التقدم... نحو ماذا؟ استجواب مفهوم سائد

تحول إلى مفهوم ضخم وشائع

فولتير
فولتير
TT

التقدم... نحو ماذا؟ استجواب مفهوم سائد

فولتير
فولتير

مفردات كثيرة وبالغة التأثير يتداولها كثير منا دون أن يتوقفوا عند مدلولاتها، تلامس سطح الوعي ثم تنزلق هكذا دون أن يعيقها سؤال أو يكدر مسيرتها تحفظ. من تلك المفردات «التقدم». معظم مستعملي تلك المفردة التي تحولت إلى مفهوم ضخم وشائع يقصدون بها «الانتقال إلى الأفضل». وهو المدلول نفسه لمفردات أخرى مثل «تطور»، مع أن تلكما المفردتين تنهضان على دلالة أساسية ليس منها الانتقال بالضرورة إلى ما هو أفضل وإنما مجرد الانتقال من نقطة إلى نقطة أخرى، في حالة التقدم تكون أمامية وفي حالة التطور تكون أعلى، والانتقال لا يدل بحد ذاته على تحسن أو ارتقاء، لكنه امتلك تلك الدلالة المضافة بفعل الاستعمال الفلسفي والعلمي الذي لا يخلو من آيديولوجيا أو رؤية متحيزة. التحرك إلى الأمام قد يعني الوقوع في حفرة أو الاصطدام بشيء أو بأحد، والتطور قد يعني مجرد تغيير الصفات الجينية، كما في الفيروس، لكن ذلك التغيير لا يعني الارتقاء بالضرورة إلى ما هو أعظم أو أجمل أو أفضل، بل ربما إلى ما هو أكثر فتكاً.
في عصر التنوير الأوروبي (النصف الثاني من القرن الثامن عشر وصولاً إلى الربع الأول من القرن الذي يليه) شاعت مفردة أو بالأحرى مفهوم «التقدم» لتعني ليس مجرد التحرك إلى الأمام وإنما التحرك إلى الأفضل على أساس أن البشرية باتكائها على العقل والكشوفات العلمية - وليس على الروحانية أو العاطفة أو الأديان التي حاربها التنوير، وسمى نفسه تنويراً على ذلك الأساس - تتحرك إلى الأفضل مع مرور الزمن: صار التقدم في الزمن تحسناً في الأحوال وانتقالاً إلى الأفضل، على نقيض العودة إلى الماضي (التراث، التدين... إلخ) التي تعني الانتقال إلى السيئ أو الأسوأ. وكان ممن أصلوا ذلك المفهوم؛ أوغست كونت، بحديثه عن المراحل الثلاث التي تطورت فيها البشرية، كما رآها، من الأساطير إلى الأديان، ثم إلى العلم، لكن حياة الإنسان، كما نعلم جميعاً، تعاش في اللحظة الحاضرة في حين أن أكثرها موجود في الماضي، في مخزون الذاكرة وفي الشخصية التي تراكمت بفعل الخبرات. المستقبل الذي «نتقدم» إليه قد يحمل ما هو أفضل أو ما هو أسوأ، لكن قطعاً ليس ما هو أفضل بالضرورة. ومع ذلك فإننا نصر، أو يصر بعضنا، على الحديث عن أننا بحاجة إلى التقدم والتطور بمفهومهما التنويري المتحيز لدلالة محددة. نعم نحن بحاجة إلى تحسين أوضاعنا، لكن هل التحسن هو التقدم إلى الأمام، أم أنه ينطوي أحياناً وأحياناً كثيرة على العودة إلى الماضي، إلى تراث عام أو شخصي، إلى استعادة نمط من العيش كان مفيداً أو جميلاً وأهمل بسبب الاعتقاد الجازم بأن تغييره أفضل؟ وهذه العودة ليست دائماً نوستالجيا، وإنما تتأسس في حالات كثيرة على اكتشاف عقلاني بخطأ التخلي عن أسلوب في العيش أو طريقة في النظر إلى العالم.
إحدى سمات المرحلة التي تعرف بما بعد الحداثة هي تلك المحاولة، محاولة الاستعادة التي أشير إليها: استعادة ثقافة ماضوية، سواء في العمارة، أو في الأزياء، أو في تنسيق الحدائق، أو في الطعام أو غير ذلك تعبيراً عن نقد مبطن أو معلن لمرحلة الحداثة التي اتسمت بالسعي المحموم إلى «التقدم» القائم على تحطيم الأشكال المتوارثة والتعلق بكل جديد. ما بعد الحداثة هي في وجه من وجوهها شكل من «القدامة» أو «رجعية» بالتعبير «السلبي» المتداول في الخطاب الحداثي، ربما نوستالجيا غير واقعية، لكنها تعبير عن قلق الإنسان من أن اندفاعته لكل «تقدم» لم تكن في كثير من الحالات سوى اندفاع أهوج، تماماً كالتقدم العلمي الذي إن أنتج حلولاً لمشكلات مستعصية وأضاف أجهزة ووسع معرفة فقد أنتج أيضاً مشكلات جديدة (تدمير البيئة، الأسلحة الفتاكة التي تدمر الإنسان ولا تزال تهدد وجوده برمته إلى غير ذلك).
