوم الآيديولوجيا في محاولة لتفكيكها والكشف عن زيفها، فراحت الدراسات تصنّف الآيديولوجيا إلى أنواع، وتحلّل كل نوع على حِدة، بين آيديولوجيات احتوائية وأخرى إقصائية، ووجودية وأخرى سياسية ثقافية، ومركزية وأخرى هامشية، وركّزت عموماً على سلطة المعاني التي يتضمنها الخطاب وعلاقة اللغة بالواقع، وكذلك على سلطة نظام المعنى الذي ترتكز إليه الآيديولوجيا، أي المعايير الضمنية السائدة التي تُحدّد ما هو خيّر وصحيح وما هو غير ذلك. غير أن هذه النظريات والدراسات، على أهميتها البالِغة، لم تُحقّق الغاية المرجوة منها والمتمثّلة في محاولة إيقاف الآلة الآيديولوجية أو إحباطها، وإن كان ذلك على مستوى الوعي فحسب. والسبب غياب السؤال الأهم عن هذه النظريات المعنية بفهم الآيديولوجيا؛ كيف تفعل الآيديولوجيا فَعلتها؟ كيف تسيطر على الذات فتقع الذات في قبضتها؟ كيف تعتمل في النفس بعد استبطانها من الخارج؟ وفي محاولة للإجابة عن أسئلة كهذه، لا يُكتفى بالتحليل الثقافي السياسي للآيديولوجيا، بل ينبغي دراستها كظاهرة والتطرق إلى التحليل النفسي السياسي، وهو الذي يتناول البُعد السياسي الأصيل من النفس، قبل تَجَسُّد هذا البُعد في الواقع في شكل سياسة وعلوم وتحليلات وصراعات سياسية. وعليه، سنقف سريعاً وباقتضاب على بعض المحدِّدات النفسية الأساسية للآيديولوجيا التي تشرح بدرجة معيّنة آلية عملها.
تسعى الذات عموماً، وخصوصاً في حالات الفوضى الشديدة، إلى شيء من القانون والتنظيم لتخفيف حدة الفوضى والتمزق اللذين قد يخترقان نسيجاً اجتماعياً معيناً، أو تسعى الذات، في مجتمعات يسودها القمع والتهديد والسيطرة، إلى الثورة والحرية والعدالة للخروج من حالة الخضوع والاستعباد. وما يدفع هذا السعي إلى الأمام في المستوى النفسي، بمعزل عن الحاجة الحقيقية والصادقة للخروج من الفوضى والقمع، هو خيال معين، هو صورة معينة عن الذات والمجتمع تطمح الذات إلى بلوغها، وتكون هذه الصورة كاملة لا تشوبها شائبة.
ينبثق الخطاب السياسي الآيديولوجي مستخدماً هذه الكلمات التي تتوق إليها الذات، دون أن يعرّف هذه الكلمات، فهي في الأساس غير مؤطّرة المعنى، تماماً بسبب طبيعة اللغة نفسها، أي أنها «دوال بلا مدلولات»، فيراهن الخطاب على النفس وقدرتها على تعبئة الكلمات وإكمال النقص في الصورة المتخيّلة. هنا تماماً؛ حيث تُخفق الذات في إدراك الطبيعة الهشّة وغير الثابتة لهذه الصورة المتخيَّلة الوضعية، وفي إدراك أن الخطاب يَستخدم دوالاً بلا مدلولات، تكمنُ اللحظة الآيديولوجية النقية التي تُعرَّف بأنها تلك اللحظة التي تقع الذات فيها في شباك وهم «الإغلاق» الذي لا يكون إلا إيمان الذات بوجود حلّ مكتمل، مغلق من الجوانب كافة، فتنغلق الذات على هذا الحلّ مصدّقة به ومصادقة عليه.
غير أن الآيديولوجيا لم تعد تعمل في عصر ما بعد الآيديولوجيا كما كانت سابقاً. فالصورة التي ترسمها اليوم للعالم ليست مثالية أو وردية، بل إن المثالية هنا تكمن في تصوير العالم بوصفه غير مثالي، وبتقديم حلول تعيد إنتاجه بصورة جديدة، إلا أن هذه الصورة تكون غير مختلفة كثيراً عن الصورة الحالية. بكلمات أخرى، بينما كانت الآيديولوجيا تعمل كعملية إيجابية تبعث الأمل في النفس، أصبحت تعمل اليوم كعملية سلبية تنتزع الأمل. يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو: «إن وظيفة الآيديولوجيا اليوم هي قتل الأمل وإقناعنا بأن العالم سيئ». فالفرد نفسه لم يعد يؤمن بوجود حقيقة واحدة موضوعية، وهنا تكمن المشكلة، فرفض وجود حقيقة موضوعية يُبقي العقل في حالة من التذبذب وينفي عنه قدرته على التفكير والحكم. ولعلّ أولى آيديولوجيات عصر ما بعد الآيديولوجيا التي تعمل بالسلب هي الزعم بأن العصر الذي نعيشه هو عصر بعد آيديولوجي. فعبر هذا الزعم، لا يُجرَّد المرء من الأمل النفسي فحسب، بل أيضاً من أدواته المعرفية التي تساعده على إدراك الآيديولوجيا، وبالتالي رفضها.
