صادق الصباح: الفن سلاح ناعم يعزز بناء الأوطان

قال لـ «الشرق الأوسط» إن فيلم «الهيبة» سيكشف عن هوية العدو الرئيسي لبطله

صادق الصباح مع تيم حسن
صادق الصباح مع تيم حسن
TT

صادق الصباح: الفن سلاح ناعم يعزز بناء الأوطان

صادق الصباح مع تيم حسن
صادق الصباح مع تيم حسن

يعترف صاحب شركة الإنتاج الفني صادق الصباح، بأن هذا العام حمل له مصاعب كثيرة مهنياً. ولكنه في المقابل يؤكد أنه شهد نهاية سعيدة، تماماً كما في الأفلام. عقبات كثيرة واجهته بينها ما تسبب في تأخير ولادة بعض إنتاجاته لموسم رمضان. كما عاش ساعات قلقة بعد خطف رئيس قسم المحاسبة في شركته صادق روللي، على طريق البقاع، حيث كان يصور مسلسل «بطلوع الروح».
ولكن لحظات النجاح التي حققها خلال العام الحالي غلبت بطبيعتها الإيجابية كل هذه العثرات. فهو وصل إلى العالمية بعدما أنجز بيع حقوق مسلسل «الهيبة» إلى شركة أجنبية. كما كرمه رئيس الجمهورية ميشال عون، عندما قلده وسام الأرز برتبة ضابط، وسطع نجمه مرة جديدة عندما أعلن الاتحاد العربي للمنتجين العرب عن تعيينه نائباً لرئيسه إبراهيم أبو ذكري. وجاء موسم الدراما الرمضانية ليعزز هذه النجاحات ويزيدها بريقاً. فحققت إنتاجاته أرقام متابعة قياسية، كما في «توبة» و«بطلوع الروح». اليوم يعمل على وضع اللمسات الأخيرة لمحطات أخرى مضيئة في مشواره، وبينها تصوير فيلم «الهيبة» السينمائي. والبقية تأتي ضمن إنتاجات ضخمة يحضر لها بين مصر ولبنان وسوريا ودول الخليج والمغرب العربي.
وفي سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط» يقول عن مواجهته للصعوبات التي يصادفها: «تعلمت خلال مسيرتي الطويلة، والعقبات التي تخللتها أن أواجهها بهدوء. فعملنا يرتكز على تفكيك العقبات وتذليلها. وأحضر مباشرة في الأوقات الصعبة، فأنا وفريق عملي ومساعدي، نكون دائماً تحت التصرف لحلها. لا شك أن حضوري على المستوى الشخصي يترك بأثره الطيب على الآخرين ويزودهم بالمعنويات، وحتى عن بعد أتابع وأراقب. وهذه السنة لم يتسن لي زيارة فرق العمل سوى لمرات قليلة، وأنا أعتذر منهم عن هذا التقصير. ولكن الواحد منا يبقى يتعلم الدروس في مسيرته رغم أن شركة (الصباح) تحتفل قريباً بيوبيلها الماسي».

