«بوكو حرام»... اللغز وتحليل الأزمة

باحثون غربيون وأفارقة يدرسون أسباب الإرهاب وتحدياته في غرب أفريقيا

عناصر من «بوكو حرام» في شمال غربي نيجيريا
عناصر من «بوكو حرام» في شمال غربي نيجيريا
TT

«بوكو حرام»... اللغز وتحليل الأزمة

عناصر من «بوكو حرام» في شمال غربي نيجيريا
عناصر من «بوكو حرام» في شمال غربي نيجيريا

يسعى كتاب «بوكو حرام: تحليل الأزمة» الذي صدر حديثاً عن «مكتبة الإسكندرية»، إلى فهم وتحليل الأسباب الدقيقة التي تؤدي إلى تطرف الجماعات الدينية في القارة الأفريقية، وذلك انطلاقاً من دراسة جماعة «بوكو حرام» النيجيرية، وأساليب التجنيد التي تتبعها، ومصادر تمويلها، والبحث في ملفات أعضائها، فضلاً عن تقصي قضية انتمائها إلى قوى إرهابية إقليمية كـ«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«أنصار الدين» في مالي، أو «حركة الشباب» في الصومال.
ويتضمن الكتاب الذي قدم نسخته العربية المترجم المصري الدكتور محمود عزت، 9 دراسات أعدها خبراء وأكاديميون من أوروبا وأميركا وأفريقيا، متخصصون في نظريات الدولة ودراسات ما بعد الاستعمار، ركزوا خلالها على فهم طرق وتكتيكات وأساليب الهجوم التي تتبعها «بوكو حرام» على البنية التحتية للاتصالات، والأسباب التي تجعل الحكومة النيجيرية غير قادرة على التصدي لها، ومدى استجابة مؤسسات الدفاع والاستخبارات هناك للتحديات التي تضعها في طريقها الجماعة الإرهابية، فضلاً عن تحليل التكوين النفسي لأعضائها وزعمائها، وتقصي طرق تمويلها.
وينظر محللون إلى نشأة «بوكو حرام» باعتبارها إحدى نتائج الدولة الهشة في نيجيريا، بينما يربطها علماء اجتماع وعدد من علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية بالفقر، ويلقي سياسيون وناشطون في جنوب نيجيريا باللوم على الشماليين وهيمنتهم على الدولة، أما خبراء مكافحة الإرهاب والأمن فيركزون على الروابط الدولية للجماعة، والتهديد الذي تمثله لاستقرار غرب أفريقيا.

- لغز «بوكو حرام»
تفتقد مناقشات الوضع الأمني في نيجيريا؛ خصوصاً ما يتناول «بوكو حرام»، وجود معلومات دقيقة ومؤكدة، فرغم الحديث الدائر حولها منذ 12 عاماً تقريباً، فإن كل ما يتعلق بها ما زال مثار جدل؛ من حيث معنى اسمها، ومنشئها، وأسباب توسعها، وتطرفها، وارتباطها بجماعات إرهابية أجنبية؛ كما لا تزال مسؤوليتها عن بعض الجرائم الوحشية المنسوبة إليها محل جدل أيضاً، وكذلك علاقتها ببعض السياسيين وما تقدمه من مساندة لهم في الانتخابات البرلمانية، وبعض المهام المخالفة للقانون كقطع الطرق وتجارة المخدرات.

وتمثل جماعة «بوكو حرام» -من وجهة نظر الباحث في العلوم السياسية بجامعة ولاية ناساراوا النيجيرية جيديوفور أديب- تراجعاً عن المشروع النيجيري، بسبب عجز الدولة المتزايد عن الوفاء بواجباتها تجاه المجتمع. لقد شنت الحكومة حملة كبيرة عليها، وقتلت زعيمها محمد يوسف؛ لكن الجماعة ردت بعدد من الهجمات الإرهابية بدأت بولاية بورنو، ثم مقر الشرطة في العاصمة أبوجا؛ ومقر الأمم المتحدة هناك، ثم الهجوم على كانو، وهو ما يعني أن تطرف «بوكو حرام» بدأ منذ 13 عاماً تقريباً؛ لكن الباحث بكلية الدفاع النيجيرية فريدوم أونوها يرجع لجوء الجماعة لاستخدام العنف إلى أواخر عام 2003، عندما هاجمت مراكز للشرطة ومباني عامة في بلدتي جيام وكاناما في ولاية يوبي. وكانت معروفة إعلامياً آنذاك باسم «طالبان النيجيرية». وخلال عام 2004، أنشأت قاعدة أطلقت عليها اسم «أفغانستان» في قرية كاناما في شمال ولاية يوبي. وفي 21 سبتمبر (أيلول) 2004، هاجم أعضاؤها مركزي شرطة باما وجوورزا في ولاية بورنو، وقتلوا بعض رجال الشرطة، وسرقوا أسلحة وذخائر. وهكذا استمرت الهجمات المتقطعة على مواقع أمنية في بعض الأجزاء من ولايتي بورنو ويوبي.

