«الشرق الأوسط» تنشر غدا مذكرات فاتن حمامة: أسرار وتفاصيل تنشر لأول مرة عن حياة سيدة الشاشة العربية

السيرة الذاتية للفنانة الراحلة.. تلقي الضوء على تجربتها الحياتية والفنية

«الشرق الأوسط» تنشر غدا مذكرات فاتن حمامة: أسرار وتفاصيل تنشر لأول مرة عن حياة سيدة الشاشة العربية
TT

«الشرق الأوسط» تنشر غدا مذكرات فاتن حمامة: أسرار وتفاصيل تنشر لأول مرة عن حياة سيدة الشاشة العربية

«الشرق الأوسط» تنشر غدا مذكرات فاتن حمامة: أسرار وتفاصيل تنشر لأول مرة عن حياة سيدة الشاشة العربية

من الصعب على المرء أن يتقبل رحيل من يحب، وأن يتقبل بسهولة أن تغيب صورته من أمام أنظاره، لذلك تكون ذاكرته دائما في حالة استدعاء لما فقد، وقد تكون تلك هي الحالة التي أعيشها الآن وأنا أسطر تلك الصفحات التي تحوي مذكرات ومسيرة وسيرة الفنانة الراحلة فاتن حمامة، الإنسانة والحالة الفنية الرائدة في عالمنا السينمائي المصري والعربي، التي صنعت تاريخها بميزان صائغ، وأزاميل نحات، وسيرة ملتزمة، قلما نجد فيها أخطاء المبتدئات أو ما يمكن أن يجرح حضورها الذي كان دائما استثنائيا.
سقطت كلماتي بردا وسلاما على مسامع فاتن قبل نحو سبع سنوات من رحيلها، ابتسمت وهي تلمس شفتيها بأنامل يدها اليمني، وكانت تلك هي بداية الطريق الصعب والمهلك، بل والمضني أيضا. حينذاك أنهت فاتن اللقاء بكل لطف رافضة عرضي عليها بأن أسطر عنها «كتابا» يتضمن مذكراتها الشخصية تكون هي راويته الوحيدة، ولكن أملي في أن يكون ضمن مجموعة مؤلفاتي كتاب عنها لم ينقطع، خصوصا وأنا أعلم جيدا من خلال التجارب المتعددة في عالم الكبار أنهم يرفضون دائما أن يضعوا أنفسهم على المحك وأن يجلسوا على كرسي الاعتراف وأن يفتحوا بطون التاريخ بسيرتهم ومذكراتهم التي قد تؤذي البعض ممن أحبوهم.
منذ تلك اللحظة بدأت مع فاتن حمامة رحلة طويلة من الاتصالات والمعايدات في بعض المناسبات المختلفة، واستطعت في بعض الأحيان «اختراق الحاجز» وإقناعها بإجراء مجرد حوارات صحافية معها لأنشرها في بعض المجلات والصحف العربية والمصرية، ولم تكن تبخل أبدا علي بذلك، وبعد عدة حوارات صحافية حدثتني خلالها الراحلة عن ملامح متفرقة من حياتها الشخصية وعن مجتمعها الذي رحل بتقاليده وأعرافه، بدأت من جديد أطرح الفكرة التي رفضتها من قبل ولكنها في تلك المرة طلبت مني فرصة كي تعيد ترتيب أفكارها وتدرس الأمر بشكل جدي قبل أن تجيبني.
وبالفعل تركتها وأنا في حالة غريبة وعجيبة من النشوة، لعل كان أهم أسبابها أنني في حالة موافقتها على أن أسطر كتابا عنها سيكون معظم مادة الكتاب جاهزا ومتوفرا تحت يدي، وهو تلك الحوارات التي كنت قد أجريتها معها ولم أكن قد نشرتها بعد، إذ كنت أحتفظ بها لمثل ذلك اليوم. وبالفعل بعد مدة قد تكون طالت وأثناء حديث تليفوني بيننا وافقت فاتن على أن أقوم بصياغة وكتابة مادة ذلك الكتاب.
وأمدتني فاتن ببعض ما نشرته في مختلف الصحف العربية والعالمية والمصرية حول كثير من تفاصيل حياتها في فترات الخمسينات والستينات والسبعينات، وأيضا أمدتني الكاتبة الصحافية نعم الباز بمادة عظيمة هي ثلاثون ساعة إذاعية كانت قد سجلتها مع فاتن حمامة عن سيرتها ومسيرتها.
