برلين... حقائب أوكرانية ومرارات سورية وخيط روسي

«الشرق الأوسط» زارت الحضن الألماني حيث يلتقي اللاجئون باللاجئين

إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)
إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)
TT

برلين... حقائب أوكرانية ومرارات سورية وخيط روسي

إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)
إيرينا كوفالينكو (يمين) مشت 3 أيام من كييف إلى بولندا (الشرق الأوسط)

كانت المدرسة قريبة من المخيم فأخذونا إليه. تدربت باكراً على أوجاع اللاجئين. شاهدت المسنين الذين ضاعف التهجير التجاعيد في وجوههم. شممت رائحة يأسهم من فرط الانتظار. عاينت العائلات المحتشدة في غرف مرتجلة تشبه الخيام. ورأيت الأولاد يلعبون في الأزقة حيث تتدفق مياه غير صحية. قرأت حسرة الأمهات يكابدن لإسكات جوع الصغار وينتظرن الإعاشة من المنظمات الدولية. واستمعت إلى روايات الذين احتفظوا بمفاتيح المنازل التي هجروها حالمين بالعودة إلى تحريك المفاتيح في أقفالها. قبل ثلاثة أعوام عدت إلى المخيم الفلسطيني المقيم على أطراف صيدا في جنوب لبنان. أكل الصدأ المفاتيح واغتال حلم العودة. أجيال تراكمت حزينة في وطن صغير اسمه المخيم. الشبان الذين عثروا على فرصة للنجاة منه ألقوا بأنفسهم في بلاد الله الواسعة. ومن لم يجرؤ على المغامرة يهدر أيامه في المخيم بعدما أقلع عن الرهان على الضمير العالمي وقرارات الأمم المتحدة. لا غرابة أن تلازم هذه المشاهد الموجعة الصحافي الوافد من الشرق الأوسط الرهيب وهو منطقة منجبة للاجئين. وشاءت المهنة أن ألتقي لاحقاً بلاجئين فروا من أفغانستان أو العراق أو سوريا أو إثيوبيا.

فروا من وطأة قساة الداخل أو قساة الخارج. وفروا من الجفاف والعطش والحروب الأهلية التي لا تنتهي. في سبتمبر (أيلول) 2015، تدفق السوريون عبر حدود ألمانيا. اتخذت المستشارة أنجيلا ميركل قراراً تاريخياً شجاعاً. شرعت الأبواب أمام الذين تركوا كل شيء وجاءوا. تركوا السقوف التي ترد المطر. والجدران التي تحمي. والأرض التي كانت ترد الجوع. ذهبت يومها إلى برلين واستمعت إلى قصص راعبة. لا أستطيع نسيان ما قاله لي شاب سوري استقل أحد «قوارب الموت» للوصول إلى الأرض الأوروبية. سألته عن شعوره بعدما استقبلته ألمانيا، فقال: «الوضع ممتاز... ثلاث وجبات ولا بعث هنا ولا داعش». ما أوجع أن يحتفي هارب من وطنه بثلاث وجبات يوفرها مركز اللجوء في بلاد بعيدة وغريبة. لا غرابة أن تضخ دولنا الفاشلة وبلداننا المتصدعة سيلاً من اللاجئين في عروق العالم. لكن لم نكن نتوقع أن تستيقظ أوروبا ذات يوم وتنهمك بإيواء قوافل من اللاجئين الأوروبيين أطلقها الجرح الأوكراني الذي هز القارة المستقرة وأيقظ شياطينها القديمة. دفعني الفضول الصحافي إلى العودة إلى برلين للقاء اللاجئين الجدد ومن دون تناسي أبناء الموجة السابقة.
في المحطة المركزية للقطارات في برلين تنتظم صفوف الواصلين حديثاً. يجدون في استقبالهم عدداً من الموظفين والمتطوعين. أغلبية المنتظرين من النساء والأولاد. اكتفى عدد من الرجال بإيصال العائلات إلى مكان آمن واختاروا العودة إلى أوكرانيا للقتال أو «المساهمة في تعزيز صمود السكان».

