رندة كعدي لـ«الشرق الأوسط»: كسرت قفص الأم التقليدية على الشاشة

شكّل أداؤها في الحلقة 23 من «للموت 2» حديث البلد

رندة كعدي وأحمد الزين في «للموت 2»
رندة كعدي في «للموت 2»
رندة كعدي وأحمد الزين في «للموت 2» رندة كعدي في «للموت 2»
TT

رندة كعدي لـ«الشرق الأوسط»: كسرت قفص الأم التقليدية على الشاشة

رندة كعدي وأحمد الزين في «للموت 2»
رندة كعدي في «للموت 2»
رندة كعدي وأحمد الزين في «للموت 2» رندة كعدي في «للموت 2»

ما إن عرض أحد مشاهد الحلقة 23 من مسلسل من «للموت 2»، الذي تخلع خلاله الممثلة رندة كعدي رداء الأم التقليدية المعروفة به، حتى قامت الدنيا ولم تقعد. بلحظات قليلة شكل هذا المشهد حديث البلد، بعد أن تصدر الـ«ترندات» على وسائل التواصل الاجتماعي. ويعرض المسلسل الرمضاني عبر شاشة «إم تي في» المحلية، ومنصة «شاهد» الإلكترونية. ويأتي المشهد الذي نتحدث عنه في سياق قصة محبوكة بشكل جيد من كتابة نادين جابر وإخراج فيليب أسمر وإنتاج «إيغل فيلمز». وتظهر كعدي خلاله، التي تلعب دور «حنان» في العمل، وقد خرجت عن طورها بعد أخذها حبة هلوسة بالغلط، فتقدم استعراضاً فنياً غنياً بعناصره المكتملة رقصاً وأداءً وتعبيراً؛ ولأول مرة، يتابع المشاهد العربي، كعدي في مشهد مماثل، بعد أن عوّدتهم على تقمُّص شخصية الأم الطيبة والتقليدية. هنا خرجت عن المألوف، وأطلقت لنفسها العنان محلّقة في فضاء واسع، رسمت له خطوطه الأساسية ابنتها تمارا. فهذه الأخيرة هي مدربة التمثيل لوالدتها. ومنذ توليها هذه المهمة وهي تزوّدها بجرعات أداء إبداعية.
قدمت كعدي خلال المشهد، أداءً استثنائياً زاد من تألقها ممثلة محترفة، ففاجأت جمهورها كما فريق العمل وزملائها. وتعلق كعدي لـ«الشرق الأوسط»: «ما إن خرجت هذه الحلقة إلى النور، حتى انهالت عليّ الاتصالات الهاتفية من عدد كبير من زملائي، الذين أشكرهم لدعمهم لي ولتقديري. لهفتهم هذه شكّلت وساماً أعلّقه على صدري، لأنني سعدت وتشرفت برد فعلهم هذا».
وتروي كعدي الحيثيات التي رافقت هذا المشهد منذ قراءتها له على الورق إلى حين تنفيذه؛ «عندما قرأت النص، وعلمت أن حنان ستبتلع حبة هلوسة، رحت أقلب الصفحات بسرعة كي أقف على طبيعة أدائها. بعدها اتصلت بالكاتبة نادين وسألتها: شو عاملة بحنان؟ فردّت عليَّ مؤكدة أنه حان الوقت لكسر القيود، وتزويد المرأة بمساحة من الحرية، تُخرج فيها طاقتها المدفونة».
وتتابع كعدي: «في الحقيقة رأينا في هذا المشهد، حنان التي تحلم وهي مفتحة العينين، وتقدم أداءً مختلفاً بحيث حلقت في عالم لم تكن تملك القدرة من قبل على ولوجه. كسرت قيودها وغرفت في هذه اللحظات من أفكار كانت تراودها، فتربيتها والتقاليد التي تحيط بها كانت تمنعها عنها».
وتفتخر كعدي صاحبة الباع الطويل في عالم الدراما، بأنها قدمت، أكثر من مرة، شخصيات علقت في ذاكرة المشاهد، وأن ابنتها تمارا حاوي هي مدرّستها ومدربتها. «عندما قرأت تمارا النص، لمعت الفكرة مباشرة في رأسها. وقررت أن يطبع المشهد موسيقى غربية وليست عربية، كما هو مكتوب على الورق، ودربتني على هذا الأساس. فهي اختصاصية رقص، وصاحبة شهادات عالية في هذا المجال كما في الأداء التمثيلي».
تدعم تمارا والدتها بأجمل التطريزات لكل كاركتر تقوم به. وتضيف كعدي: «وضعت لكل شخصية هويتها الخاصة، وهو ما وسم شخصيات عدة، بينها تلك التي أديتها في (2020)، وفي (أدهم بيك)، وفي (مشيت) وغيرها، فأوصلتني إلى مكان أصل بالشخصيات إلى أماكن لم أبلغها من قبل».
عندما وصلت رندة كعدي إلى موقع التصوير قالت للمخرج فيليب أسمر: «أنا جاهزة للمشهد، فقد قمت بواجباتي تجاهه، لقد حفظته وتدربت عليه. وعلى أغنية (I am feeling good) المشهورة، قدمت له وصلة من المشهد».
تفاجأ فيليب من أداء رندة الخارج عن المألوف، ولشدة إعجابه بها، بلور بعض تفاصيله في عملية المونتاج، وتقول كعدي: «أبدع فيليب في المونتاج وأبرز رسائل كثيرة، فأكمل ما كان مكتوباً على الورق بأسلوبه الإبداعي. أعدت المشهد طبعاً أول مرة أمامه وأمام الممثل أحمد الزين. وهذا الأخير تفاجأ أيضاً، ووقف يراقبني بتأنٍّ، خصوصاً أنه تعاون معي كي نضيف على المشهد تقنية المسرح».
