برلين... حقائب أوكرانية ومرارات سورية وخيط روسي

«الشرق الأوسط» زارت الحضن الألماني حيث يلتقي اللاجئون باللاجئين

إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)
إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)
TT

برلين... حقائب أوكرانية ومرارات سورية وخيط روسي

إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)
إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)

كانت المدرسة قريبة من المخيم فأخذونا إليه. تدربت باكراً على أوجاع اللاجئين. شاهدت المسنين الذين ضاعف التهجير التجاعيد في وجوههم. شممت رائحة يأسهم من فرط الانتظار. عاينت العائلات المحتشدة في غرف مرتجلة تشبه الخيام. ورأيت الأولاد يلعبون في الأزقة حيث تتدفق مياه غير صحية. قرأت حسرة الأمهات يكابدن لإسكات جوع الصغار وينتظرن الإعاشة من المنظمات الدولية. واستمعت إلى روايات الذين احتفظوا بمفاتيح المنازل التي هجروها حالمين بالعودة إلى تحريك المفاتيح في أقفالها. قبل ثلاثة أعوام عدت إلى المخيم الفلسطيني المقيم على أطراف صيدا في جنوب لبنان. أكل الصدأ المفاتيح واغتال حلم العودة. أجيال تراكمت حزينة في وطن صغير اسمه المخيم. الشبان الذين عثروا على فرصة للنجاة منه ألقوا بأنفسهم في بلاد الله الواسعة. ومن لم يجرؤ على المغامرة يهدر أيامه في المخيم بعدما أقلع عن الرهان على الضمير العالمي وقرارات الأمم المتحدة. لا غرابة أن تلازم هذه المشاهد الموجعة الصحافي الوافد من الشرق الأوسط الرهيب وهو منطقة منجبة للاجئين. وشاءت المهنة أن ألتقي لاحقاً بلاجئين فروا من أفغانستان أو العراق أو سوريا أو إثيوبيا.

فروا من وطأة قساة الداخل أو قساة الخارج. وفروا من الجفاف والعطش والحروب الأهلية التي لا تنتهي. في سبتمبر (أيلول) 2015، تدفق السوريون عبر حدود ألمانيا. اتخذت المستشارة أنجيلا ميركل قراراً تاريخياً شجاعاً. شرعت الأبواب أمام الذين تركوا كل شيء وجاءوا. تركوا السقوف التي ترد المطر. والجدران التي تحمي. والأرض التي كانت ترد الجوع. ذهبت يومها إلى برلين واستمعت إلى قصص راعبة. لا أستطيع نسيان ما قاله لي شاب سوري استقل أحد «قوارب الموت» للوصول إلى الأرض الأوروبية. سألته عن شعوره بعدما استقبلته ألمانيا، فقال: «الوضع ممتاز... ثلاث وجبات ولا بعث هنا ولا داعش». ما أوجع أن يحتفي هارب من وطنه بثلاث وجبات يوفرها مركز اللجوء في بلاد بعيدة وغريبة. لا غرابة أن تضخ دولنا الفاشلة وبلداننا المتصدعة سيلاً من اللاجئين في عروق العالم. لكن لم نكن نتوقع أن تستيقظ أوروبا ذات يوم وتنهمك بإيواء قوافل من اللاجئين الأوروبيين أطلقها الجرح الأوكراني الذي هز القارة المستقرة وأيقظ شياطينها القديمة. دفعني الفضول الصحافي إلى العودة إلى برلين للقاء اللاجئين الجدد ومن دون تناسي أبناء الموجة السابقة.
في المحطة المركزية للقطارات في برلين تنتظم صفوف الواصلين حديثاً. يجدون في استقبالهم عدداً من الموظفين والمتطوعين. أغلبية المنتظرين من النساء والأولاد. اكتفى عدد من الرجال بإيصال العائلات إلى مكان آمن واختاروا العودة إلى أوكرانيا للقتال أو «المساهمة في تعزيز صمود السكان».