لا يبقى إلا حقيبة

قافلة لاجئين وقافلة حقائب. ما أصعب أن لا يبقى لك من بلادك إلا حقيبة وأن تلقي بنفسك معها في بلاد أخرى منتظراً أن يتكرم المضيفون عليك بعنوان، وإن مؤقتاً. مشهد الحقائب يكسر القلب. كأن الحقيبة نعش يحمل جثة الوطن ورائحة التراب ورماد الذكريات. تذكرت الشاعر الكبير محمود درويش الذي كان يذهب في غنائيته ومخيلته إلى حيث يتعذر الذهاب. «وطني ليس حقيبة، وأنا لست المسافر».
في الرحلة الأوكرانية لا وجود لقوارب الموت. القطارات هي وسيلة الفرار. أبرز المحطات بولندا ومنها بالقطار إلى عناوين أخرى بينها ألمانيا. في عيون المنتظرين قلق من لا يعلم ما ستحمله الأيام. ابتعدوا عن الصواريخ والقنابل الروسية لكنهم لا يعرفون كم سيطول الغياب وماذا تخبئ أيام الغربة. يحاولون إقناع أنفسهم أن هذه الرحلة القسرية لن تطول. بينهم من يراهن على تطور دولي يفرض وقف الحرب. وبينهم من يتزايد اقتناعه أن حرباً طويلة قد بدأت وأن أبواب العودة لن تفتح ما لم تخسرها روسيا.
يفضل معظم الأوكرانيين الوافدين البقاء في برلين. لكن ذلك غير متاح لأن السلطات الألمانية مهتمة بتوزيع العبء على مناطق مختلفة لضمان توافر الخدمات والتسهيلات. الخائفون من حرب طويلة يحلمون بتعليم أبنائهم باللغة الأوكرانية لكن ذلك صعب. يتساءلون عن مصير السنوات الدراسية إذا ألحقوا صغارهم بمدارس ألمانية.
طلبت المسؤولة عن المركز عدم الاتصال بالوافدين ثم اكتفت بمنع تصوير الفيديوهات. أحد المتطوعين المعنيين باستقبال اللاجئين لفت إلى أن عدد الواصلين إلى أوكرانيا اقترب من ستمائة ألف لاجئ. قال إن معدل الواصلين يومياً يتراوح ما بين ألف وألفين في حين كان ارتفع في بدايات الحرب إلى عشرات الآلاف يومياً. أضاف أن معظم الذين وصلوا يعتقدون أن إقامتهم ستكون قصيرة بانتظار عودتهم إلى بلادهم، لكن التجارب السابقة تؤكد صعوبة الجزم في هذه المواضيع، خصوصاً إذا تبين لاحقاً أن حجم الأضرار التي لحقت بالأماكن السكنية والبنية التحتية واسع كما يتردد. أكد أن السلطات تبذل كل ما في وسعها لتوفير الإيواء والغذاء والعناية الطبية، مشيراً إلى ارتفاع عدد المقيمين في برلين وميونيخ وكولون. ولفت إلى صعوبة إضافية تتمثل في أن العملة الأوكرانية غير قابلة للتحويل في الوقت الراهن.
في قاعة قريبة وبانتظار التوجه إلى مراكز الإيواء يتوزع الواصلون على طاولات ويتناولون الطعام والمشروبات.

طابور من اللاجئين بانتظار التسجيل في محطة قطارات برلين (أ.ب)