- استنساخ تكتيكات قديمة
وفي دراسته «فهم طريقة هجوم (بوكو حرام) على البنية التحتية للاتصالات»، تابع أونوها تصاعد الهجمات الإرهابية على الأهداف المدنية والعسكرية، ورصد أساليب استهدافها، والاغتيالات المستهدفة، عن طريق إطلاق النار من سيارات مسرعة، والتفجيرات الانتحارية، وذكر أن الهجمات كانت تتركز على المؤسسة الأمنية وموظفيها، وقادة المجتمع، والزعماء الدينيين والسياسيين، ثم تطورت باستهداف دور العبادة والأسواق، والمدارس الحكومية، والمستشفيات، ومؤسسات التعليم العالي، والإعلام، ومرافق الاتصالات السلكية واللاسلكية، واكتسبت تغطية إعلامية محلية ودولية مُكثفة.
ولفت أونوها إلى أن التكتيكات المستخدمة في هجمات «بوكو حرام» لا تشير إلى أي شيء غير معروف في تاريخ العنف الإرهابي؛ حيث تستنسخ تكتيكات واستراتيجيات تتبناها الجماعات الإرهابية القديمة لتحقيق أهدافها بـ«تأسيس كيان إسلامي مثالي خالٍ من الفساد السياسي والحرمان الأخلاقي» كما تدعي.

- هيكل ومصادر تمويلها
حافظت الجماعة على هيكل غير جامد للقيادة والسيطرة، حتى بعد مقتل محمد يوسف عام 2009، وتولي أبو بكر شيكاو مكانه، ما سمح لها بالعمل بأسلوب مستقل، وتحركت عناصرها في شكل خلايا ووحدات مترابطة، تأخذ توجيهات من قائد واحد يتولى في الوقت نفسه رئاسة مجلس الشورى الاستشاري الذي يجيز الهجمات المتطورة من خلال مختلف الخلايا.
ومن المعروف أن قسماً من الأثرياء النيجيريين يمدون الجماعة بالمال، كما تموِّل «بوكو حرام» أنشطتها من خلال مستحقات العضوية، وتبرعات سياسيين، وحتى مسؤولين حكوميين، وموارد جرائم الخطف، والاتجار بالأسلحة، والمخدرات، وتقديم خدمات الحماية للشبكات الإجرامية، إضافة إلى الدعم المالي من مجموعات إرهابية أخرى؛ مثل «القاعدة».

وفي دراسته «(بوكو حرام) والهوية وحدود مكافحة الإرهاب» يشير الباحث بجامعة الولاية الحرة بجنوب أفريقيا، حسين سولومون، إلى أن الرؤية المبسطة والضيقة لمكافحة الإرهاب تتجاهل السياق التاريخي الذي تتشكّل فيه الهويات الدينية وإعادة تشكيلها في نيجيريا. كما تتغافل حقيقة أن الهويات الإقليمية والعرقية والدينية تعزز بعضها في كثير من الأحيان، وأن السياق الاجتماعي الاقتصادي في نيجيريا أدى إلى تفاقم حالة من عدم التوازن الاقتصادي بين الجنوب الغني والشمال الفقير نسبيّاً.
من جهتها، تُسلِّط الباحثة الأميركية دينيس بيكن في دراستها «قابلية نيجيريا للتأثر بالحرب السيبرانية» الضوء على عملية اختراق قاعدة سجلات الموظفين في المخابرات النيجيرية، والتي نفذتها «بوكو حرام» رداً على تصرفات الحكومة في أبوجا ضد أعضائها، وذكرت بيكن أن هذه العملية تكشف عن أن عمليات «بوكو حرام» منذ ارتباطها بـ«القاعدة» صارت أعنف، وأن استخدامها للإنترنت صار أحد أسلحتها المرتبطة باستراتيجيتها الإرهابية.
وفي الدراسة تقترح بيكن مقاربة بديلة تعزز الوضع السياسي الذي يتسم بالفوضوية في نيجيريا، وتدعم الأعداد الكبيرة من العاملين الموهوبين عبر الإنترنت هناك، حتى تعرقل عمليات تجنيدهم من قبل الجماعة الإرهابية.
ويحلل الباحث بجامعة «سيري» البريطانية، بيب سلام، التكوين النفسي لمحمد يوسف؛ مؤسس جماعة «بوكو حرام» وزعيمها السابق، وذلك من أجل فهم السمات الفردية أو الخصائص السلوكية التي قد تسهم في التطرف.
أما الباحثة الأميركية كايتلين بولينغ فتحاول تقديم رؤى مهمة في النقاش السياسي داخل الكونغرس الأميركي، وبحكم خبرتها المباشرة في الكونغرس وفرق البحث وصنع السياسات في واشنطن، تدرس إمكانية تسجيل «بوكو حرام» كمنظمة إرهابية أجنبية، والخطوات المقبلة أمام صناع السياسة في الولايات المتحدة الأميركية.
وأما الباحث الأميركي جوزيف سييجل فيلقي الضوء من خلال دراسته «(بوكو حرام) وعزلة شمال نيجيريا: الآثار الإقليمية والدولية»، على العلاقات الخارجية والروابط الدولية لـ«بوكو حرام»، وفي المقابل يحلل الأوضاع الصعبة التي تعاني منها نيجيريا بسبب التردي الأمني في ولايات الشمال، وتأثيراته على المستوى الاقتصادي والسياسي، وجهود تحقيق الاستقرار الحكومية.


