يهدف كتاب «السرد والخصوصية الثقافية» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للناقد د. سيد ضيف الله إلى سبر أغوار العلاقة بين السرد والثقافة، من منطلق أنهما مكونان سرديان بامتياز تجمعهما علاقة تبادلية، وجوهر واحد يتجلى في مصطلحين متواشجين بالضرورة.
ويتخذ المؤلف من رواية «العمة أخت الرجال» للكاتب أحمد أبو خنيجر نموذجاً تطبيقياً، حيث يستشهد بمقطع من العمل على لسان إحدى الشخصيات «خبرني ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة... لم يكن الجنوب في حساباتها أبداً، يبدو في نظرها كتلة يمكن إهمالها وتجاهلها... فقط الانتباه لا يتم إلا لنهب خيراته وتشريد ناسه عبر طول البلاد وعرضها». الراوي هنا تم اختياره بمواصفات معينة تلائم الفضاء الفني الذي يدخله فهو راوٍ مشارك في الأحداث، ابن أحد الرجال الستة الذين تشتتوا في البلاد ليطلق عليهم اسماً وفعلاً «عائلة الرجّال»، تاجر العبيد الذي يكتب بهذه الصفة تاريخ عائلته.
يرفض الراوي التفسير الأخلاقي لشتات العائلة ليتبنى التفسير الاجتماعي والسياسي لشتات الجنوب بأكمله والمتمثل في إهمال الحكومات للصعيد على مر سنوات وعقود. ومن ثم يبدو ميراث هذه العائلة الحقيقي هو «القسوة» على حد تعبير (العم عثمان)، الذي رفض حضور جنازة أبيه رداً على طرده من البيت. ورغم إجلال الموت في الثقافة الشعبية بشكل لا يجوز معه إلا الخشوع أمامه وليس التشفي أو الانتقام فإن شخصية «عثمان» المتمردة هنا مؤهلة فنياً للانحراف عن الثقافة الجمعية والذاكرة القديمة وتأسيس ذاكرة جديدة يتجاور فيها المدنس الفردي مع البطولي الجمعي.
البطل عثمان هنا يدخل في عملية «أسطرة» للأحداث مستمدة من الحكايات الشعبية والأساطير حيث يجب عليه مثل كل الأبطال الشعبيين أن يتخطوا كل العقبات لينالوا الاعتراف بكونهم أبطالاً، وبالتالي مؤهلين للزواج من الأميرة. وبالتالي عليه الذهاب ليقطع شجرة «خور السلم» وليس معه سلاح سوى البلطة، ومن غرائب الخور أن فرع الشجرة يتحول إلى حية يقتلها عثمان فتنزف دماً، والدماء تجري خلفه حتى تكاد أن تغرقه ومع شروق الشمس تتحول الغابة إلى جبال. إن هذا الخيال الخصب يشد الرواية شداً إلى موروث ثقافي حكائي أنتجته الجماعة الشعبية، وبهذا تبتعد الرواية عن تاريخ طويل من الكتابة الروائية العربية التي جرت العادة فيها على أن يكون سرد البيئة المحلية سرداً واقعياً.
وفي السياق نفسه، تبرز رواية «كيد النساء» للكاتب خيري عبد الجواد، تلك العلاقة المركبة بين الكاتب الراوي والبيئة العشوائية في حي شعبي شهير بالقاهرة هو «بولاق الدكرور»، حيث تسقط المسافة بين (جمال) الذي يمثل الكاتب نفسه والراوي لسيرة هذا المكان وناسه، وبالتالي لا مجال للإيهام بالواقع عن طريق خلق عالم روائي مطابق في جغرافيته وشخوصه وعلاقاته للواقع وما يستلزمه ذلك من حيل فنية.
يعوّل عبد الجواد على أن الكلام المروي يكتسب مصداقيته من كونه كلاماً على مسؤوليته الشخصية ككاتب لأنه واحد من أبناء هذا الحي، يروي ما سمعه وما رآه وهو لا يكتب نتفاً من سيرته الذاتية في مرحلة حرجة من حياته فحسب، إنما يكتب سيرة شخصيات كانت بمثابة أركان بيئته المحلية التي اختزنتها ذاكرته وهو طفل حتى أصبح كاتباً وباحثاً في الدراسات الشعبية.
لا يتحايل مؤلف الرواية إذن لإيهام قارئه بأن ما يرويه واقع وإنما يتحايل ليحاور القارئ الذي يشاركه الخصوصية الثقافية نفسها، مستهدفاً إيقاظه من سطوة الخرافات المتوارثة التي تسكن عقله ووجدانه، وهو هنا يدرك أن أقصر الطرق ﻹقناع الجماعة الشعبية بشيء أن تفعل ما يفعلون وتؤمن بما يؤمنون حتى يعتبروك واحداً منهم، ليستمعوا لك بعد ذلك فيما تريد تغييره جزئياً. ويلفت د. ضيف الله إلى أن حضور خيري الكاتب والراوي في هذا النص ليس مجانياً أو من باب إشهار نفسه كما أنه لا يكتب على غلاف كتابه سيرة ذاتية وإنما كتب رواية لكنه يعرف أن الحكي عن الذات يذيب المسافات بين الكاتب والقارئ، لا سيما إذا كان الكاتب يمس الجانب الإنساني لأن الإنسان واحد في كل مكان، وحيثما تجد خصوصيتك وتطلعني عليها فإنك تساعدني على أن أجد خصوصيتي إما بطريقة المشابهة أو بطريق المخالفة.
«السرد والخصوصية الثقافية» في روايات مصرية
«السرد والخصوصية الثقافية» في روايات مصرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة