لم يسلك الملفّ المالي لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة طريقه نحو الادعاء، بل خلق حالة إرباك غير مسبوقة في الأوساط القضائية، بسبب تقاذف الملفّ بين النيابة العامة التمييزية والنيابة العامة الاستئنافية والنيابة العامة المالية، وتنصّل كلّ واحدة من تبعات المسؤولية عن ملاحقته وإلقائها على الأخرى، بفعل الارتدادات السياسية والقانونية والتداعيات المالية التي قد تنجم عن هذه الملاحقة.
وتضاربت المعلومات حول الجهة التي تحتفظ بالملفّ، وما إذا كانت بصدد إعداد ورقة الادعاء أم لا، علماً بأن دائرة قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا تأهبت أمس لتسلّم هذا الملفّ مع ورقة الادعاء، لكن لم يَرد إليها شيء بهذا الخصوص، فيما غاب النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي زياد أبو حيدر عن السمع ولم يستقبل أي مراجعة بهذا الملفّ رغم أنه لازم مكتبه في قصر العدل طيلة الدوام الرسمي، وأوضح مصدر مطّلع على أجواء قصر العدل، أن أبو حيدر «ليس بوارد تسطير ادعاء ضدّ رياض سلامة لأن الأمر يتعارض مع صلاحياته، وكان يُفترض بالمعنيين (النائب العام التمييزي) إحالة الملف على المرجع المختصّ أي النيابة العامة المالية». وأكد المصدر لـ«الشرق الأوسط» أن قانون أصول المحاكمات الجزائية واضح، فالمادة 19 من هذا القانون تنصّ على ما حرفيته «يتولى النائب العام المالي مهام الملاحقة في الجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة لا سيما المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف، والجرائم التي تنال من مكانة الدولة المالي... وجرائم اختلاس الأموال العمومية وجرائم الإفلاس».
ورغم التركيز على دورها الأساس في هكذا ملفّ، نأت النيابة العامة المالية بنفسها عن هذا السجال، فالنائب العام المالي القاضي علي إبراهيم لم يحضر إلى مكتبه أمس على الإطلاق، وأكدت مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، أن «النيابة المالية لم تتسلّم ملفّ سلامة لا من النيابة العامة التمييزية ولا من النيابة الاستئنافية». وقالت: «عندما يصل الملفّ يُتخذ القرار المناسب بشأنه». ورأت أنه «من غير الممكن أن توكل إلى النائب العام المالي مهمّة الادعاء على رياض سلامة بسبب الإحراج»، مذكرةً بأن «النائب العام المالي هو عضو في هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان التي يرأسها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، وبالتالي لا يعقل أن يحرّك القاضي علي إبراهيم الدعوى العامة ضدّ رئيسه».
وبعكس الأعراف السائدة، التي تتسابق فيها النيابات العامة على تسلّم الملفات الكبرى والحساسة، فإن ما يبعث على القلق هو أن «مغامرة» الادعاء على سلامة سترتّب أثماناً سياسية وقانونية، ويرى خبراء في القانون أنه «إذا لم تثبت صحّة الاتهامات الموجّهة فإنها سترتّب تبعات في الداخل على المرجعية القضائية التي شرعت بملاحقته».
وفيما خرج الملفّ من عهدة النيابة العامة التمييزية بمجرّد ختم التحقيقات الأولية والطلب بالشروع بالادعاء والملاحقة، بقيت تتابع القضية على مسارين: الأول مراقبة خطوة الادعاء كون النيابة التمييزية ترأس كل النيابات العامة وتسهر على حسن سير عملها، والآخر متابعة دعاوى مخاصمة الدولة التي أقامها رياض سلامة، عن «أخطاء جسيمة» يُنسب إلى عويدات والمحامي العام التمييزي القاضي جان طنّوس ارتكابها بمعرض التحقيق الأولي، ومدى تأثير هذه الدعاوى على صحّة الإجراءات المتخَذة. وأوضح مصدر في النيابة العامة التمييزية لـ«الشرق الأوسط»، أن دعوى المخاصمة ضدّ طنّوس أخذت مسارها القانوني، وأن الأخير أوقف كلّ إجراء له بهذا الملفّ فور تبلغه الدعوى.
وشدد على أن عويدات «لم يتبلغ رسمياً حتى الآن إقامة دعوى مخاصمة بشأنه»، مشيراً إلى أن النائب العام التمييزي في حال صحّة تقديم دعوى مخاصمة، فإنه «لم يرتكب أي خطأ بقضية سلامة، فالقاضي عويدات لم يُجرِ التحقيقات الأولية بهذا الملفّ، وجلّ ما فعله هو إحالة التحقيقات التي أجراها القاضي طنوس على النيابة العامة للادعاء واتخاذ المقتضى القانوني، وهذا إجراء روتيني لا يرتّب أي مسؤولية». ودعا المصدر إلى «عدم الاستعجال في استنتاج ما ستؤول إليه القضية». وقال: «حتى لو جرى الادعاء على سلامة ووضع قاضي التحقيق يده على الملفّ، فإن الملاحقة ستدخل بمسار الدفوع الشكلية والطعن بالإجراءات أمام قاضي التحقيق وفي الهيئة الاتهامية ومن ثمّ محكمة التمييز، وهذا يحتاج إلى شهور طويلة».
ملف رياض سلامة يربك القضاء اللبناني ويفجّر حرب صلاحيات
ملف رياض سلامة يربك القضاء اللبناني ويفجّر حرب صلاحيات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة