150 سنة على صناعة الدراجة الهوائية.. طرائف سياسية لا تنتهي

وسيلة رياضية تنشط الجسم.. وتساعد على تخفيف الوزن

150 سنة على صناعة الدراجة الهوائية.. طرائف سياسية لا تنتهي
TT

150 سنة على صناعة الدراجة الهوائية.. طرائف سياسية لا تنتهي

150 سنة على صناعة الدراجة الهوائية.. طرائف سياسية لا تنتهي

مرت مع بداية هذا العام ذكرى 150 عاما على صناعة أول دراجة هوائية في العالم، وبدأت فكرة البدالات لتحريك العربة عام 1864 لتبدأ فكرة العربات المحركة بشريا، وعلى الرغم من أن الفضل في هذا الاختراع يعود إلى الحداد الفرنسي بيير ميكوكس، فإن الكثيرين يقولون إن مخططات سابقة كانت بحوزة الأميركي بيير لاملنت.
وتعد الدراجة التي دخلت المعترك السياسي وسيلة رياضية تنشط الجسم، وتساعد على تخفيف الوزن، وتقوية عضلات الساقين، ونظمت لها سباقات متنوعة، وأنشئت منتخبات، وشكلت اتحادات لتنظيم السباقات وهي سهلة القيادة، قليلة التعرض للاصطدام لمرونتها في المناورة، وسرعة التنقل. وذكر معهد التربية البدنية الألماني في كولونيا أن ركوب الدراجة إحدى الطرق المثالية التي يمكن للمرء من خلالها تحسين جميع وظائف الجسم والمحافظة على صحته إجمالا إذا ما حرص على ممارسة هذه الرياضة لمدة عشر دقائق فقط يوميا. وفي تقرير يتضمن ملخصا لنحو سبعة آلاف دراسة بشأن فوائد ركوب الدراجة كوسيلة للتمتع بلياقة بدنية عالية، قال المعهد إن ركوب الدراجة لمدة عشر دقائق كل يوم يساعد في تقوية العضلات والدورة الدموية ومفاصل الجسم. وأشار المعهد إلى أنه يمكن أيضا أن تتحسن حالة القلب إذا مارس الإنسان رياضة ركوب الدراجة لمدة نصف ساعة يوميا.
وفي لندن، شهدت مبيعات الدراجات الهوائية في العاصمة البريطانية ارتفاعا كبيرا عقب الانتصارات الكثيرة التي حققها الدراجون البريطانيون خلال ألعاب لندن وطواف فرنسا الأخير.
وكان عمدة لندن بوريس جونسون قد راهن على جعل الدراجة الهوائية الوسيلة الأولى لمواطني عاصمة الضباب في التنقل اليومي للحفاظ على البيئة من التلوث، إلا أن سياسته واجه انتقادات من معارضيه بعد الحوادث الكثيرة التي راح ضحيتها أكثر من عشرة أشخاص في فترة قصيرة. وتعرض «بوريس» لسيل من الانتقادات بسبب فشل مسارات الدراجات التي سوق لها طيلة سنتين ضمن عمله كمحافظ للمدينة. وبسبب هذا الهجوم، سرعان ما تقبل «بوريس» فكرة المسارات المعلقة فوق المدينة من اللورد «فوستر» لإبعاد الدراجات من الأرض. ووضع رسوما على الدراجة التي تستخدم هذه المسارات بطريقة لتمويل هذا المشروع المكلف الضخم. ومن المواقف السياسية الطريفة لاستخدام الدراجة من السياسيين، ما حدث في عام 2013، عندما رفض مسؤولون في الحكومة البريطانية تزويد وزير الدولة للشؤون الداخلية، نورمان بيكر بدراجة هوائية لاستخدامها في التنقل بين مكتبه والبرلمان بدلا من السيارة، وعزوا ذلك إلى التكاليف. ويذكر أن الوزارة تنفق 136 ألف جنيه إسترليني سنويا على تكاليف سيارات وزرائها.
وكان الوزير بيكر، عضو حزب الديمقراطيين الأحرار الشريك الأصغر في الحكومة الائتلافية البريطانية، 56 عاما، قد انتقد رفض المسؤولين في حكومته تزويده بالدراجة الهوائية، واعتبره مثيرا للسخرية. كما تسببت الدراجة الهوائية في استقالة، وزير الشؤون البرلمانية البريطاني - أندرو ميتشل، من منصبه في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، بعدما فشل في تفنيد اتهامات، بأنه سب الشرطة ووصفها «بالرعاع» أثناء جدال دار خارج مقر رئيس الوزراء ديفيد كاميرون. ونفى ميتشل استخدام كلمات مهينة، لكنه أقر بالإدلاء بتعليقات غير مقبولة بعدما طلب منه الترجل عن دراجته، أثناء مغادرته المقر. كما أوضح في خطاب استقالته إلى كاميرون «اتضح لي خلال اليومين الماضيين أنه مهما كان الصواب والخطأ فيما حدث، فلن أكون قادرا على إنجاز مهامي كما نأمل».
ويدور الخلاف الذي بدأ في سبتمبر (أيلول) 2012، بشأن ما إذا كان رجال الشرطة لفقوا تهمة للوزير أندرو ميتشل وأدلوا بتصريحات مضللة لوسائل الإعلام لإجباره على تقديم استقالته بسبب تخفيضات الحكومة لميزانية الشرطة التي أثارت غضب الكثيرين.