صوفي شابة في الحادية والعشرين. جاءت من مدينة خيرسون الواقعة على البحر الأسود في جنوب أوكرانيا. لم تصدق في البداية أن الحرب ستنشب وستطول. قالت إنها انتظرت في الأيام الأولى مراهنة أن يتدخل العالم لوقف الاجتياح الروسي. روت كيف أن القنابل «لم تستهدف فقط المراكز العسكرية، بل انهمرت في كل اتجاه، ما جعل الحياة جحيماً». لا ماء ولا كهرباء واندلعت حرائق كثيرة في الأبنية. نفدت كميات الغذاء وصارت الشوارع مقفرة ولم يبق غير الفرار. وهذا ما حصل.
تقول صوفي إنها تشك في احتمال عودة قريبة «لأن العيش في ظل الاحتلال الروسي مستحيل». تنهمر دموعها وتستخدم في وصف الجنود الروس عبارات مفرطة في القسوة بينها «وحوش».
لارينا، رفيقة صوفي في جامعة خيرسون وفي رحلة اللجوء، تقول إن العودة إلى أوكرانيا حتمية، مشيرة إلى أن الأوكرانيين لن يستسلموا، ويعدون أنفسهم لمقاومة واسعة لإرغام الروس على المغادرة. تقول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «خدع العالم بأسره» وتصفه بأنه «إرهابي يسعى إلى تركيع أوكرانيا مقدمة لتركيع دول أخرى. وعلى العالم أن يوقفه». تحمل بشدة على الجنود الروس وتتهمهم بارتكاب «فظاعات في حق النساء والأطفال». وتقول إن الطيران الروسي قصف مستشفيات ومدارس لأنه أراد جعل المناطق غير صالحة للحياة.
تبدو لارينا كأنها تتمسك بخيط أمل، حين تؤكد أن «الجنود الأوكرانيين يقاتلون بشجاعة لكن ليس لديهم ما يكفي من الأسلحة». أشادت بالدعم الغربي لبلادها وقالت إنها تتطلع إلى المزيد منه، وشكرت ألمانيا على المساعدات التي تقدمها للاجئين وحسن المعاملة. قبل أن تعود لتؤكد أن الأوكرانيين لا ينوون الاستسلام «مهما كان الثمن»، لافتة إلى أن بلداناً أخرى ستواجه مصير أوكرانيا إن لم يردع العالم الرئيس الروسي «الذي يحن إلى أيام الاتحاد السوفياتي». تبتسم حين تسألها عن «النازيين» الذين جاء الجيش الروسي لاجتثاثهم، وتقول: «هذا التضليل هدفه تبرير الحرب. في أوكرانيا، كما في بلدان أوروبية، مجموعات من اليمين المتطرف ليست موجودة في الحكم أو القرار. لم تبادر أوكرانيا إلى شن الحرب. روسيا هي التي بدأت وحسابات بوتين أبعد من أوكرانيا».
 

بكاء وصلاة وفرار

جاءت إيرينا كوفالينكو إلى برلين مع ابنتها وأمها وخالتها. كانت في كييف لدى انطلاق الحرب. توهمت أن القصة قد تنتهي سريعاً. انتقلت إلى قرية خارج العاصمة لتنتظر وقف الحرب. أمضت ثمانية أيام «في البكاء والصلاة والصراخ والهروب إلى الأماكن التي يعتقد أنها آمنة. استولى علينا الرعب حين رحنا نشاهد الأبنية المهدمة والبيوت المحروقة والشوارع الخالية وسط دوي الصواريخ والغارات. هرب النوم من عيوننا وانتابتنا مشاعر لا يمكنني التعبير عنها. مشينا على مدى ثلاثة أيام إلى أن تيسر لنا الانتقال إلى بولندا وسط الخوف من احتمالات الموت على الطرقات». تقول إن الحزن كان مخيماً على الأوكرانيين الذين احتشدوا في القطارات بحثاً عن بلاد بعيدة عن القنابل.
تبكي إيرينا وتلملم دموعها. فقدت «البيت والطمأنينة والبلاد الجميلة والغنية». تريد مدرسة لابنتها وتريد لها تعليماً بالأوكرانية. يخيفها أن المستقبل غامض. مستقبلها ومستقبل بلادها. لا تصدق أن أوكرانيا كانت مصدر تهديد لروسيا. تتحدث عن «أهوال ارتكبها الجيش الروسي»، وتقول إنها لن ترجع إلا بعد انسحابه.

«شارع الشمس»

تركت اللاجئين الأوكرانيين مع أوجاعهم وحقائبهم وقلت أزور، مع الزميلة راغدة بهنام، «شارع الشمس» الذي طغى عليه في السنوات الأخيرة الطابع السوري بعد تراجع طابعه التركي. تكاد تشعر أنك في دمشق. حلويات وفلافل وشاورما ولحم حلال وملوخية ومحلات ثياب وبسطات لبيع الخضر. يقصد السوريون هذا الحي للتبضع لأن أسعاره أفضل من الأحياء الأخرى. لافتات بالعربية وعمال يرحبون بالعابرين.