مقالات ذات صلة

تونس: إيقافات ومحاكمات لتونسيين وأفارقة متهمين بتهريب البشر

شمال افريقيا الرئيس التونسي قيس سعيّد في اجتماع قبل أيام حول ملف الهجرة غير النظامية مع وزير الداخلية خالد النوري وكاتب الدولة للأمن سفيان بالصادق (من موقع الرئاسة التونسية)

تونس: إيقافات ومحاكمات لتونسيين وأفارقة متهمين بتهريب البشر

كشفت مصادر أمنية وقضائية رسمية تونسية أن الأيام الماضية شهدت حوادث عديدة في ملف «تهريب البشر» من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء نحو تونس.

كمال بن يونس (تونس)
شؤون إقليمية مجلس الأمن القومي التركي برئاسة إردوغان أكد استمرار العمليات العسكرية ودعم الحل في سوريا (الرئاسة التركية)

تركيا ستواصل عملياتها ضد «الإرهاب» ودعم الحل السياسي في سوريا

أكدت تركيا أنها ستواصل عملياتها الهادفة إلى القضاء على التنظيمات الإرهابية في سوريا إلى جانب تكثيف جهود الحل السياسي بما يتوافق مع تطلعات ومصالح الشعب السوري.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا قوات باكستانية خلال دورية في بيشاور (وسائل إعلام باكستانية)

فشل جهود الحكومة الباكستانية في منع تصاعد العنف بالبلاد

استمر العنف في الارتفاع بمقاطعتين مضطربتين في باكستان مع مواصلة الجيش المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب في شمال غربي وجنوب غربي البلاد

عمر فاروق (إسلام آباد )
أوروبا من أمام السفارة الإسرائيلية في استوكهولم (إ.ب.أ)

السويد تلمّح لتورط إيران في هجمات قرب سفارتين إسرائيليتين

أعلنت وكالة الاستخبارات السويدية، الخميس، أن إيران قد تكون متورطة في الانفجارات وإطلاق النار قرب السفارتين الإسرائيليتين في السويد والدنمارك هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
الولايات المتحدة​ عافية صديقي (متداولة)

«سيدة القاعدة» السجينة تقاضي الولايات المتحدة لتعرُّضها لاعتداءات جسدية وجنسية

رفعت سيدة باكستانية سجينة في سجن فورت وورث الفيدرالي دعوى قضائية ضد المكتب الفيدرالي للسجون والإدارة الأميركية، قالت فيها إنها تعرَّضت لاعتداءات جسدية وجنسية

«الشرق الأوسط» (تكساس)

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة، إلا أن دائرتها السردية لا تكتمل سوى بتوالي الأحداث التي تتشارك فضاء الحدث.

تلعب قصص المجموعة، الصادرة عن دار «حياة»، على رمزية الريح التي تمنحها الكاتبة سلطة غاشمة وسحرية، وفي المقابل يبدو البشر محض هشيم في قبضتها، فتكون «ليلة الريح الأولى» هي الحدث المركزي الذي تظل تبعاته الكابوسية تلاحق أهالي القرية وتجلب معها الأهوال. وأولها أنهم لم يعودوا يتذكرون شيئاً مما جرى ليلتها، في تلميح مبكر لما يحمله تشوّش الذاكرة من لعنة، ثم سرعان ما تستحوذ «الرائحة» بطاقتها الحسيّة على زمام الأمور، فتزيد من غبش الرؤية، بعدما تسود رائحة «طاغية لا مثيل لها» فضاء القرية في أعقاب تلك الليلة، بما لها من خواص غرائبية، فلا تشمها النساء، فيما تُزكم أنوف الرجال، فيكون ظهورها واختفاؤها بعد ذلك دليلاً على ما غيّرته الريح في أجوائها، والسطور التي خطّتها ومحتها، ولا تختفي تلك الرائحة سوى بمولد طفلين بعد 9 أشهر من تلك الليلة، ليكونا طفلي الريح، وحاملي سرّ الأم التي اختفت في سنوات طفولتهما الأولى، وتبدو فصاحتهما المُبكرة وظروف نشأتهما الغريبة كفيلة بأن تجعل أهل القرية يصفونهما بـ«المبروكين»، فيقطعان على مدار المتتالية القصصية دروباً تأملية في اقتفاء الحكمة، وتلمّس النبوءة، وأسرار الكلمات، كما يصبحان قبلة لأهل القرية من «السائلين»، الذين تُخرجهم الريح من رقودهم، لتوقظ داخلهم الألم، والشعور العارِم بالذنب.