لا يبقى إلا حقيبة

قافلة لاجئين وقافلة حقائب. ما أصعب أن لا يبقى لك من بلادك إلا حقيبة وأن تلقي بنفسك معها في بلاد أخرى منتظراً أن يتكرم المضيفون عليك بعنوان، وإن مؤقتاً. مشهد الحقائب يكسر القلب. كأن الحقيبة نعش يحمل جثة الوطن ورائحة التراب ورماد الذكريات. تذكرت الشاعر الكبير محمود درويش الذي كان يذهب في غنائيته ومخيلته إلى حيث يتعذر الذهاب. «وطني ليس حقيبة، وأنا لست المسافر».
في الرحلة الأوكرانية لا وجود لقوارب الموت. القطارات هي وسيلة الفرار. أبرز المحطات بولندا ومنها بالقطار إلى عناوين أخرى بينها ألمانيا. في عيون المنتظرين قلق من لا يعلم ما ستحمله الأيام. ابتعدوا عن الصواريخ والقنابل الروسية لكنهم لا يعرفون كم سيطول الغياب وماذا تخبئ أيام الغربة. يحاولون إقناع أنفسهم أن هذه الرحلة القسرية لن تطول. بينهم من يراهن على تطور دولي يفرض وقف الحرب. وبينهم من يتزايد اقتناعه أن حرباً طويلة قد بدأت وأن أبواب العودة لن تفتح ما لم تخسرها روسيا.
يفضل معظم الأوكرانيين الوافدين البقاء في برلين. لكن ذلك غير متاح لأن السلطات الألمانية مهتمة بتوزيع العبء على مناطق مختلفة لضمان توافر الخدمات والتسهيلات. الخائفون من حرب طويلة يحلمون بتعليم أبنائهم باللغة الأوكرانية لكن ذلك صعب. يتساءلون عن مصير السنوات الدراسية إذا ألحقوا صغارهم بمدارس ألمانية.
طلبت المسؤولة عن المركز عدم الاتصال بالوافدين ثم اكتفت بمنع تصوير الفيديوهات. أحد المتطوعين المعنيين باستقبال اللاجئين لفت إلى أن عدد الواصلين إلى أوكرانيا اقترب من ستمائة ألف لاجئ. قال إن معدل الواصلين يومياً يتراوح ما بين ألف وألفين في حين كان ارتفع في بدايات الحرب إلى عشرات الآلاف يومياً. أضاف أن معظم الذين وصلوا يعتقدون أن إقامتهم ستكون قصيرة بانتظار عودتهم إلى بلادهم، لكن التجارب السابقة تؤكد صعوبة الجزم في هذه المواضيع، خصوصاً إذا تبين لاحقاً أن حجم الأضرار التي لحقت بالأماكن السكنية والبنية التحتية واسع كما يتردد. أكد أن السلطات تبذل كل ما في وسعها لتوفير الإيواء والغذاء والعناية الطبية، مشيراً إلى ارتفاع عدد المقيمين في برلين وميونيخ وكولون. ولفت إلى صعوبة إضافية تتمثل في أن العملة الأوكرانية غير قابلة للتحويل في الوقت الراهن.
في قاعة قريبة وبانتظار التوجه إلى مراكز الإيواء يتوزع الواصلون على طاولات ويتناولون الطعام والمشروبات.

طابور من اللاجئين بانتظار التسجيل في محطة قطارات برلين (أ.ب)

صوفي شابة في الحادية والعشرين. جاءت من مدينة خيرسون الواقعة على البحر الأسود في جنوب أوكرانيا. لم تصدق في البداية أن الحرب ستنشب وستطول. قالت إنها انتظرت في الأيام الأولى مراهنة أن يتدخل العالم لوقف الاجتياح الروسي. روت كيف أن القنابل «لم تستهدف فقط المراكز العسكرية، بل انهمرت في كل اتجاه، ما جعل الحياة جحيماً». لا ماء ولا كهرباء واندلعت حرائق كثيرة في الأبنية. نفدت كميات الغذاء وصارت الشوارع مقفرة ولم يبق غير الفرار. وهذا ما حصل.
تقول صوفي إنها تشك في احتمال عودة قريبة «لأن العيش في ظل الاحتلال الروسي مستحيل». تنهمر دموعها وتستخدم في وصف الجنود الروس عبارات مفرطة في القسوة بينها «وحوش».
لارينا، رفيقة صوفي في جامعة خيرسون وفي رحلة اللجوء، تقول إن العودة إلى أوكرانيا حتمية، مشيرة إلى أن الأوكرانيين لن يستسلموا، ويعدون أنفسهم لمقاومة واسعة لإرغام الروس على المغادرة. تقول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «خدع العالم بأسره» وتصفه بأنه «إرهابي يسعى إلى تركيع أوكرانيا مقدمة لتركيع دول أخرى. وعلى العالم أن يوقفه». تحمل بشدة على الجنود الروس وتتهمهم بارتكاب «فظاعات في حق النساء والأطفال». وتقول إن الطيران الروسي قصف مستشفيات ومدارس لأنه أراد جعل المناطق غير صالحة للحياة.
تبدو لارينا كأنها تتمسك بخيط أمل، حين تؤكد أن «الجنود الأوكرانيين يقاتلون بشجاعة لكن ليس لديهم ما يكفي من الأسلحة». أشادت بالدعم الغربي لبلادها وقالت إنها تتطلع إلى المزيد منه، وشكرت ألمانيا على المساعدات التي تقدمها للاجئين وحسن المعاملة. قبل أن تعود لتؤكد أن الأوكرانيين لا ينوون الاستسلام «مهما كان الثمن»، لافتة إلى أن بلداناً أخرى ستواجه مصير أوكرانيا إن لم يردع العالم الرئيس الروسي «الذي يحن إلى أيام الاتحاد السوفياتي». تبتسم حين تسألها عن «النازيين» الذين جاء الجيش الروسي لاجتثاثهم، وتقول: «هذا التضليل هدفه تبرير الحرب. في أوكرانيا، كما في بلدان أوروبية، مجموعات من اليمين المتطرف ليست موجودة في الحكم أو القرار. لم تبادر أوكرانيا إلى شن الحرب. روسيا هي التي بدأت وحسابات بوتين أبعد من أوكرانيا».
 

بكاء وصلاة وفرار

جاءت إيرينا كوفالينكو إلى برلين مع ابنتها وأمها وخالتها. كانت في كييف لدى انطلاق الحرب. توهمت أن القصة قد تنتهي سريعاً. انتقلت إلى قرية خارج العاصمة لتنتظر وقف الحرب. أمضت ثمانية أيام «في البكاء والصلاة والصراخ والهروب إلى الأماكن التي يعتقد أنها آمنة. استولى علينا الرعب حين رحنا نشاهد الأبنية المهدمة والبيوت المحروقة والشوارع الخالية وسط دوي الصواريخ والغارات. هرب النوم من عيوننا وانتابتنا مشاعر لا يمكنني التعبير عنها. مشينا على مدى ثلاثة أيام إلى أن تيسر لنا الانتقال إلى بولندا وسط الخوف من احتمالات الموت على الطرقات». تقول إن الحزن كان مخيماً على الأوكرانيين الذين احتشدوا في القطارات بحثاً عن بلاد بعيدة عن القنابل.
تبكي إيرينا وتلملم دموعها. فقدت «البيت والطمأنينة والبلاد الجميلة والغنية». تريد مدرسة لابنتها وتريد لها تعليماً بالأوكرانية. يخيفها أن المستقبل غامض. مستقبلها ومستقبل بلادها. لا تصدق أن أوكرانيا كانت مصدر تهديد لروسيا. تتحدث عن «أهوال ارتكبها الجيش الروسي»، وتقول إنها لن ترجع إلا بعد انسحابه.

«شارع الشمس»

تركت اللاجئين الأوكرانيين مع أوجاعهم وحقائبهم وقلت أزور، مع الزميلة راغدة بهنام، «شارع الشمس» الذي طغى عليه في السنوات الأخيرة الطابع السوري بعد تراجع طابعه التركي. تكاد تشعر أنك في دمشق. حلويات وفلافل وشاورما ولحم حلال وملوخية ومحلات ثياب وبسطات لبيع الخضر. يقصد السوريون هذا الحي للتبضع لأن أسعاره أفضل من الأحياء الأخرى. لافتات بالعربية وعمال يرحبون بالعابرين.