لقد استطاعت فاتن حمامة حقيقة خلال مشوارها الفني الطويل أن تؤسس لمدرسة من الرقي السينمائي والاجتماعي وبموازاة هذا الرقي الذي كان واضحا تماما في خياراتها السينمائية التي كانت معبرة تماما عن الواقع المجتمعي المصري والعربي، ظلت حياتها الشخصية بمعزل عن الشائعات والاتهامات والأسرار «إلا قليلا من منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات» بما يتوافق مع مكونات الأيقونة التي نسجتها بخيوط من حرير حضورها في الذاكرة الجمعية، من دون أن تغادر الواجهة، رغم احتجابها عن الشاشة بعد انتهائها من مسلسلها الأخير «وجه القمر» الذي عرض في بداية الألفية الجديدة.
فاتن حمامة في تلك السيرة والمسيرة الحياتية تطرح كثيرا من الأسرار والتفاصيل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي ظل بعضها عالقا بلا إجابة واضحة في أذهان جمهورها في مصر والوطن العربي وبعض البلدان الأوروبية التي كانت أفلامها تصل إليها، فتتحدث فاتن أو «تونة» كما كان ينادونها بهذا الاسم، أسرتها والمقربون منها، عن نشأتها وتكوينها داخل أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية وكيف استطاع والدها أحمد حمامة الذي كان كثير التنقل بسبب عمله الوظيفي الحكومي أن يرعاها وينمي موهبتها ويضعها بقوة على بداية طريق المجد. تروي فاتن حمامة تفاصيل بداية حياتها الفنية في فيلم «يوم سعيد» والسبب الذي جعلها ضمن أبطاله وكيف كان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لا يجيد النص السينمائي بينما كانت تجيده.
كما تقص أيضا كيف استطاعت وهي في هذه السن الصغيرة أن تتحمل عناء العمل السينمائي داخل استوديوهات التصوير في القرى والنجوع والمدن والحضر وفي بلاد الدلتا ومحافظات الصعيد، تتحدث فاتن أيضا عن حياتها الدراسية التي لم تتأثر بنجوميتها التي بدأت وهي ما زالت طفلة، وعن جمهورها الذي أصبح يطاردها في كل مكان متجاهلا اسمها ويناديها باسمها السينمائي «أنيسة»، وكم كان ذلك يسبب لها الحزن وأحيانا البكاء. كما تقص حكاية حبيبها الأول، والصفعة الأولى من والدها، وكيف أصبحت مدمنة لقراءة روايات الحب ولماذا ظلت سنوات طويلة تكره مشاهدة شماعات الملابس وعقدتها معها.
تستحضر فاتن سر غضبها من يوسف وهبي واحترامها لعملاق المسرح زكي طليمات الذي عالج لثغة كانت تلازمها في النطق، وتعترف بأن زواجها الأول عقد دون علم أسرتها، وعاشت مع عز الدين ذو الفقار سنوات حب وصراع اكتشفت خلالها خيانته لها، وتروي لماذا استخدم ذو الفقار علاقته السياسية لنفي شقيقه ضابط الجيش إلى السودان. تتحدث بكل شجاعة عن الحب الذي تلاشى لعز الدين وعن العشق الذي بدأ مع عمر الشريف «زوجها الثاني» منذ النظرة الأولى، وعن الأحلام التي طاردها فيها عمر والتي انتهت بالزواج، رغم تأسيس جمعية من جمهور فاتن يعلنون مقاطعة أفلامها لأنها فضلت قلبا آخر على قلوبهم، وأيضا الصراع والحرب التي شنت عليها فور إعلانها رغبتها في الزواج بعمر الشريف، وتروي تفاصيل وأسرارا حول مسيحية ويهودية عمر الشريف، وأيضا تتعرض بأدق التفاصيل لمسانداتها له ومحاولاتها المضنية التي قدمتها لكي تصنع منه نجما كبيرا يقف بقوة على قمة الساحة الفنية في مصر والوطن العربي.