تؤكد كعدي أنه من الضروري أن يتجدد الممثل، بفضل دم شبابي يشرف على أدائه. «كما فيليب أسمر، كذلك ابنتي تمارا، فهما يتمتعان بقوة إبداع رائعة. صحيح نحن لدينا تجاربنا ومخزوننا المتراكم، ولكن يجب أن نبقى على تواصل مع كل جديد، تماماً كما في مهن الطب والهندسة والإعلام وغيرها».
المشهد الذي قدمته كعدي يصنف جريئاً فكيف تلقفته؟ «إنه يرتكز على كثير من الجرأة والتعبير بالعينين ولغة الجسد. وهذا هو التحرر الذي أتحدث عنه وتحتاج إليه كل امرأة، كأنها طائر الفينيق وتنتظر أن ينطلق من داخلها. كل امرأة تحتاج إلى هذه المساحة، فربة المنزل وكي تعد أطباقاً لذيذة تلزمها مساحة حرية لتبرز ثقتها بنفسها، الأمر يتطلب الشيء نفسه. حتى وهي تضحك أو تتحدث، فإن كل تعبير نابع عنها، هو بحاجة لأن تحلّق به عالياً. وهذه المساحة التمثيلية أعطاني إياها فيليب أسمر بشكل بارز، تماماً كما كاتبة العمل نادين جابر. فعند المرأة قضايا كثيرة، ومن خلال حنان كشفنا عن الكثير منها. فأنا لا أطمح إلى النجومية بل إلى أن أشكّل حبة الكرز التي تزيّن أشهى قالب حلوى».
وتؤكد كعدي أن شخصية حنان غنية جداً، وفيها إضافة إلى الحب والعاطفة، التربية والمبادئ السليمة والعمل الإنساني. «كل تلك الأمور اجتمعت في شخصية حنان منذ الجزء الأول في (للموت)، وبرزت أكثر في الثاني منه».
وترى كعدي أنه لولا شركات الإنتاج كـ«إيغل فيلمز» و«الصباح إخوان»، «لكنا لم نراوح مكاننا في الدراما اللبنانية، في هذا الوقت تحديداً. كل الاحترام والحب للشركتين وصاحبيها، فهما وضعا كل ثقتهما بنا نحن الممثلين اللبنانيين، خصوصاً في الأوضاع الصعبة التي يمر بها بلدنا. الدراما اليوم هي المتنفس الوحيد عندنا، وتسهم في تغيير المزاج الشعبي ككل».
تعرف كعدي قدراتها وإمكانياتها جيداً، ولكنها تقول دائماً إنه إذا لم يوجد من يسلط الضوء عليها، فمن يمكنه أن يراها؟ «لا أنكر تعبي وجهدي على نفسي، ولكني كنت اختنقت لو لم أوضع في المكان المناسب لإبرازهما».
وعن «للموت 2» تقول: «إنه عمل متقن آمنّا به جميعاً، وجاء الجزء الثاني منه ليزيده لمعاناً وإبهاراً ضمن نص رشيق وغير ممل، كما يحصل أحياناً في بعض المواسم الإضافية لدراما معينة. كما أشكر رب العالمين على هذه المساحة التي يُعرض فيها ضمن الشهر الكريم. فالناس كرماء لأنهم يتابعونه بشغف، والإنتاج كريم أيضاً لأنه يضع تحت تصرفنا كل ما يلزم لولادة عمل على المستوى المطلوب».
وتتابع: «(للموت 2) في رأيي، حمل الدراما الرمضانية على أكتافه هذه السنة، محلياً، في ظل عراقيل واجهها أصحاب شركات الإنتاج، بسبب الجائحة والأوضاع الاقتصادية المتردية في لبنان، زيدي عليها الطقس الرديء. أما بالنسبة لي فهذا المسلسل سمح لي بتحقيق واحد من أحلامي بعد أن كسرت قفص الـ(ماما) التقليدية من خلاله، ولوّنت مسيرتي كما أرغب. فالفن لم يكن يوماً عملاً فردياً بل نتيجة جهد جماعي وهو ما نلمسه في (للموت). وفي شخصية (حنان) استطعت تقديم الجديد مع الحفاظ على خطوط الشخصية الأصلية، التي بُنيت عليها منذ البداية، ولم أفقدها طيلة سياق القصة».
وترى كعدي أنها منذ زمن كبير كانت تطالب بإخراجها من هذا القفص الذي وُضعت فيه. «اليوم تأكدوا مما كنت أقوله وصدقوني بعد (للموت 2)، فهذا المسلسل هو الباب الواسع الذي سيكون فاتحة خير عليّ، فيطعّم مسيرتي بشخصيات جديدة. أفتخر بتجسيد دور الأم من دون شك بكل وجوهه، ولكنني أحتاج لهذا النوع من المساحات كي أُخرج ما في أعماقي من ممثلة».
وتنتقد كعدي إعطاء لقب «القدير» لممثل أو ممثلة لا يستأهلونه. «لا يمكن أن نطلق هذا اللقب على أي ممثل، أو عندما يخطر الأمر على بالنا. هناك ممثلون أساتذة يليق بهم هذا اللقب ككميل سلامة ونقولا دانييل. فهؤلاء هم (القديرون) الذين يجب أن يرافقهم هذا اللقب على الشاشات. إنهم أساتذة كبار وأكاديميون وأصحاب تجارب وخبرات عالية المستوى، ونحن تلامذتهم ليس أكثر».
وعن الدور الذي تتمنى أن تقدمه قريباً تقول كعدي: «أي دور لامرأة يمكنه أن يتحداني ويحمل رسائل معينة، أنا مستعدة لتجسيده».