جاء إيهاب سحاري من إدلب في «نوع من اللجوء». يقول: «كان المحل تركيا وصار ملكنا أنا وشقيقي. ماشي الحال. هناك من السوريين من عثر على عمل مستقر وهناك من ينتظر. الصغار الذين ولدوا هنا لا يتكلمون العربية إجمالاً. هربنا من الحرب. المهم أن لا تلحق بنا إلى هنا بسبب أوكرانيا». أضاف أن «الحرب في أوكرانيا رفعت الأسعار. اشتد الطلب على الطحين والزيت والسكر. أتعاطف مع الأوكرانيين، فقد ذقنا مرارة أن يخسر المرء بلاده وتدمر. حين قلنا إن الطيران الروسي دمر بلادنا لم يكن هناك من يريد أن يسمع. أولاد عمي قتلوا بفعل الغارات الروسية التي استهدفت أيضاً المدارس والمستشفيات وحتى الميدانية منها. مسؤولية ما لحق بسوريا تقع على عاتق إيران وروسيا وحزب الله. لا أفكر حالياً في العودة خصوصاً أنني من إدلب. النظام الحالي مجرد واجهة لإرادة روسيا وإيران. أتمنى أن لا يصل الأوكرانيون إلى ما وصلنا إليه».
شعر بالامتنان تجاه البلد الذي استضافهم. قال: «كتر خيرهم (الألمان). ليسوا سيئين. أعطونا ما لم نحصل عليه في بلادنا. أعرف ما يذكر في وسائل التواصل الاجتماعي عن أن ألمانيا تعامل الأوكرانيين أفضل مما عاملت السوريين. أنا لا أستغرب إذا حصل شيء من ذلك. الأوكرانيون أقرب إلى الألمان في الثقافة والدين والجغرافيا. شيء طبيعي. لو كنا مكانهم لفعلنا الشيء نفسه».

إيهاب سحاري الفار من إدلب لا يتمنى للأوكرانيين مصير السوريين (الشرق الأوسط)

تابعنا جولتنا في الحي العربي. من نافذة مطعم «الدمشقي»، يطل حسام زيدان تشاركه رائحة الشاورما. فلسطيني من مخيم اليرموك. جاء في 2015 بعدما عاش عامين في المخيم المحاصر. سلك طريق تركيا واليونان وانتهى به المطاف في ألمانيا. قال: «أنا عامل في المطعم. الشغل جيد. لا أفكر في العودة. المخيم دمر تماماً. وكل أقاربي باتوا هنا. يتعرض الأوكرانيون لظلم شبيه بالذي لحق بالسوريين. قلبياً أتمنى أن ينتصر الأوكرانيون. روسيا كانت لها يد فيما حدث في سوريا والآن في أوكرانيا. هناك كلام عن معاملة أفضل للأوكرانيين، لكننا لا ننسى أن هذه البلاد استقبلتنا».

فر حسام زيدان من مخيم اليرموك بدمشق واحتضنته ألمانيا (الشرق الأوسط)