«بطلوع الروح»
خارج السباق الرمضاني
عندما يتعلق الأمر بإنتاجاته، يكون الصباح دقيقاً بعرض تفاصيل الفكرة والوقوف على ردود الفعل تجاهها، فماذا عن «بطلوع الروح»، الذي أحدث فرقاً في الموسم الرمضاني، وتسبب في شوشرة دامت لأيام قليلة، بعد خطف المحاسب في شركته. يقول: «من أهداف شركتنا، تقديمي موضوعات تحاكي ظروفاً نعيشها في الوطن العربي. والتطرف الإسلامي واحد من هذه الموضوعات التي طبعت تاريخنا الحديث. اهتممت بالأمر وقررت التطرق إليه ولو أن هذا التنظيم انكفأ عن بلادنا. وكان الأهم هو الإسهام في القضاء على هذه الآفة بطريقة بسيطة وموضوعية وفيها العمق. كان تحدياً بحد ذاته صعباً ومكلفاً مادياً، لكنه في المقابل كان مكسباً من حيث الفكرة، ومهماً كي نكتشف النفاق المحيط بهذه الآفة». ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «الجميل في الموضوع أن كل من شارك في هذا العمل، بدءاً من المخرجة كاملة أبو ذكري مروراً بأبطاله منة شلبي، وإلهام شاهين، وأحمد السعدني وغيرهم، وضع في مكانه المناسب، فكانوا موحدين حول مسؤولية هذا المشروع. واخترنا لبنان لتصوير العمل، لأنه يتمتع بجغرافيا وتضاريس متنوعة من ناحية، ولأن العمل كان يتضمن تفاصيل من الصعب إنجازها في بلد غيره».
ويرى الصباح أن «بطلوع الروح» كان خارج المنافسة الرمضانية، لأن حلقاته أقل من غيره، كما أنه عُرض في الجزء الثاني من الشهر الفضيل، وله خصوصيته ورمزيته، ويحمل رسالة محددة، بحيث لا يمكن ضمه إلى أعمال أخرى.
وكانت استوديوهات تصوير خاصة قد بُنيت في منطقة البقاع، لتناسب بشوارعها وأزقتها وبيوتها وخصوصيتها سياق القصة. وأشرفت عليها الممثلة نغم لبس لتبدو شبيهة إلى حد كبير بمنطقة الرقة، حيث تدور أحداث العمل. كما صورت بعض المشاهد في منطقتي برج حمود ومارمخايل.
وعن عملية خطف المحاسب روللي يقول: «إن هذه الحادثة يمكن أن تحصل في أي مكان وزمان غير لبنان. فهو معتمد القبض في شركتي يحمل شنطته المليئة بالنقود ويتنقل بها هنا وهناك، كي يسدد فواتير طويلة لمطاعم وشركات وكومبارس وغيرهم من الأشخاص الذين نتعامل معهم. لكن الأهم في الموضوع هو تحرك القوى الأمنية منذ اللحظة الأولى لمعرفتها بالموضوع. وقد استطاعت تحديد مكان الخاطفين بسرعة، وواكبت أحداث الخطف بعقلانية وهدوء، مما يبقي لبنان في منطقة الأمان». وعن مسلسل «توبة» الذي حصد نجاحاً كبيراً في الموسم الرمضاني، يقول: «بالفعل حقق نجاحاً كبيراً. لاقى انتقادات كثيرة في بداية حلقاته، ولكن الأهم كان تقييمه في النهاية، الذي جاء على قدر توقعاتنا. فبطله عمرو سعد قام بجهد كبير ولاقى نتائجه المثمرة. وكذلك كل الفريق العامل في المسلسل، حقق المعادلة المطلوبة لعمل شعبي مصري. فلعبة الدراما لها قواعدها في موضوعات الخير والشر، وأنا فخور بالنجاح الذي أحرزه خصوصاً، أنه صور أيضاً في لبنان».
ويرى صادق الصباح، أن لبنان هو المكان الذي يؤمن للإنتاج الفني مساحة كبيرة من الراحة. «الراحة لا تعني حرية تامة، ولكن الحد الأدنى من تفاصيل تسهم في تنفيذ العمل بشكل أسهل. إذ تنحصر الصعوبات بكيفية تنفيذ التفاصيل وليس في البحث عن أجواء مريحة للتنفيذ. فالتقنيات المستخدمة اليوم، في صناعة الدراما غلبت الجغرافيا والرقابات. وهذا الأمر نلاحظه في كافة بلدان العالم. فيلم جيمس بوند الأخير مثلاً، صور في بلغاريا، وتونس ألغت الرقابة الفنية، فعندما تتمتع الشركة المنتجة برقابة ذاتية يجب أن تتوفر لها الراحة المطلوبة. وسنكمل في لبنان لسنوات مقبلة لغاية تأمين المناخات المطلوبة في غيره».

فيلم «الهيبة» قريباً
يرى صادق الصباح، أن المسيرة الطويلة تتطلب من صاحبها الجهد، ويأمل مع الوقت تحقيق ما يصبو إليه. فهو لم يخطط بل تعب وكد واتبع أفضل السبل للوصول إلى ما يرغب في تحقيقه. مسلسل «الهيبة» الذي أوصله إلى العالمية، حقق نجاحه بفضل أبطاله وقصصه، وهو يعتز بتصويره ضمن فيلم سينمائي يكون خاتمة نهائية لأجزائه الخمسة السابقة. ويقول: «سعيد كوني أصور هذا الفيلم بتقنيات عالية فاجأت الخبراء الأجانب من أتراك وأوروبيين وروس يتعاونون معنا في تنفيذه. فالفيلم مليء بالأكشن والتشويق، وهو تكملة لمسيرة طويلة، وقد يتأخر تصويره لغاية منتصف شهر يوليو (تموز)، ويكون جاهزاً ابتداء من شهر أغسطس (آب)، ليبدأ توزيعه في السوق ابتداء من شهر أكتوبر (تشرين الأول)».
ويرى الصباح أن العالمية لم تكن هدفه الرئيس في عمله، لكن الأمور اجتمعت لصالح هذا الأمر. ويعلق: «أعتز بتصوير العمل في قلب الحدث العالمي بتركيا، خصوصاً أنها اشترت المسلسل. فأن أحقق فكري وذاتي وطموحاتي في هذه البلاد، وهو لأمر يسعدني».
ويكشف الصباح، الذي يفضل لقب «صديق الجميع» على أي ألقاب أخرى تطلق عليه، أن فيلم «الهيبة» سيكشف عن هوية العدو الرئيسي لبطل «الهيبة» جبل شيخ الجبل. «سيتفاجأ المشاهد بالتعرف إليه بعدما سبق ورآه في أجزاء أخرى من العمل، ولم يدرك أنه رئيس العصابة التي تحارب جبل، وتقف وراء كل المصائب التي وقعت على رأسه. فلقد حان الوقت لوضع نهاية مؤاتية لهذه السلسلة التي ستعتمد على تدوير الزوايا وبطريقة تليق بأحداثه».