جاء إيهاب سحاري من إدلب في «نوع من اللجوء». يقول: «كان المحل تركيا وصار ملكنا أنا وشقيقي. ماشي الحال. هناك من السوريين من عثر على عمل مستقر وهناك من ينتظر. الصغار الذين ولدوا هنا لا يتكلمون العربية إجمالاً. هربنا من الحرب. المهم أن لا تلحق بنا إلى هنا بسبب أوكرانيا». أضاف أن «الحرب في أوكرانيا رفعت الأسعار. اشتد الطلب على الطحين والزيت والسكر. أتعاطف مع الأوكرانيين، فقد ذقنا مرارة أن يخسر المرء بلاده وتدمر. حين قلنا إن الطيران الروسي دمر بلادنا لم يكن هناك من يريد أن يسمع. أولاد عمي قتلوا بفعل الغارات الروسية التي استهدفت أيضاً المدارس والمستشفيات وحتى الميدانية منها. مسؤولية ما لحق بسوريا تقع على عاتق إيران وروسيا وحزب الله. لا أفكر حالياً في العودة خصوصاً أنني من إدلب. النظام الحالي مجرد واجهة لإرادة روسيا وإيران. أتمنى أن لا يصل الأوكرانيون إلى ما وصلنا إليه».
شعر بالامتنان تجاه البلد الذي استضافهم. قال: «كتر خيرهم (الألمان). ليسوا سيئين. أعطونا ما لم نحصل عليه في بلادنا. أعرف ما يذكر في وسائل التواصل الاجتماعي عن أن ألمانيا تعامل الأوكرانيين أفضل مما عاملت السوريين. أنا لا أستغرب إذا حصل شيء من ذلك. الأوكرانيون أقرب إلى الألمان في الثقافة والدين والجغرافيا. شيء طبيعي. لو كنا مكانهم لفعلنا الشيء نفسه».

إيهاب سحاري الفار من إدلب لا يتمنى للأوكرانيين مصير السوريين (الشرق الأوسط)

تابعنا جولتنا في الحي العربي. من نافذة مطعم «الدمشقي»، يطل حسام زيدان تشاركه رائحة الشاورما. فلسطيني من مخيم اليرموك. جاء في 2015 بعدما عاش عامين في المخيم المحاصر. سلك طريق تركيا واليونان وانتهى به المطاف في ألمانيا. قال: «أنا عامل في المطعم. الشغل جيد. لا أفكر في العودة. المخيم دمر تماماً. وكل أقاربي باتوا هنا. يتعرض الأوكرانيون لظلم شبيه بالذي لحق بالسوريين. قلبياً أتمنى أن ينتصر الأوكرانيون. روسيا كانت لها يد فيما حدث في سوريا والآن في أوكرانيا. هناك كلام عن معاملة أفضل للأوكرانيين، لكننا لا ننسى أن هذه البلاد استقبلتنا».

فر حسام زيدان من مخيم اليرموك بدمشق واحتضنته ألمانيا (الشرق الأوسط)