تتحدث فاتن عن ثورة 23 يوليو (تموز) وعن الصلات والعلاقات التي جمعتها بقياداتها، وعن دورها في دعم الثورة ومساندتها، وأيضا سر صراعها معها بعد ذلك ومطاردات صلاح نصر ومخابراته لها في مصر وفي لندن وباريس التي هربت إليها بعد محاولة فاشلة لتجنيدها في زمن «قسم المندوبات» بالمخابرات العامة. تتحدث لماذا كرهت جمال عبد الناصر ولماذا حزنت لأن إسرائيل هي التي أسقطته ولم يسقطه الشعب المصري، وتروي محاولات لم تحققها لمبدعي ومثقفي مصر من زملائها وأصدقائها وعلى رأسهم أم كلثوم لإعادتها إلى مصر.
تتحدث بصراحة عن الهزيمة في 1967 والنصر في أكتوبر 1973 والطريق بينهما، وأيضا تطلعنا على الغربة وسنوات المنفى التي عاشتها متنقلة مع زوجها عمر الشريف بين لندن وباريس ونيويورك وهوليوود وبلدان ومدن أخرى، وتتذكر الحرمان والجفاء الذي تعامل به عمر الشريف معها منذ بداية نجاح فيلمه العالمي «لورانس العرب» إلى أن اتفقا على الطلاق، وتسرد كيف كانت مديرة أعماله كارولين هي التي تديره بدلا من أن يشارك زوجته أفكاره وطموحاته.
كما أنها تتحدث عن رحلة العودة إلى مصر ومواجهتها الجميع في شجاعة وتحدٍّ والتغاضي عن نظرات وكلمات وعبارات اللوم والشماتة التي قوبلت بها من البعض، وأيضا تتحدث عن المؤتمرات العالمية والعلاقات الاجتماعية التي جمعتها بكبار المفكرين والكتاب والصحافيين فتروي مقالب الشقيقين مصطفى وعلي أمين، وبكاءها بعد لقاء طه حسين.
العقبات التي واجهتها في طريقها إلى المجد السينمائي من زملاء وزميلات الوسط الفني تتحدث عنها بكل شجاعة، وتسرد الشائعات التي طاردتها وكيف كانت تتغلب عليها، وتروي كواليس أفلام «يوم سعيد، فاطمة، اليتيمتين، موعد مع السعادة، لا أنام، أرض السلام، لا تطفئ الشمس، صراع في الوادي، دعاء الكروان، بين الأطلال، إمبراطورية ميم، لحن الخلود، أفواه وأرانب»، وأعمال أخرى كثيرة.
تروي علاقاتها بكل من «محمد عبد الوهاب.. يوسف وهبي.. زكي رستم.. أمينة رزق.. نجمة إبراهيم.. ماجدة الصباحي.. فريد الأطرش.. مديحة يسري.. أحمد رمزي.. عبد الحليم حافظ.. زينات صدقي.. محمود ياسين.. فريد شوقي.. هنري بركات.. يوسف شاهين.. يحيى الفخراني.. إلخ).
عن فيلمها السينمائي الخالد الذي هز مشاعر ووجدان كثيرين «أريد حلا» تروي لماذا ركزت فيه على ضرورة مساواة المرأة مع الرجل أمام القانون، تتحدث عن الزعماء والقادة الذين عاصرتهم وكان من بينهم السادات، وتقص علينا قصصه ولقاءاتها معه، وأيضا تتحدث عن مصر في بداية الثمانينات وفترة التسعينات باستفاضة وفترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، كما أنها تسجل هنا شهادتها عن ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو بكل شجاعة.
تروي قصة زواجها الثالث والأخير من الدكتور محمد عبد الوهاب وكيف تعرفت عليه، ولماذا ارتبطت به، وتشرح تفاصيل كثيرة بينهما، أهمها كيف كان ذلك الرجل هدية السماء إليها، وأيضا تتحدث لماذا رفضت حكم الإخوان المسلمين والتيارات الدينية المتشددة، ولماذا اعتبرت أن الحجاب في العقل وليس «شيلة» على الرأس، وتتحدث باستفاضة عن الرئيس عبد الفتاح السيسي وتطرح بصراحة شديدة رأيها فيه.
وفي النهاية، المذكرات الشخصية والسيرة الذاتية للفنانة فاتن حمامة ليست إلا نموذجا لأحد الأجناس الأدبية التي يعبر فيها الإنسان عن تجربته في الحياة وعن عواطفه وأفكاره وانطباعاته التي تنعكس على فترات مهمة للغاية في تاريخ وطنه.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)