وفي النمسا، كانت وسائل الإعلام قد سلطت الضوء على سفيرة الدنمارك لدى النمسا ليزولته بليسنر، أثناء حضورها أول اجتماع لرئيس جمهورية النمسا دكتور هاينز فيشر، مع رؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدين في النمسا، حيث اصطفت السفيرة بليسنر بدراجتها الهوائية البسيطة الحمراء بين سيارات السفراء الرسمية الفخمة أمام مقر رئيس الجمهورية النمساوي.
وقالت السفيرة بليسنر، في تعليقها لممثلي وسائل الإعلام النمساوية التي تابعت الحدث باستغراب في ذات الوقت: «لقد حصلت السفارة أخيرا على ثلاث درجات جديدة، ورأيت أن أول مقابلة لي مع رئيس الجمهورية في هذا العام الجديد تعد فرصة مناسبة لي لتدشين الدراجة الأولى».
وكان بوريس جونسون عمدة العاصمة وواحد من هواة الدراجات الهوائية، واحدا من المشتركين في السباق الذي انطلق في العام قبل الماضي 2012 من الحديقة الأولمبية في حي ستراتفورد في شرق لندن، في رحلة طولها 100 ميل على نفس الطريق الذي سلكه سباق الدراجات خلال الدورة الأولمبية.
وعن تاريخ الدرجات الهوائية، يقول روي استارد المسؤول السابق بوزارة الثقافة البريطانية «قبل وجود الدراجة كان هنالك عربة Draisine عام 1817 التي سميت تيمنا بمخترعها الألماني كارل فون داريس، وكانت عبارة عن مجموعة من الخشب الموصول بالحديد تسمح لراكبها بالتزلق بوضع كلتا رجليه من الجهتين. وبدأت فكرة البدالات لتحريك العربة عام 1864». وفي عام 1870 فكر أحد المخترعين في تكبير العجلة الأمامية لتصبح أسهل للقيادة وأسرع من الشكل السابق، لكن منتقدي هذا النموذج ظنوا أنه خطير وصعب للقيادة.
وفي عام 1885 ظل استعمال تلك الدراجات محدودا خاصة تلك ذات العجلة الكبيرة، إلا أن إضافة ميكانيكية معينة تقوم على سلسلة حديدية أثبتت كونها أكثر أمانا وسرعة من الدراجة ذات العجلة الكبيرة، ليصبح شكلها أقرب للدراجة الرائجة في يومنا هذا.
وعام 1888 بدأ الاسكوتلندي جون بانلوب بوضع المطاط على الجانب الخارجي لإطار دراجة ابنه وبدأ بتسويق المنتج، ليتبناه الرياضيون لدراجاتهم بكونه يخفف اصطدام العجلات بالأرض.
وفي تسعينات القرن التاسع عشر أصبحت الدراجات مريحة وآمنة وأخف وزنا ليبدأ عصر ذهبي لاستعمال الدراجات، ويروج استعمالها بشكل واسع، بالأخص توفر الدراجات رخيصة الثمن، وتصبح وسيلة التنقل «لكل رجل».
وفي بدايات القرن العشرين بدأ توظيف عجلة حرة الحركة، إذ كانت بدالات الدراجة تلتف مع التفاف العجلة الخلفية، وكان يقوم راكب الدراجة بالضغط على السلسلة الحديدة الموصولة بالبدالات ليوقف برجله العجلة من الدوران أو يخفف سرعتها، لتعمل المكابح دون الضغط المباشر على العجلة الذي أدى إلى اهترائها بسرعة. وفي عشرينات القرن العشرين انقسم راكبو الدراجة لنوعين، منهم من كان يحب ركوبها للمتعة، ومنهم من حول الهواية لرياضة، تجنب محترفو سباق الدراجات الشكل الجديد لها، لكنهم سرعان ما تقبلوها لاحقا في سباق فرنسا «Tour de France» عام 1937. وقام الفرنسي تشارلز موتشيت باقتطاع درجته المكونة من أربع عجلات إلى قسمين ليعيد تصميمها في ثلاثينات القرن العشرين، وتكسر الأرقام القياسية للدراجات حينها.
وفي ستينات القرن الماضي استوحى صانعو الدرجات صرعة جديدة لدى أطفال كاليفورنيا، الذين كانوا يزينون دراجاتهم الهوائية لتبدو كالدراجة النارية.
ومع تقدم الوقت شهدت الدراجات أنواعا وأشكالا مختلفة إذ صممت دراجات السباق لتكون أخف وزنا وأقل تأثرا بمقاومة الرياح، بالإضافة إلى ظهور الدراجات الجبلية مع الغيارات الموظفة لتحديد سرعتها لتتحول إلى موضة في السبعينات.
وفي التسعينات بدأت الكهرباء في دخول عالم الدراجات الهوائية، بتزويدها ببطاريات، وانتشر هذا النوع بشكل موسع خاصة في الصين، ليصبح قطاع تصنيع الدراجات الكهربائية الأسرع نموا حينها. واليوم تصنع الدراجات بألياف كربونية، وتصنع 100 مليون دراجة سنويا، ليبلغ سعر بعض الدراجات آلاف الدولارات، ويستمر البحث والتطوير لهذه المركبة التي صمدت طويلا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)