في طريق العودة إلى الفندق، شاهدت علماً أوكرانياً يرفرف. شاب أوكراني يجلس على مقربة منه. لا يريد نشر اسمه أو صورته. والسبب بسيط أنه عائد إلى بلاده بعدما عثر على مكان آمن لأمه وشقيقته. والده رفض المغادرة. قال إنه لا يقبل أن يترك أرضه ويفضل أن يموت فيها. وهو عائد للمشاركة في مقاومة يتوقع أن تكون شرسة ومكلفة. يرى أن العالم مسؤول عما حل بأوكرانيا لأنه لم يتصرف بحزم حين استرجع بوتين القرم في 2014. يصف الرئيس الروسي بأنه «ستالين هذا القرن» و«شديد الخطورة» على بلاده وجيرانها والعالم. يتحدث عن «ضربات موجعة» وجهها الجيش الأوكراني إلى الجيش الروسي. يقول إنه إذا قبل العالم بتفكيك أوكرانيا، فإن دولاً أخرى ستصبح لقمة سائغة أمام جيرانها الأقوياء.
قال الشاب إن المنطق الذي يستخدمه بوتين مخيف. يتذرع بمخاوف لا أساس لها ليملي على دولة مجاورة مستقلة السياسات التي يجب أن تنتهجها. يستغرب «كيف يسمح بوتين لنفسه أن يعتبر أوكرانيا دولة غير موجودة». أعرب عن اعتقاده أن حلف «الناتو» لا يرغب أصلاً في ضم أوكرانيا إلى صفوفه بسبب نزاعها مع روسيا حول القرم والمناطق التي أعلنت استقلالها عن سلطة كييف. واعتبر أن روسيا «لا تريد أوكرانيا مستقلة بل تابعة لها. وبعدما فشلت في ترتيب انقلاب داخلي للمجيء بسلطة موالية لها، لجأت إلى الحرب لزعزعة استقرار أوكرانيا والاستيلاء على بعض أراضيها».
في المقهى، سألني العامل التركي إن كنت سائحاً فاغتنمت المناسبة للتحدث إليه. قال إنه يقيم في برلين منذ ثمانية عشر عاماً ويزور بلاده الأصلية بين وقت وآخر. استوقفني قوله إنه شكر الله أن الاحتكاكات التي حصلت في سوريا لم تؤد إلى اشتباك بين روسيا وتركيا لأنه كان يمكن أن يكون أخطر من المواجهة الروسية - الأوكرانية. أبدى تعاطفه مع المدنيين الهاربين من نيران الحرب وختم حديثه بالقول إن «المشكلة الكبرى في هذا العالم هي أن تكون ضعيفاً وجاراً لقوي».
نزل الليل على برلين المنشغلة ليس فقط باستقبال اللاجئين، بل أيضاً بالمشهد الأوروبي الجديد. عاد الخوف إلى القارة. لم يعد الإرهاب هو المشكلة هذه المرة مصدر الخوف هو روسيا التي لا تستطيع ألمانيا الاستغناء عن الغاز الوافد منها. فجأة ترددت في أرجاء الفندق أصوات مواويل عربية. خرجت لأستطلع فرأيت عروساً بثوبها الأبيض وقربها العريس والأقارب. عرس سوري على بعد أمتار من بوابة برندنبرغ، أي قرب المكان الذي كان فيه جدار برلين قبل أن يتوارى. فجأة انعقدت حلقة الدبكة وانطلقت الزغاريد. مشهد يشبه تماماً تلك المشاهد التي تتكرر في دمشق، لكنه عرس في المنفى لسوريين استقالا من بلدهما أو استقال منهما.

في السنوات الأولى لوصولهم إلى بلد اللجوء، يعاند الواصلون محاولين الاحتفاظ بتراثهم وأغانيهم وأسلوب حياتهم الذي اعتادوه في البلدان التي أرغموا على تركها. تصبح هذه التقاليد الجسر الأخير الذي يربطهم ببلادهم السابقة. لكن الوقت يبدل كل شيء. غداً يذهب أطفالهم إلى المدارس ويتعلمون بلغة أخرى ويحفظون مواويل البلد الجديد وينخرطون في أسلوب حياة مختلف. هذا يصدق على السوريين وسيصدق لاحقاً على الأوكرانيين.

 

جيان عمر: القرار الأوروبي سهّل الاحتضان الألماني للأوكرانيين

جيان عمر شاهد لا بد من اللجوء إليه في الحديث عن برلين واللاجئين. جاء الشاب الكردي السوري المولود في القامشلي في 1985 طالباً إلى ألمانيا. في 2012، تحول إلى لاجئ، بعدما رفضت السفارة السورية تجديد جواز سفره بسبب نشاطه السياسي المعارض للنظام في دمشق. يعيش منذ أكثر من عشر سنوات في برلين، وهو اليوم عضو في برلمانها، والمتحدث في حزب «الخضر» عن قضايا الهجرة واللجوء والتجنيس.
قال جيان إن المجتمع الألماني تعامل بانفتاح كبير مع موجة النزوح الأوكرانية، وأشار إلى أنه شاهَدَ في الأيام الأولى عدداً من الألمان يعرضون على الواصلين الإقامة في بيوتهم بانتظار العثور على مقر ثابت. ذكر أيضاً أن بعض العائلات الألمانية حملت مساعدات لتستقبل بها الفارّين من الحرب الروسية.

