ليس المشاهير أبطالاً خارقين. وقوفهم تحت الأضواء لا يقيهم عتمة وصراعاتٍ داخلية لا تعرف الكاميرا عنها شيئاً. إلا إن جرأة الاعتراف بالضعف بطولة في حد ذاتها.
يوم قررت الفنانة إليسا إدخال جميع المشاهدين معها إلى غرفة المستشفى حيث كانت تصارع مرضاً خبيثاً، كانت تؤدي دور بطولة. شاركت «نجمة الملايين» المعجبين دموعها وأوجاعها في فيديو «إلى كل اللي بيحبوني»، فتعرت من مساحيق التجميل والأزياء المبهرة وظهرت بقميص المرضى أمام الجميع. ذهبت إليسا أبعد من ذلك؛ إذ روت في إطلالات وتغريدات عدة كيف أن العلاج النفسي أتى مكملاً للعلاج الجسدي. جاهرت المرأة القوية بضعفها وكأنها تقول: «It’s ok not to be ok (لا بأس في ألا نكون بخير)».
منذ أيام، استوقفت متصفحي «إنستغرام» «سيلفي» للممثلة الأردنية الشابة نور طاهر، بطلة مسلسل «مدرسة الروابي للبنات» وهي على سرير المستشفى. جسدها مليء بالأنابيب وعلى وجهها سمات تعب كبير. أرفقت نور الصورة بإعلان إصابتها بمرض الصرع، وشاركت متابعيها والرأي العام حكاية معاناتها الطويلة مع هذا الداء العصبي الذي أفقدها الوعي مرات متتالية، وترك كدمات على جسمها وفي نفسها، واصفة التجربة بالمرعبة والمحبطة.
الممثلة الأردنية نور طاهر
في السنوات الأخيرة، صارت المجاهرة بالضعف وبالأمراض الجسدية والنفسية، قوة؛ فكيف إذا كانت تلك المجاهرة آتية من شخصيات عامة وفنانين رأسمالهم الأساسي الصورة المثالية، الخالية من الشوائب؟
عيادة نفسية مباشرة على الهواء
عام 2003 وبالتزامن مع انطلاقة برنامجه التلفزيوني «مايسترو»، قرر الإعلامي نيشان ديرهاروتيونيان زيارة طبيبة نفسية من باب الفضول والوعي الشخصي بأن «لصحتنا النفسية حقوقاً علينا، تماماً كما الصحة الجسدية». «نفسنا تؤلمنا»، يقول نيشان لـ«الشرق الأوسط»... «وهي آلام غير مرئية في معظم الأحيان. من المهم أن نصوب عيوننا إلى الداخل وليس إلى الخارج فحسب. ففي دواخلنا غرف مظلمة يجب فتح أبوابها. لا يمكن بناء النجاحات والاستمتاع بالتصفيق والأضواء، من دون تصويب الماضي ومصافحة الأنا القديمة».
زياراته الأولى إلى العيادة النفسية أثرت في نيشان إلى درجة أنه قرر نقل العيادة إلى الاستوديو، من خلال إضافة فقرة إلى برنامجه تحاكي جلسة العلاج النفسي. جهز فريق العمل الديكور الخاص بالفقرة، وتحضر نيشان للحوار الـ«سيكولوجي»، غير أن المفاجأة (المتوقعة) أتت من الضيوف الثلاثين، الذين لم يوافق سوى اثنين منهم على الخضوع للجلسة النفسية التلفزيونية: الممثلة المصرية يسرا، والإعلامية اللبنانية نضال الأحمدية.
يعدّ نيشان أن «يسرا ونضال كسرتا المحظور آنذاك، وتجاوزتا الخطوط الحمر التي كان يرسمها المجتمع تجاه موضوع الصحة النفسية». فمنذ 20 عاماً، كان الحديث عن معاناة النفس وأمراضها يصنف في خانة «العيب»، ومن تجرأ على الاعتراف بخلل نفسي ما، كان يعرض نفسه لتهمة الجنون. أما اليوم، وبفضل «التطبيع مع ما كان يُسمى (العار) سابقاً» حسب تعبير نيشان، فقد اختلف الأمر كلياً. تكاد المجاهرة بالاضطرابات النفسية أو بزيارة المعالج النفسي تصبح موضة أو «ترند»، تزخر بها صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالفنانين والمؤثرين... حتى إن التطبيقات الهاتفية المخصصة للصحة النفسية تشهد مؤخراً تحميلاً متزايداً، بعد أن أخذ عدد من المشاهير على عاتقهم التسويق لها والبوح بمشكلاتهم النفسية عبرها وعبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. بات من الواضح إذن أنه عندما تفتح الشخصيات العامة قلوبها وتشارك ما يؤرقها، يصبح من الأسهل على الناس أن يطلبوا المساعدة النفسية.
