لسكان الجزيرة العربية ولع بالصحراء وبكل من يعشقها مثلهم، ولهذا تجد أسماء الرحالة القدامى محفورة في ذاكرة المعمرين في السعودية والخليج وغيرهما، سمعوا بهم من أجدادهم وقرأوا عنهم الكثير. وكيف لا فهؤلاء الرحالة الذين قدم بعضهم موفدين رسميين من قبل بلادهم، والبعض الآخر عشق السفر عبر رمال الصحراء، كتبوا عن مشاهداتهم وبعضهم التقط الصور الفوتوغرافية ليوثقوا بها تاريخاً اجتماعياً وثقافياً للمملكة العربية السعودية في مراحلها الأولى.
تلك المشاهد من الحياة في الصحراء العربية كانت على موعد مع زوار المعرض الذي نظمته السفارة السعودية بلندن، وأقيم في مقر الجمعية الجغرافية والذي افتتح يوم الأربعاء الماضي تحت عنوان «شكسبير الآخر»، وعبره عرضت مجموعة من الصور النادرة من مقتنيات الجمعية التقطها النقيب ويليام شكسبير (1878 - 1915) خلال زيارته للجزيرة العربية وعمله بها. شكسبير زار الجزيرة العربية موفداً من حكومة بلاده، ونجح في تكوين علاقة صداقة مع الملك عبد العزيز آل سعود، سجل من خلالها لمحات من حياة الملك المؤسس وأبنائه ووثّق لمراحل تأسيس المملكة العربية السعودية.
المعرض على الرغم من حجمه الصغير نسبياً فإنه احتوى على نفحات تاريخية ولقطات فوتوغرافية بارعة نجح من خلالها الكابتن شكسبير من نقل الإحساس باتساع الصحراء وكرمها، فهي تفتح كثبانها الرملية كما الأذرع تستقبل بها كل زائر بكل ترحاب.
شكسبير الآخر، كما يسميه عنوان المعرض لتفرقته عن الشاعر ويليام شكسبير، امتلك موهبة التصوير الفوتوغرافي، وقام خلال رحلاته باستكشاف وتصوير مساحات كبيرة من الجزيرة العربية في أوائل القرن التاسع عشر، حيث قام بسبع رحلات إلى شمال الجزيرة العربية، وذلك لرسم خريطة لشبه الجزيرة، نعرف من المعلومات المتاحة لنا أن تلك الرحلات كانت تستغرق أسابيع، وكان يأخذ معه في رحلاته جمله الذي أطلق عليه اسم «ذهبية» وصقره، إضافة إلى الكاميرا التي سجل بها مشاهد نادرة من الصحراء.
ولكن الكابتن شكسبير لم يكن مسافراً عادياً يمر مرور العابرين على سكان البلاد التي مر بها، بل عُرف عنه اهتمامه بتعلم العربية والآداب المحلية.
العرض قدّم عدداً من الصور الأيقونية، مثل صورة تبدو فيها قافلة من الجمال والمقاتلين على ظهورها يحملون الرايات الخفاقة، هناك صورة أخرى توقف عندها عدد كبير من الزوار ودار حديث حول ما إذا كانت مرسومة أو هي صورة فوتوغرافية، وفيها يبدو الكابتن شكسبير على ظهر جمله «ذهبية»، بينما وقف «شلوى» الصقر الخاص به على يده، وبدا أحد الخدم وهو يمسك بلجام الجمل، وربما يمكن رؤية الصور على أنها صورة شخصية للكابتن شكسبير تتميز بالرومانسية سواء من حيث الأوضاع التي اتخذها كل من الكابتن وخادمه وحتى بطريقة عرض الصقر.
يظهر الملك عبد العزيز وأبناؤه في عدد من الصور المعروضة، ونعرف من خلال التعليقات المصاحبة للصور أن شكسبير والملك عبد العزيز التقيا في الكويت على مائدة الشيخ مبارك الصباح، الذي أقام مأدبة على شرف الملك عبد العزيز، حضرها الكابتن شكسبير، بعدها قدم شكسبير الدعوة للملك عبد العزيز لتناول العشاء معه في سكنه اليوم التالي، وكانت قائمة الطعام تتضمن لحم الضأن المشوي مع صلصة النعناع والبطاطس المحمرة مع الهليون المعلب. ومن الروايات التاريخية حول ذلك اليوم أن العلاقات توطدت بين الرجلين بفضل إجادة شكسبير للهجة النجدية ومعرفته بالصحراء، وروي أن المحادثة بينهما استمرت لساعات طويلة من الليل. في تلك الليلة سجل شكسبير في دفتر يومياته جملة عن الملك الشاب قال فيها: «عبد العزيز رجل مباشر وذو عقل متفتح، معروف عنه أنه رجل نبيل وكريم». ويسجل التاريخ أنه التقط أول صورة فوتوغرافية للملك عبد العزيز.
استمرت العلاقة الوطيدة بين الملك عبد العزيز وشكسبير بعد ذلك عبر رحلات صحراوية كانت تمتد لأيام، تشارك فيها الرجلان في هواية القنص، ثم تناول القهوة العربية والسمر على نيران المعسكر، وعلى ذكر القهوة، نرى واحدة من الصور المعروضة، حيث يجلس بعض الأشخاص على الرمال ربما أثناء استراحة خلال السفر، بينما يقوم أحدهم بصب القهوة.
المعرض يستمر حتى السادس من شهر يونيو (حزيران) المقبل.