«تَدمُر».. مملكة زنوبيا في قبضة «داعش»

عندما اعتلت ملكتها الشهيرة العرش كانت تطمح في أن تصبح ذات يوم إمبراطورة على روما

تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
TT

«تَدمُر».. مملكة زنوبيا في قبضة «داعش»

تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول

بسقوط مـدينة تدمر السورية الأثرية في يد «داعش» يكون التنظيم المتطرف قد احتل وأخذ يهدد أحد أبرز الكنوز العالمية التاريخية، حيث إن موقع تدمر مَعلَم أثري يلخص تاريخ حضارة تعود إلى أكثر من 30 قرنا من الزمن في المنطقة.. وإرث مملكة سادت ونافست روما في سلطانها.
وكان اسم «تدمر» قد ظهر للمرة الأولى على مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن الـ19 قبل الميلاد.. عندما كانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط وإحدى محطات طريق الحرير. ومن ثم، حظيت تدمُر بألقاب عدة منها «لؤلؤة الصحراء» و«عروس البادية»، واقترن اسمها بملكتها العربية زنوبيا - أو الزّباء (بالعربية) - التي طمحت ذات يوم في أن تصبح إمبراطورة على روما.
تَدمُر، مدينة الحضارة والتاريخ، ينبهر العالم بتاريخها وصروحها المعمارية إلا أن رمزية تدمر – التي تُعرف في الغرب باسم «بالميرا» Palmyra أي «الجميلة» أو «الأعجوبة» – في سوريا ولبنان كانت خلال العقود الأخيرة سلبية جدا، إذ ارتبطت في أذهان كثير من السوريين واللبنانيين بمجرد سماع اسمها بسجنها الصحراوي المُرعب، الذي تروى عنه قصص تعذيب وتنكيل فظيعة. اليوم، تدمر أمام مصير مجهول، بعدما وقعت بشكل شبه كامل بيد تنظيم داعش.
ولدى النظر إلى سوابق التنظيم المتطرّف مع المواقع الأثرية التي سبق له أن احتلها وأمعن فيها تدميرا، فإن ثمة مخاوف كبرى على مصير موقع «المدينة الأثرية» المُدرجة على «قائمة التراث العالمي» لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في تدمر، سواءً من أعمال التدمير أو النهب في الموقع نفسه، أو في متحف المدينة. ويذكر أن «داعش» دمر وأتلف ونهب خلال الأشهر الماضية عددا من المواقع والمدن الأثرية – وبخاصة الآشورية – في شمال العراق وشمال شرقيه، منها آثار مدينتي النمرود والحضر، وكذلك متحف الموصل بمدينة الموصل حاضرة شمال العراق، مما أثار موجة من الإدانة والاستنكار من قبل المنظمات الأممية المهتمة بالآثار.
عودة إلى «مدينة تدمر الأثرية»، فإنها تشتهر خصوصا بأعمدتها الرومانية (أكثر من ألف عمود) ومعابدها ومدافنها الملكية، وأهم المباني التي تجتذب الأنظار: القلعة الأثرية الشهيرة والمعابد، منها «الإله بل» و«بعلشمين» و«نبو» و«اللات» و«ارصو»، إلى جانب «الشارع الطويل» وقوس النصر والحمامات ومجلس الشيوخ، والسوق العامة، ووادي القبور، والمدافن البرجية، كما يوجد في مدينة تدمر متحف كبير يضم آثارا تعود لأكثر من 30 قرنا من الزمن.
ويقع الموقع الأثري في الجزء الجنوبي الغربي من المدينة العصرية، ويعد أحد ستة مواقع سورية أدرجتها «اليونيسكو» على قائمتها للتراث العالمي.