في طريق العودة إلى الفندق، شاهدت علماً أوكرانياً يرفرف. شاب أوكراني يجلس على مقربة منه. لا يريد نشر اسمه أو صورته. والسبب بسيط أنه عائد إلى بلاده بعدما عثر على مكان آمن لأمه وشقيقته. والده رفض المغادرة. قال إنه لا يقبل أن يترك أرضه ويفضل أن يموت فيها. وهو عائد للمشاركة في مقاومة يتوقع أن تكون شرسة ومكلفة. يرى أن العالم مسؤول عما حل بأوكرانيا لأنه لم يتصرف بحزم حين استرجع بوتين القرم في 2014. يصف الرئيس الروسي بأنه «ستالين هذا القرن» و«شديد الخطورة» على بلاده وجيرانها والعالم. يتحدث عن «ضربات موجعة» وجهها الجيش الأوكراني إلى الجيش الروسي. يقول إنه إذا قبل العالم بتفكيك أوكرانيا، فإن دولاً أخرى ستصبح لقمة سائغة أمام جيرانها الأقوياء.
قال الشاب إن المنطق الذي يستخدمه بوتين مخيف. يتذرع بمخاوف لا أساس لها ليملي على دولة مجاورة مستقلة السياسات التي يجب أن تنتهجها. يستغرب «كيف يسمح بوتين لنفسه أن يعتبر أوكرانيا دولة غير موجودة». أعرب عن اعتقاده أن حلف «الناتو» لا يرغب أصلاً في ضم أوكرانيا إلى صفوفه بسبب نزاعها مع روسيا حول القرم والمناطق التي أعلنت استقلالها عن سلطة كييف. واعتبر أن روسيا «لا تريد أوكرانيا مستقلة بل تابعة لها. وبعدما فشلت في ترتيب انقلاب داخلي للمجيء بسلطة موالية لها، لجأت إلى الحرب لزعزعة استقرار أوكرانيا والاستيلاء على بعض أراضيها».
في المقهى، سألني العامل التركي إن كنت سائحاً فاغتنمت المناسبة للتحدث إليه. قال إنه يقيم في برلين منذ ثمانية عشر عاماً ويزور بلاده الأصلية بين وقت وآخر. استوقفني قوله إنه شكر الله أن الاحتكاكات التي حصلت في سوريا لم تؤد إلى اشتباك بين روسيا وتركيا لأنه كان يمكن أن يكون أخطر من المواجهة الروسية - الأوكرانية. أبدى تعاطفه مع المدنيين الهاربين من نيران الحرب وختم حديثه بالقول إن «المشكلة الكبرى في هذا العالم هي أن تكون ضعيفاً وجاراً لقوي».
نزل الليل على برلين المنشغلة ليس فقط باستقبال اللاجئين، بل أيضاً بالمشهد الأوروبي الجديد. عاد الخوف إلى القارة. لم يعد الإرهاب هو المشكلة هذه المرة مصدر الخوف هو روسيا التي لا تستطيع ألمانيا الاستغناء عن الغاز الوافد منها. فجأة ترددت في أرجاء الفندق أصوات مواويل عربية. خرجت لأستطلع فرأيت عروساً بثوبها الأبيض وقربها العريس والأقارب. عرس سوري على بعد أمتار من بوابة برندنبرغ، أي قرب المكان الذي كان فيه جدار برلين قبل أن يتوارى. فجأة انعقدت حلقة الدبكة وانطلقت الزغاريد. مشهد يشبه تماماً تلك المشاهد التي تتكرر في دمشق، لكنه عرس في المنفى لسوريين استقالا من بلدهما أو استقال منهما.

في السنوات الأولى لوصولهم إلى بلد اللجوء، يعاند الواصلون محاولين الاحتفاظ بتراثهم وأغانيهم وأسلوب حياتهم الذي اعتادوه في البلدان التي أرغموا على تركها. تصبح هذه التقاليد الجسر الأخير الذي يربطهم ببلادهم السابقة. لكن الوقت يبدل كل شيء. غداً يذهب أطفالهم إلى المدارس ويتعلمون بلغة أخرى ويحفظون مواويل البلد الجديد وينخرطون في أسلوب حياة مختلف. هذا يصدق على السوريين وسيصدق لاحقاً على الأوكرانيين.

 

جيان عمر: القرار الأوروبي سهّل الاحتضان الألماني للأوكرانيين

جيان عمر شاهد لا بد من اللجوء إليه في الحديث عن برلين واللاجئين. جاء الشاب الكردي السوري المولود في القامشلي في 1985 طالباً إلى ألمانيا. في 2012، تحول إلى لاجئ، بعدما رفضت السفارة السورية تجديد جواز سفره بسبب نشاطه السياسي المعارض للنظام في دمشق. يعيش منذ أكثر من عشر سنوات في برلين، وهو اليوم عضو في برلمانها، والمتحدث في حزب «الخضر» عن قضايا الهجرة واللجوء والتجنيس.
قال جيان إن المجتمع الألماني تعامل بانفتاح كبير مع موجة النزوح الأوكرانية، وأشار إلى أنه شاهَدَ في الأيام الأولى عدداً من الألمان يعرضون على الواصلين الإقامة في بيوتهم بانتظار العثور على مقر ثابت. ذكر أيضاً أن بعض العائلات الألمانية حملت مساعدات لتستقبل بها الفارّين من الحرب الروسية.