وعلى عكس ما يُعتقد حول تماهي المرء مع الآيديولوجيا، فما يتماهى المرء معه في الخطاب الآيديولوجي هو الضعف وليس القوة، النقص وليس المثال، ويعدّ هذا التماهي القانون الأول لعملية الأدلجة. ما تبحث عنه الذات في الآيديولوجيا، في البدء، ليس صورة بطل، وليس مثالاً تستمد منه قوة أو قدرة، بل تبحث عن ضعفها الذي تشرّع من خلاله وجودها وتكتسب قواماً وكثافة. ولعلّ المثال الأفصح هو الخطاب الشعبوي الذي لا يني يهزأ بالقوة والعقل والمنطق والتحليل، حتى بالتعلّم والتعليم، ويستخدم المقاربات التبسيطية لإخماد العقل وتنشيط «حسّ سليم» غير سليم، لدى العامة، وتفعيل التماهي مع الخطاب الآيديولوجي، والحصول على الموافقة والقبول.
وفي محاولة للتفريق بين الآيديولوجيا الكلاسيكية والآيديولوجيا في عصر ما بعد الآيديولوجيا، تجدر الإشارة إلى أن الآيديولوجيا لم تعد تدلّ على غياب الوعي أو زيفه كما كان يُعتقد سابقاً حين سُمّيت بـ«الوعي الزائف». ليست مشكلة الآيديولوجيا الحديثة في الوعي، فغالباً ما يكون الوعي والمنطق حاضرَين بقوة وقادرَين على تمييز الصواب من الخطأ، بل تكمن في فجوة معينة تفصل بين الوعي والفعل، ما يجعلنا نتساءل؛ ما الذي يجعل شخصاً أخلاقياً واعياً (أي مثلاً غير عنصري أو غير طائفي في وعيه) يتصرّف بطريقة مؤدلجة عنصرية أو طائفية؟ تأخذنا محاولة الإجابة إلى فجوة أعمق بين الفكرة الواعية التي يقتنع بها المرء ويتبناها والرغبات الداخلية اللاواعية ذات المنشأ الثقافي - اللغوي، بحيث يصبح لدينا، كما يرى الفيلسوف النمساوي روبرت بفالر «رغبات لاواعية (فجوة) فكرة واعية (فجوة) فعل»، وتصبح الفكرة الواعية مجرد عائق يحول دون تأثير الرغبات اللاواعية على الأفعال بشكل مباشر، فيحلّ الفعل محلّ الدافع اللاواعي المكبوت تالياً ويصبح قهرياً مفعِّلاً للآيديولوجيا. ما يحاول بفالر قوله أن الأدلجة لا تنشأ عن الأفكار الواعية التي يحملها المرء، بل قد لا تتدخل الأفكار الواعية إطلاقاً في عملية تنشيط الآيديولوجيا حتى إحباطها، وما يستحق الانتباه له والتنقيب فيه هو الرغبات غير الواعية التي ترسَّخت بفعل ما يُسمى في التحليل النفسي بالنظام الرمزي، أي الخطابات الأخرى السابقة على الخطاب الآيديولوجي.
إن الدراسات السياسية أو دراسات الخطاب لم تعد كافية لدراسة خطاب آيديولوجي معين أو الكشف عن تأثيره. فالمشكلة لا تكمن في نظام المعاني الذي ينطوي عليه الخطاب فحسب، بل في الذات السياسية بقدر ما هي في الخطاب نفسه. والمنطق الذي تبنّته هذه الدراسات إنما عمل في مستوى الوعي، فلم يتمكن إلا من تخفيف شدة قبضة الآيديولوجيا. غير أن التصدي الفعلي لهذه القبضة يتطلب النظر في الثقافة التي قد تكون شخصية فردية أو جماعية مشتركة، والتي تشكّل التهويمات Fanatsies الضمنية للمرء في مستوى اللاوعي. ويتطلب أيضاً محاولة تحديد ما يسمّيه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، الموضوعات السامية Sublime Objects غير السياسية المقبولة والموجودة في ثقافة المرء. هذه الموضوعات تشبه الأفكار العليا أو القيم (هوية، أمة، حرية، فردية، أسلوب حياة، حب، إيمان، إلخ)، لكنها ليست هي تماماً، وهي تجعل المرء يقع في شراك التهويمات، فيُسقط المرء على العالم خصائص هذه الموضوعات، ويتماهى مع هذه الإسقاطات التي تحقق له المتعة، فتتحقق الأدلجة. بكلمات أخرى، للتصدي لقبضة الآيديولوجيا، لا يكفي النظر في العلاقات الاجتماعية أو الخطابات السياسية فحسب، بل ينبغي النظر في العلاقات اللاواعية بين الذات وهذه الموضوعات السامية، فهذه العلاقات هي الأعمق وهي المسؤولة عن تشكيل علاقاتنا الاجتماعية السياسية، السليمة منها وغير السليمة، كما في العنصرية والذكورية والطائفية وغيرها.
* كاتبة ومترجمة سورية



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.