                                                                 ملصق مسلسل «توبة»
نائب رئيس اتحاد
المنتجين العرب يلم الشمل
عُين أخيراً صادق الصباح نائباً لرئيس اتحاد المنتجين العرب، مما قد يمهد لترأسه قريباً. وأوكل إليه رئيس الاتحاد إبراهيم أبو ذكري، مهمة لم شمل المنتجين العرب، خصوصاً اللبنانيين منهم، وزوده بصلاحيات واسعة لتحقيق هذا الأمر. ويعلق الصباح: «لقد رغب في إعطاء بيروت هذه المساحة، كما أن لبنان سيكون أحد المقرات الرسمية للاتحاد. لقد قبلت بالمهمة وهي صعبة، وأهم ما فيها تأمين المناخ المريح والعلاقات المطلوبة بين المنتجين العرب ومختلف الدول. وأحضر اليوم بروتوكول التعاون بين الاتحاد ووزارة الإعلام في لبنان، فتكون راعية لتذليل العقبات بأفضل الطرق. لاقيت تجاوباً كبيراً من قبل وزير الإعلام اللبناني زياد مكاري. فالاتحاد لا يهتم فقط بالفنانين بل أيضاً بالمثقفين والإعلاميين، وسأعمل على إدخال مروحة من المتخصصين في الاقتصاد في مجلس إدارته ومقره لبنان، لتحقيق مجهود أكبر ينعكس إيجاباً على انطلاقة مثمرة بالشراكة مع قطاعات الدولة».
يؤكد الصباح أنه يتابع ويراقب إنتاجات الشركات المنافسة ويستعين أحياناً بعناصر جديدة منها لفتته. «هناك عدد كبير من الأعمال التي لفتتني مؤخراً، لا سيما في الإنتاج الخليجي والمصري والسوري، وهذا الأخير سجل عودة جيدة إلى صناعة الدراما. وقد تواصلت مع بعض القيمين عليها، لأنني اعتبرت الأمر مثيراً للاهتمام. كما هنأت بعض صناع الدراما المصرية وتواصلت معهم بهذا الخصوص».

أحلام صادق الصباح
لا ينكر صادق الصباح أنه شعر عندما تبلغ قرار تقليده وسام الأرز، أن مسؤولياته كبرت أضعاف الأضعاف. فهو المتأثر برجالات عظام كجبران خليل جبران، وحسن كامل الصباح، ومخائيل نعيمة، ونجيب محفوظ وغيرهم، يحلم بأن يعود وطنه إلى مكانته الرائدة. «أحزن عندما أرى كيف كان لبنان الستينات والسبعينات وكيف صار اليوم. ولكنني على يقين بأن عودته أصبحت قريبة، حاضناً الجمهور العربي، وقبلة سياحية. وآمل أن أستطيع رفع قدراتنا كلبنانيين وإيصالها إلى مختلف الدول.
فأنا أحلم بصنع دراما وسينما مع السعودية. فالمملكة تملك الفكر الشاب الذي نحتاجه اليوم في هذه الصناعة. والاتحاد سيكون بمثابة باب واسع لتحقيق كل أحلامي هذه». ويختم لـ«الشرق الأوسط»، أن الفن هو سلاح ناعم وأهميته كبيرة، يعزز بناء الأوطان. وأضاف: «عندما اكتشف نابوليون الانقسامات الدينية في أوروبا حاربها بالفن. فالمسرح كما السينما والفن التشكيلي، تؤلف عناصر النهضة العربية على المستوى الإنساني. علينا أن ننجح بذلك، خصوصاً أن هناك بلداناً عربية كالسعودية تملك هذا التوجه. وطموحي أن أنجز مهمتي مع الاتحاد العربي، فنواجه معاً الدول الغربية في صناعاتنا ضمن منافسة شريفة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)