ولعل أبرز خصائص فن العمارة التدمري تكمن في عمارة المدافن التي تميّزت بفخامتها وجمال تصميمها وبمحتواها الغني بالتحف والتصوير، مما يبعدها عن رهبة المقابر ويقرّبها من أماكن الاستقبال، إذ إن الموتى كانوا يوضعون فوق أسرة جنائزية تغطى بجدران وسقوف حجرية. أما مدخل المدفن فهو مغلق بباب حجري سهل التحريك. والمدافن التدمرية على أشكال عديدة، أشهرها البرجية، وليس لها نظير في العمارة الرومانية.
جغرافيا، تتوسّط تدمر، التي تبعد مسافة 210 كم شمال شرقي العاصمة السورية دمشق ويمر فيها الطريق الرئيسي من العاصمة إلى محافظتي الحسكة ودير الزور، «بادية الشام» أو الصحراء السورية. وظهر اسمها للمرة الأولى - كما سبقت الإشارة - على مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، عندما كانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط وإحدى محطّات «طريق الحرير». بل وتذكر وثائق تاريخية أن الكنعانيين والعموريين والآراميين سكنوها منذ 30 قرنا قبل الميلاد، وهم الذين أعطوها اسمها «تدمر».
وقبل اندلاع النزاع السوري في منتصف مارس (آذار) 2011، شكّلت تدمر وجهة سياحية بارزة، إذ كان يقصدها أكثر من 150 ألف سائح سنويا لمشاهدة آثارها، ولقد تعرض بعضها للنهب أخيرا. وأدت الاشتباكات التي اندلعت بين قوات النظام وفصائل المعارضة خلال الفترة الممتدة بين فبراير (شباط) وسبتمبر (أيلول) 2013 في «المدينة الأثرية» إلى انهيار بعض الأعمدة ذات التيجان الكورنثية. وللعلم، يبلغ عدد سكان مدينة تدمر - قبل أن يدخلها «داعش» - وفق طلال البرازي، محافظ حمص، أكثر من 35 ألف نسمة بينهم نحو تسعة آلاف نزحوا إليها خلال السنوات الأربع الماضية، بعد تفجر الثورة السورية. ولكن «المرصد السوري لحقوق الإنسان» قدّر أخيرا أنه يقطن تدمر ومحيطها أكثر من مائة ألف سوري بينهم نازحون.
وحول القلق من المصير الذي يتهدّد تدمر، قال مأمون عبد الكريم، المدير العام للمتاحف والآثار السورية، بعدما بدأ «داعش» يتقدم داخل الأطراف الشمالية من المدينة «أعيش حالة رعب.. حجم الخسارة إذا سقطت تدمر بيد (داعش) سيكون أسوأ من سقوط المدينة في عهد الملكة زنوبيا»، في إشارة إلى مراحل تاريخية سابقة حين تمكن الرومان من السيطرة على تدمر، ثم اقتادوا ملكتها زنوبيا إلى روما. وأبدى عبد الكريم تخوّفه من أنه في حال وصول مقاتلي التنظيم المتطرف إلى المواقع الأثرية فإنهم «سيفجّرون ويدمّرون كل شيء». وأردف «من الصعب جدا اتخاذ أي إجراءات وقائية لحماية هذه المواقع وآثارها التاريخية».
أما إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لـ«اليونيسكو»، فقالت أخيرا في مؤتمر صحافي خلال زيارتها للعاصمة اللبنانية بيروت «نحن قلقون للغاية ونتابع الوضع نظرا للقيمة الكبيرة لهذا الموقع الروماني الأثري.. إن مسؤوليتنا أن ننبه مجلس الأمن الدولي كي يتخذ قرارات حازمة». وحثت خلال مؤتمرها الصحافي المجتمع الدولي للتدخل «من أجل حماية المدنيين وحماية تراث تدمر الثقافي الفريد، خاصة أن لـ(داعش) أخيرا تجربة سابقة مع الآثار، حيث قام في العراق بتدمير المعالم الآشورية».

* لمحة تاريخية
اقترن اسم تدمر بملكتها العربية زنوبيا، واسمها العربي الزّباء أو زينب (وفق الطبري، الذي نسب سلالتها إلى العماليق)، والتي طمحت لأن تصبح إمبراطورة على روما. وفي عام 129م منح الإمبراطور الروماني هادريانوس تدمُر وضع «المدينة الحرة»، وعُرفت آنذاك باسمه «أدريانا بالميرا». وفي هذه المرحلة، بالتحديد، شيّدت أبرز معابد تدمر ومعها ساحة الآغورا. وكان سكان المدينة قبل وصول المسيحية في القرن الثاني بعد الميلاد يعبدون الثالوث المؤلف من الإله بعل ويرحبول (الشمس) وعجلبول (القمر).
واستغلت تدمر الصعوبات التي واجهتها الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث لإعلان قيام مملكة تمكنت من التغلب على الفرس، وتحققت ذروة منجزاتها في عهد الملكة زنوبيا التي كانت قد ورثت الحكم عن زوجها أذينة بن السميذع بعد اغتياله عام 267م، وتولّت الحكم مع ولدهما الصغير وهب اللات. إذ احتلت زنوبيا عام 270 بلاد الشام كلها وجزءا من مصر ووصلت إلى آسيا الصغرى، لكن الإمبراطور الروماني أوريليانوس تمكن من استعادة السيطرة على تدمر واقتيدت الملكة زنوبيا إلى روما، فيما انحسر نفوذ المدينة.
ووصلت تدمر إلى أوج ازدهارها خلال القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وأصبحت إمارة عربية في القرن الثاني للميلاد، وكانت عاصمة التجارة الدولية بين الشرق والغرب. وحكمتها سلالة عربية من أشهر ملوكها أذينة الأول وحيران وأذينة الثاني (زوج زنوبيا ملكة تدمر الشهيرة ووالد ابنهما وهب اللات). وتشير مصادر تاريخية إلى أن الاسم الحقيقي لزنوبيا (أو الزباء أو زينب) هو ميسون بنت عمرو ابن السميدع، وتنحدر من عشائر الفرات الأوسط العربية ولقبت بـ«زنوبيا» و«بت زباي»، واشتهرت أيضا بلقب «الزباء» لغزارة شعرها وطوله، وكانت أمها ترجع بنسب إلى الملكة كليوباترا (من سلالة البطالمة) في مصر، بحسب المصادر.
وولدت زنوبيا في تدمُر، وتعلمت في الإسكندرية بشمال مصر حيث درست تاريخ الإغريق والرومان وتخلقت بأخلاق كليوباترا وبطموحها، وكانت امرأة هاجسها المجد والسلطان، بحسب ما تصفها المراجع التاريخية. ولاحقا، رأت في أذينة الثاني، سليل العائلة الحاكمة في تدمر، فرصتها لتحقيق هذا الطموح، وكانت تشهد مجالس القوم وجلسات مجلس الشيوخ، وهكذا نشأت معه على أهداف واحدة. وبعدما قتل زوجها، اعتلت العرش نيابة عن ولدها «وهب اللات» لصغره، وقادت الحكم ومجلس الشيوخ والحروب، كما قادت أعمال الإعمار والبناء. وأكثر الآثار القائمة حتى اليوم في تدمر يعود الفضل في تشييدها إليها، وكانت تشرف بنفسها على عمليات التوسع والإنشاء، وتنتقل على ظهر فرسها مرتدية أزياء الرجال، كما كانت تسوس دولتها بعين لا تنام ولا تغفل، وبعزيمة ترهب الرجال.
لكن هاجس زنوبيا كان أن تغدو في يوم من الأيام إمبراطورة على روما ذاتها، كما كانت تعدّ أولادها لاعتلاء العرش، وذلك بتعليمهم لغة روما وآدابها وتاريخها. ثم إنها اتخذت مظاهر القياصرة الرومان فكانت تركب مركبة ملكية فيها الذهب والفضة تضاهي مركبة القياصرة، رصّعتها بالأحجار الكريمة.
وبالتالي، على الرغم من حجم إنجازاتها، لم تنس يوما حلمها بالتوسع في آسيا ومصر وروما، وحقا وصلت جيوشها إلى بيزنطة (القسطنطينية، ثم إسطنبول لاحقا) في العصر الروماني، وقتلت هيراكليون قائد القصر، ثم فتحت الإسكندرية.
ولذا، كانت روما قلقة جدا من طموحاتها التوسعية. وحقا، بعد اعتلاء الإمبراطور أوريليانوس العرش في روما عام 270م، وهو رجل عُرف عنه دهاؤه وقسوته وبطشه، مارس أولا اللين إزاء زنوبيا فاعترف لها بنفوذها على الإسكندرية، لكنه لم يلبث أن نقض اعترافه واسترجع نفوذه على الإسكندرية بعد سنة واحدة.
وكان أوريليانوس يتابع انتصاراته في آسيا، إلى أن هدد تدمر، إذ كان عليه أن يقضي على تلك المرأة المناوئة لعرشه في روما. وقبل أن يغادر أنطاكية كانت جيوش زنوبيا تجابه زحفه إلى تدمر، وكانت الحرب في البداية سجالا، لكنها تعرضت لخذلان حلفائها عند حمص، فعادت إلى تدمر حيث لاحقها أوريليانوس وحاصرها. وعندها، حاولت الاستنجاد بالفرس، وذهبت متخفية لملاقاة هرمز، ملك الفرس. إلا أنها كانت تحت رصد جيوش الرومان، وقبل أن تعبر نهر الفرات قبضوا عليها وأعادوها إلى خيمة أوريليانوس الذي عاد بها إلى روما أسيرة مكبّلة ولكن بأصفاد من الذهب احتراما لمكانتها.
وتتباين الروايات حول ظروف وفاة زنوبيا مثلها مثل تفاصيل حياتها، فتذكر إحدى الروايات أنها لم ترض أن تدخل أسيرة إلى روما، مفضلة أن تفوّت نشوة النصر على أوريليانوس، فتناولت سما كان بخاتمها وهي في الطريق إليها مما أدى لموتها. غير أن رواية أخرى تفيد بأنها أكملت حياتها في تيفولي، إحدى ضواحي روما. وثمة رواية ثالثة تقول إن أحد العملاء حاول قتلها عندما دخل إلى قصرها متخفّيا فلما اكتشفت أمره ابتلعت سمّا كان في خاتمها، وقالت المثل المشهور «بيدي لا بيد عمرو» الذي ينسبه بعضهم إليها حتى اليوم.
وبقي أن نشير إلى أن أبجدية تدمر تتألّف من 22 حرفا تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار. ووُجدت نقوش بالأبجدية التدمرية في تدمر وفلسطين ومصر ومواطن أخرى من شمال أفريقيا كانت قد سيطرت عليها أو وصلت إليها الحضارة التدمرية. وتشير مراجع تاريخية إلى أنه عثر على نقوش مرقومة بالأبجدية التدمرية في مناطق أبعد من ذلك مثل ساحل البحر الأسود والمجر. ووفق المراجع نفسها، تعود أقدم النقوش التدمرية إلى عام 44 قبل الميلاد، وأحدثها إلى عام 274م.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.