إن المشكلة في مفهوم «التقدم» تنكشف بمجرد طرح التساؤل: التقدم نحو ماذا؟ وهو ما يذكر بتساؤل الفيلسوف الألماني هوسرل عن الوعي. يقول هوسرل إنه لا يوجد وعي بحد ذاته وإنما هو دائماً «وعي بـ» أو وعي بشيء، أي أن كل وعي ينطوي على موضوع للوعي أي يقع عليه الوعي. لا يكون الوعي لازماً كما في الأفعال، وإنما هو متعدٍ دائماً. وهكذا هو التقدم يشيع في الحديث دون تفكير بأنه يعني التقدم نحو شيء. وهذا لا غبار عليه. الغبار هو على عدم طرح الأسئلة حول المفهوم وأخذه كما لو كان مسلّمة من مسلمات الحياة، أو أن البشرية عرفته دائماً سواء في أوروبا أو غيرها. لقد بات من اللامفكر فيه أن الانتقال الزمني إلى الأمام، أي التقدم، هو بالضرورة انتقال إلى الأفضل، أن غداً أفضل من اليوم ومن الأمس بالضرورة. قد يكون كذلك فعلاً أو أحياناً، لكن قد يكون الأفضل هو الانتقال المراوح بين الأمام والوراء أو حتى العودة إلى الوراء (لو أمكن ذلك طبعاً). تماماً كما في الحرب، تحقيق النتائج ليس بالاندفاع إلى الأمام دائماً وإنما قد يكون بالتراجع وليس تكتيكياً فقط وإنما بالانسحاب تماماً من المعركة. وقد تكون النتائج المتحققة سواء بالتقدم إلى الأمام أو إلى الوراء كارثية، لكنها بالتأكيد ليست مربطة حتماً بإحداهما. كلنا نقدم على مشاريع وكلنا يكتشف أن بعض تلك المشاريع مما ينبغي التخلي عنه، وكلنا يتعرف إلى أناس ثم يتبين له/ لها أن الأفضل هو الابتعاد، أي الرجوع عن أولئك، وليس المضي قدماً في تلك العلاقات.
المفكر وعالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان عرّف ما بعد الحداثة بالسيولة، سماها الحداثة السائلة، وهي تسمية حيادية، مثل تسمية «ما بعد الحداثة» نفسها، تصف الوضع وتتجنب الحكم القيمي. لكن الفرق بين المصطلحين هو أن ربط الحداثة بالسيولة يحدد هويتها أو طبيعتها. حالة السيولة، حسب باومان، هي حالة التدفق التي عرفها العالم منذ منتصف القرن الماضي: تدفق البشر بالهجرة، تدفق رأس المال بالعولمة، وتدفق أنماط العيش والأزياء وقصات الشعر والموسيقى إلى جانب كثير من المشاكل والأمراض والمخدرات والإرهاب وأشياء أخرى كثيرة. تحليل باومان لهذه الظواهر التي تؤلف مجمل منجزه الفكري يكشف عن المفيد وغير المفيد، الطيب والسيئ، البناء والمدمر، ومن هنا يأتي الحياد الذي يخالف الحكم القيمي الصارم في مفهوم التقدم التنويري، بل مفهوم التنوير نفسه بدعواه أنه مبعث النور وحده وليس مصدراً آخر.
التقدم والتنوير جزء من سلسلة مفاهيم تنتمي إلى ما يسميه باومان الحداثة الصلبة، أي الحداثة الممتدة أوروبياً منذ عصر النهضة أو أواخره حتى منتصف القرن العشرين على وجه التقريب. والصلابة قد تعني القوة، لكنها قد تعني أيضاً الثبات على قناعات غير قابلة للنقاش. وبالفعل من يقرأ مونتسكيو أو فولتير مثلاً يرى قناعتهما بأن أفضل ما يمكن للبشرية أن تفعله هو أن «تتقدم»، أن تمضي قدماً أو إلى الأمام، وهي قناعة إيمانية ميتافيزيقية لا تزال تحكم كثيراً من الفكر الحديث والحداثي دون أن يستجوبها الكثيرون. الوحيد ربما بين التنويريين الفرنسيين الذي شكك في تلك القناعة أو بالأحرى قاومها كان جان جاك روسو، حين رأى أن البشرية لم تتقدم إلا إلى الفساد الذي صنعته المدنية. أما الآخرون حتى يومنا هذا فمعظمهم يقبل مفهوم «التقدم» دون مساءلة، يقبلونه مثلما قبله بعض أعلام النهضة العربية ممن نقلوا الفكر الأوروبي والعلوم الغربية الحديثة فدخل اللغة العربية مفهوم جديد غير دلالات كلمة «تقدم» لتستقر دون سؤال «إلى ماذا؟».
لكن لعل من أبرز نقاط الضعف في مفهوم التقدم أنه لا يصدق لا على الآداب والفنون ولا على العلوم الإنسانية. ليست الحداثة في الزمن مرتبطة بالتجاوز أو التميز في الأداء، ولا التقادم دليلاً على الضعف أو الانحدار. نعلم جميعاً أن الأدب الحديث ليس أفضل من الأدب القديم لمجرد كونه حديثاً، وفي العلوم الإنسانية ما زلنا نعود إلى كتابات القدامى، إلى التراث، إلى اليونانيين وكونفوشيوس والمعري وابن رشد وابن خلدون ونجد عمقاً لدى الجاحظ والجرجاني ورومي وشيرازي وغير هؤلاء. وهذا بالطبع على نقيض العلوم الطبيعية، حيث التراكم المعرفي وتحسن مناهج البحث أديا فعلاً إلى «تقدم» واضح. لكن التقدم لا يصدق دائماً على النتائج التي أدت إليها كشوفات العلم الطبيعي. يشهد على ذلك الملايين من البشر الذين قتلوا في أماكن مختلفة من العالم سواء بكشوفات علم الكيمياء (الكيماوي) أو الميكانيكا والذرة في تجريب أنواع السلاح في الحروب أو تجريب اللقاحات. دفعت أفريقيا بصفة خاصة أغلى الأثمان لكي يجري العلماء تجارب طبية أو بيولوجية أو غيرها، كما يشهد على ذلك دمار كثير من الموارد الطبيعية لإنتاج الطاقة بكل أنواعها أو لصناعة البلاستيك الذي يعيث الآن فساداً في البر والبحر.
يطول الحديث، ومختصره أن المهم ليس أن نتقدم وإنما أن نسأل: نتقدم نحو ماذا؟



رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بمجموعة من اللقى البرونزية، منها مجسمات منمنمة تمثّل رأس ثور يتميّز بأنف طويل صيغ على شكل خرطوم. تعود هذه الرؤوس في الواقع إلى أوان شعائرية جنائزية، على ما تؤكّد المواقع الأثرية التي خرجت منها، وتتبع كما يبدو تقليداً فنياً محلياً ظهرت شواهده في موقع مليحة، كما في نواح أثرية أخرى تتّصل به في شكل وثيق.

يعرض مركز مليحة للآثار نموذجين من هذه الرؤوس، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. يتماثل هذان الرأسان بشكل كبير، ويتبنيان في تكوينهما أسلوباً تحويرياً مبتكراً، يجسّد طرازاً خاصاً لا نجد ما يماثله في أقاليم جنوب الجزيرة العربية المتعددة، حيث حضر الثور في سائر الميادين الفنية بشكل كبير على مر العصور، وتعدّدت أنواعه وقوالبه، وشكّلت نماذج ثابتة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب الشاسعة. ظهر رأس الثور بشكل مستقل، وحضر في عدد كبير من الشواهد الأثرية، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. تعدّدت وظائف هذه الرؤوس، كما تعدّدت أحجامها، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير. وتُظهر الأبحاث أنها تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى.

في المقابل، يصعب تحديد تاريخ رؤوس ثيران مليحة، والأكيد أنها تعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، حسب كبار عملاء الآثار الذين واكبوا اكتشافها في تسعينات القرن الماضي. تتبنّى هذه الرؤوس قالباً جامعاً واحداً يتميّز بتكوينه المخروطي وبملامحه المحدّدة بشكل هندسي، وهي من الحجم المنمنم، ويبلغ طول كل منها نحو 5 سنتمترات. الأنف طويل، وهو أشبه بخرطوم تحدّ طرفه الناتئ فجوة دائرية فارغة. تزيّن هذا الأنف شبكة من الخطوط العمودية المستقيمة الغائرة نُقشت على القسم الأعلى منه. العينان دائريتان. تأخذ الحدقة شكل دائرة كبيرة تحوي دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ، ويظهر في وسط هذا البؤبؤ ثقب دائري غائر. الأذنان مبسوطتان أفقياً، والقرنان مقوّسان وممدّدان عمودياً. أعلى الرأس مزيّن بشبكة من الزخارف التجريدية المحززة ترتسم حول الجبين وتمتدّ بين العينين وتبلغ حدود الأنف.

يشكّل هذا الرأس في الواقع فوهة لإناء، وتشكّل هذه الفوهة مصبّاً تخرج منه السوائل المحفوظة في هذا الإناء، والمثال الأشهر قطعة عُرضت ضمن معرض مخصّص لآثار الشارقة استضافته جامعة أتونوما في متحف مدريد الوطني للآثار خلال عام 2016. يعود هذا الإناء إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد وصل بشكل مهشّم، واستعاد شكله التكويني الأوّل بعد عملية ترميم طويلة ودقيقة. تتكوّن هذه القطعة الأثرية من وعاء صغير ثُبّت عند طرفه الأعلى مصبّ على شكل رأس ثور طوله 4.6 سنتمترات. عُرف هذا الطراز تحديداً في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي تقع في جنوب غرب قارة آسيا، وتطلّ على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي.

عُثر على هذه الآنية إلى جانب أوان أخرى تتبع تقاليد فنية متعدّدة، في مقبرة من مقابر مليحة الأثرية التي تتبع اليوم إمارة الشارقة، كما عُثر على أوان مشابهة في مقابر أخرى تقع في المملكة الأثريّة المندثرة التي شكّلت مليحة في الماضي حاضرة من حواضرها. ظهر هذا النسق من الأواني الجنائزية في مدينة الدّور الأثرية التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وهي على الأرجح مدينة عُمانا التي حضنت أهم ميناء في الخليج خلال القرن الأول الميلادي. كما ظهر في منطقة دبا التي تتبع إمارة الفجيرة، وفي مناطق أخرى تتبع في زمننا سلطنة عُمان، منها منطقة سلوت في ولاية بهلاء، في محافظة الداخلية، ومنطقة سمد في ولاية المضيبي، شمال المحافظة الشرقية.

اتّخذت فوهة هذه الأنية شكل رأس ثور في أغلب الأحيان، كما اتخذت في بعض الأحيان شكل صدر حصان. إلى جانب هذين الشكلين، ظهر السفنكس برأس آدمي وجسم بهيمي، في قطعة مصدرها منطقة سلوت. شكّلت هذه الأواني في الأصل جزءاً من آنية شعائرية طقسية، في زمن ازدهرت فيه التجارة مع عوالم الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط والهند. والمعروف أن أواني الشراب التي تنتهي بمصبات ذات أشكال حيوانية، برزت بشكل خاص في العالم الإيراني القديم، حيث شكّلت سمة مفضلة في الطقوس والولائم. افتتن اليونانيون باكراً بهذه الفنون وتأثّروا بها، كما شهد شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعمدوا إلى صناعة أوان مشابهة مزجت بين تقاليدهم وتقاليد أعدائهم، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الفنية الإرثية.

من ناحية أخرى، دخلت هذه التقاليد العالم الشرقي الواسع، وبلغت ساحل الخليج العربي، حيث ساهمت في ولادة تقاليد فنية جديدة حملت طابعاً محلياً خاصاً. تجلّى هذا الطابع في ميدان الفنون الجنائزية بنوع خاص، كما تظهر هذه المجموعة من الأواني التي خرجت كلها من مقابر جمعت بين تقاليد متعدّدة. استخدمت هذه الأواني في شعائر طقسية جنائزية خاصة بالتأكيد، غير أن معالم هذه الشعائر المأتمية تبقى غامضة في غياب أي نصوص كتابية خاصة بها.