لا يخفي نيشان سراً عندما يقول إن «الحياة تحت الأضواء تستلزم اهتماماً بالصحة العقلية والنفسية»، ويؤكد أن «95 في المائة من الضيوف الذين قابلتهم على مدى مسيرتي الإعلامية، يزورون أطباء نفسيين. وكثيرون منهم لا يستطيعون الخلود إلى النوم من دون عقاقير منومة».
تؤكد الاختصاصية النفسية، وردة بو ضاهر، الأمر، مشيرة في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «المشاهير أكثر عرضة للاهتزازات النفسية بسبب الضغط الذي يعيشون والمجهود المفروض عليهم في عملهم». وهي توافق على أن «إفصاح الشخصيات العامة عن زيارتها العيادات النفسية حطم التابو». لكنها تحذر هنا من عدم التعاطي مع الموضوع بسطحية. توضح أن «الأهم هو أن تكون الشخصية العامة على دراية ووعي بالمشكلة النفسية التي تتحدث عنها. يجب عدم رمي تعابير وتسميات لأمراض بطريقة عشوائية».
بين التوعية وركوب الموجة
نيشان؛ وهو من أول الوجوه المعروفة التي أفصحت عن زيارتها طبيباً نفسياً، يقول إنه وظف شخصه الإعلامي لخدمة قضية عنوانها: «ليس عيباً ألا نكون بخير».
لا مشكلة لديه في أن يتحول موضوع مشاركة المعاناة النفسية على الملأ إلى «موضة» أو «ترند» على وسائل التواصل الاجتماعي، فهذا «أفضل من أن تبقى الأمور طي العتمة والكتمان. لكن الأهم ألا يتم التعاطي معها بسطحية، بل يجب التعمق العلمي والطبي والمتابعة حتى النهاية، فهذه هي التوعية الحقيقية».
طبع كلام سائق الأجرة «أبو الياس» في ذاكرة نيشان وروحه: «قال لي فيما كنت متوجهاً في السيارة معه من بيروت إلى زحلة، إن كلمة (مفصوم) التي يكثر استهلاكها في الإعلام وفي المجتمع عموماً من باب السخرية ومن دون التفكير بمعناها، تؤلمه وتجرحه. فهو أب لشاب يعاني مرض الفصام. وما أدراك ما الفصام وحمله الثقيل على المصاب وأهل بيته!».
تتوافق الآراء بين نيشان وبو ضاهر التي ترفض الاستسهال والاستخفاف بموضوع الصحة النفسية. تقول: «من غير المقبول أن تُرمى عبارة (لقد زرت معالجاً نفسياً) أو تسميات أمراض مثل (OCD) أو (PTSD) يمنة ويسرة لمجرد إثارة التعاطف أو لفت الأنظار»، فالقضية أعمق من كلمة رائجة أو لحظة تلفزيونية.
لكن يبدو أن اللحظات التلفزيونية التي تتمحور حول اعترافات المشاهير بنقاط ضعفهم النفسي هي من الأعلى مشاهدة، ووثائقي الأمير هاري مع أوبرا وينفري خير دليل على ذلك. وضع الأمير قلبه تحت المجهر، وتحدث بصدقٍ عن نوبات الهلع التي كانت تصيبه، وعن مشاعر القلق والغضب المزمن التي ألمت به بعد وفاة والدته الأميرة ديانا. ولعل أعمق ما قاله هاري أن «المفتاح الوحيد لتحرير الذات هو قول الحقيقة».
https://www.youtube.com/watch?v=X0gGU-PRGpU&t=58s
تطول لائحة الفنانين والمشاهير الذين لم يترددوا في تحويل لقاءاتهم الإعلامية إلى جلسات بوح، واللافت أن غالبيتهم من النساء، منهن: أديل، وآريانا غراندي، ومايلي سايرس، وسيلينا غوميز، ولايدي غاغا، وإيلين دي جينيريس... ومؤخراً امتدت موجة الاعترافات إلى العالم العربي حيث صار من الأسهل الدخول إلى أعماق الفنانين، نذكر منهم: إلهام شاهين، وأصالة، وأنغام، وهند صبري، وشيرين، وغادة عبد الرازق، ومنى زكي، ومنة شلبي، وعابد فهد، وباسل خياط...
يقول نيشان الذي يستعد لتقديم مزيد من الحلقات التلفزيونية حول الصحة النفسية، إن «الضوء في حياة المشاهير ليس ثابتاً، وقد ينحجب فجأة عنهم، لذا؛ فعليهم أن يتحصنوا بنور داخلي يقيهم العتمة ولا يتركهم عُزلاً عندما يخاصمهم الضوء». ويذكر بأنه «لا علاقة للاستقرار النفسي بحجم الرصيد المالي ولا بمساحة البيت ولا بعدد المتابعين على (إنستغرام)».