جيان عمر خلال جلسة لبرلمان برلين الشهر الماضي (حزب الخضر الألماني)

ولفت إلى أن قرار الاتحاد الأوروبي باستقبال الأوكرانيين، وفق معايير الهجرة الجماعية من دول الحرب، سهّل منح الإقامات للوافدين، علاوة على تسهيلات أخرى. ولفت إلى أن القرار الأوروبي اتُّخذ بالإجماع، في حين أن بعض الدول، وبينها بولندا والمجر، عارضت هذه الصيغة حين طُرِحت بشأن تدفق اللاجئين السوريين في 2015.
لاحظ أن بعض وسائل التواصل الاجتماعي أوردت انتقادات لما اعتبرته تفضيلاً للاجئين الأوروبيين على الوافدين من الشرق الأوسط، لكنه لاحظ أيضاً أن نشطاء سوريين وأوكرانيين نظموا مظاهرات مشتركة ضد الحرب والدور الروسي في سوريا وأوكرانيا. ولفت إلى قلق الأوروبيين من عودة الحرب إلى قارتهم، وإلى انقسامات في الرأي العام حول المدى الذي يمكن الذهاب إليه في تسليح أوكرانيا من دون الانخراط مباشرة في النزاع.


مقالات ذات صلة

«عملية حلب» قلبت الوضع الميداني لصالح تركيا بمواجهة روسيا وإيران

المشرق العربي لقاء بين داود أوغلو عندما كان رئيساً لوزراء تركيا والأسد في دمشق عام 2016 (أرشيفية)

«عملية حلب» قلبت الوضع الميداني لصالح تركيا بمواجهة روسيا وإيران

يتفق خبراء ومحللون على أن تركيا تبدو الآن، ومع التغير بالوضع الميداني نتيجة عملية المعارضة المسلحة في حلب، هي اللاعب الرئيسي في سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شمال افريقيا تصاعد الدخان فوق المباني بعد قصف جوي، خلال اشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في الخرطوم 1 مايو 2023 (رويترز)

6 قتلى في قصف لـ«الدعم السريع» على مخيم للنازحين في شمال دارفور

قُتل 6 أشخاص على الأقل في قصف نفذته «قوات الدعم السريع» طال مخيماً للنازحين في شمال دارفور بغرب السودان، وفق ما أفاد ناشطون الاثنين.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
المشرق العربي الطيران الروسي كثف من هجماته في إدلب مع تقدم المعارضة (رويترز)

سوريو تركيا يترقبون الأوضاع للعودة إلى بلدهم

شهدت الساعات الأخيرة اتصالات مكثفة من جانب تركيا بشأن التطورات في سوريا وتقدم قوات «هيئة تحرير الشام» والفصائل الداعمة لها وبينها فصائل موالية لأنقرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا أولاد من اللاجئين الروهينغا يلعبون داخل مخيم للاجئين في بنغلادش (رويترز)

إنقاذ 100 لاجئ من الروهينغا من المياه قبالة إندونيسيا

أُنقذ أكثر من مائة من اللاجئين الروهينغا بينهم نساء وأطفال بعد غرق مركبهم قبالة سواحل إندونيسيا.

شمال افريقيا مصر تستعرض تجربتها في علاج الوافدين من «فيروس سي» خلال ورشة عمل بالتعاون مع المركز الأوروبي لعلاج الأمراض والأوبئة (وزارة الصحة المصرية)

مصر تعالج الوافدين ضمن مبادرات قومية رغم «ضغوط» إقامتهم

لم تمنع الضغوط والأعباء المادية الكبيرة التي تتكلفها مصر جراء استضافة ملايين الوافدين، من علاج الآلاف منهم من «فيروس سي»، ضمن مبادرة رئاسية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.