جيان عمر خلال جلسة لبرلمان برلين الشهر الماضي (حزب الخضر الألماني)

ولفت إلى أن قرار الاتحاد الأوروبي باستقبال الأوكرانيين، وفق معايير الهجرة الجماعية من دول الحرب، سهّل منح الإقامات للوافدين، علاوة على تسهيلات أخرى. ولفت إلى أن القرار الأوروبي اتُّخذ بالإجماع، في حين أن بعض الدول، وبينها بولندا والمجر، عارضت هذه الصيغة حين طُرِحت بشأن تدفق اللاجئين السوريين في 2015.
لاحظ أن بعض وسائل التواصل الاجتماعي أوردت انتقادات لما اعتبرته تفضيلاً للاجئين الأوروبيين على الوافدين من الشرق الأوسط، لكنه لاحظ أيضاً أن نشطاء سوريين وأوكرانيين نظموا مظاهرات مشتركة ضد الحرب والدور الروسي في سوريا وأوكرانيا. ولفت إلى قلق الأوروبيين من عودة الحرب إلى قارتهم، وإلى انقسامات في الرأي العام حول المدى الذي يمكن الذهاب إليه في تسليح أوكرانيا من دون الانخراط مباشرة في النزاع.


مقالات ذات صلة

«عملية حلب» قلبت الوضع الميداني لصالح تركيا بمواجهة روسيا وإيران

المشرق العربي لقاء بين داود أوغلو عندما كان رئيساً لوزراء تركيا والأسد في دمشق عام 2016 (أرشيفية)

«عملية حلب» قلبت الوضع الميداني لصالح تركيا بمواجهة روسيا وإيران

يتفق خبراء ومحللون على أن تركيا تبدو الآن، ومع التغير بالوضع الميداني نتيجة عملية المعارضة المسلحة في حلب، هي اللاعب الرئيسي في سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شمال افريقيا تصاعد الدخان فوق المباني بعد قصف جوي، خلال اشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في الخرطوم 1 مايو 2023 (رويترز)

6 قتلى في قصف لـ«الدعم السريع» على مخيم للنازحين في شمال دارفور

قُتل 6 أشخاص على الأقل في قصف نفذته «قوات الدعم السريع» طال مخيماً للنازحين في شمال دارفور بغرب السودان، وفق ما أفاد ناشطون الاثنين.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
المشرق العربي الطيران الروسي كثف من هجماته في إدلب مع تقدم المعارضة (رويترز)

سوريو تركيا يترقبون الأوضاع للعودة إلى بلدهم

شهدت الساعات الأخيرة اتصالات مكثفة من جانب تركيا بشأن التطورات في سوريا وتقدم قوات «هيئة تحرير الشام» والفصائل الداعمة لها وبينها فصائل موالية لأنقرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا أولاد من اللاجئين الروهينغا يلعبون داخل مخيم للاجئين في بنغلادش (رويترز)

إنقاذ 100 لاجئ من الروهينغا من المياه قبالة إندونيسيا

أُنقذ أكثر من مائة من اللاجئين الروهينغا بينهم نساء وأطفال بعد غرق مركبهم قبالة سواحل إندونيسيا.

شمال افريقيا مصر تستعرض تجربتها في علاج الوافدين من «فيروس سي» خلال ورشة عمل بالتعاون مع المركز الأوروبي لعلاج الأمراض والأوبئة (وزارة الصحة المصرية)

مصر تعالج الوافدين ضمن مبادرات قومية رغم «ضغوط» إقامتهم

لم تمنع الضغوط والأعباء المادية الكبيرة التي تتكلفها مصر جراء استضافة ملايين الوافدين، من علاج الآلاف منهم من «فيروس سي»، ضمن مبادرة رئاسية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.