مقالات ذات صلة

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

يوميات الشرق لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

حظي مسلسل «رقم سري» الذي ينتمي إلى نوعية دراما الغموض والتشويق بتفاعل لافت عبر منصات التواصل الاجتماعي.

رشا أحمد (القاهرة )
يوميات الشرق زكي من أبرز نجوم السينما المصرية (أرشيفية)

مصر: تجدد الجدل بشأن مقتنيات أحمد زكي

تجدد الجدل بشأن مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، بعد تصريحات منسوبة لمنى عطية الأخت غير الشقيقة لـ«النمر الأسود».

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق تجسّد شخصية «دونا» في «العميل» (دانا الحلبي)

دانا الحلبي لـ«الشرق الأوسط»: لو طلب مني مشهد واحد مع أيمن زيدان لوافقت

تُعدّ تعاونها إلى جانب أيمن زيدان إضافة كبيرة إلى مشوارها الفني، وتقول إنه قامة فنية كبيرة، استفدت كثيراً من خبراته. هو شخص متعاون مع زملائه يدعم من يقف أمامه.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق آسر ياسين وركين سعد في لقطة من المسلسل (الشركة المنتجة)

«نتفليكس» تطلق مسلسل «موعد مع الماضي» في «القاهرة السينمائي»

رحلة غوص يقوم بها بعض أبطال المسلسل المصري «موعد مع الماضي» تتعرض فيها «نادية» التي تقوم بدورها هدى المفتي للغرق، بشكل غامض.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق مسلسل «6 شهور»   (حساب Watch IT على «فيسبوك»)

«6 شهور»... دراما تعكس معاناة حديثي التخرّج في مصر

يعكس المسلسل المصري «6 شهور» معاناة الشباب حديثي التخرج في مصر عبر دراما اجتماعية تعتمد على الوجوه الشابة، وتحاول أن ترسم الطريق إلى تحقيق الأحلام.

نادية عبد الحليم (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)