قلوب مثقوبة

تتفرع الحكايات عبر 3 فصول رئيسية هي: «الرجل الذي تكلّم ثم صمت» و«الرجل الذي سيُحب التجوال»، و«الفتاة التي لم يعرف أحدٌ اسمها». تواصل الحكايات تقاطعها على مدار المتتالية القصصية مع ثيمات العمل الرئيسية وأبرزها الفقد والانتظار، فـ«الرجل الذي تكلّم ثم صمت» يظّل مع تقدمه في العمر يتوّسل «طيف» أمه التي غابت في طفولته، وتظل حيثيات غيابها مُغبشة ومثيرة لتوالد الحكايات، بما يزيد من عزلته واغترابه، وتظل «الريح» على مدار المُتتالية هي صاحبة السطوة السردية، فالسرد يبدأ بها، ثم تباغت أهل القرية مرة أخرى مع نهاياته، لتترك الحياة بينهما وبعدهما غارقة في الهشاشة، فهي لم تترك البشر عُراة من أسمالهم فحسب، بل كشفت عن ندوبهم الغائرة، لا سيما تلك التي تسكن الأمهات، ويبدو ثمة آصرة بين الرجلين أبناء الريح وبين أمهات القرية المكلومات، الباحثات عن رتق لـ«قلوبهن المثقوبة» بفقد أبنائهن، فتبدو لعنة أمهم الغائبة، أو الأم «الأولى»، وكأنها تُلاحق أمهات القرية من بعدها، متوسلات أن يرشدهم أحد لأبنائهن ويمتص ملوحة قلوبهن. ويصف «الرجل الذي سيُحب التجوال» جرح الأمومة باعتباره الألم الوحيد المستعصي: «أُعد وصفات لأهالي القرية طوال 13 عاماً، وصفات حلّت أحوالهم المعقدة، أعد قلباً صلصالياً، ومسحوقاً للنسيان، ودواءً للحقيقة، أعد أدوية لكل من طلب، لكنه الآن يعجز أمام الأمهات اللاتي أردن استرداد أبنائهن ذوي العيون الرمادية، السوداء، البنية، الزرقاء، الخضراء الصغيرة»، وهي الفكرة التي تتردد على مدار المتتالية، بتراوحات فنية تفيض من رحم الأمومة، وتعود أدراجها له من جديد في قصة أم أخرى.

تشتق المُتتالية القصصية من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات وقوة تأثيرها

اختلاط الزمن

تشتق المُتتالية القصصية، التي حازت جائزة الشارقة للإبداع العربي، من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات، وقوة تأثيرها، واللعب بالكلمات، فنرى رجلاً أصابته لعنة اللغة، ولكنه للمفارقة كلما كان «يفقد حرفاً زادت كلماته وزادت فصاحته»، كما تشتق من مفردات البيئة البدائية دلالات بلاغية، فنجد الكلمات تندفع كـ«العواصف الرملية»، وهو ما يمكن فهمه ضمن اجتراح العمل لإيقاعه وقوانينه الخاصة، فالمكان برغم تأطيره الظاهر بحدود القرية والصحراء فإنه سيّال، يفيض على هامش الواقع وفي عمق المُخيلة، حيث «المنامات» مكان للقاء الأحبة، والصحراء مكان لابتلاعهم، أما الزمن فيُفتته السرد في سعي لتوظيف دلالته وأثره على أبطاله، حيث نجد هناك: «زمن الصمت، زمن الكلام، زمن الانتباه، زمن الانتظار...»، فالزمن يختلط كالكوابيس، ويفقد أفقيته المنطقية وواقعيته وهو يعود أدراجه معكوساً، كما نرى الأبناء الذين يعودون أجنّة، والعيون تتحوّل لحُفر فارغة، وحتى نمش الوجوه يكبر ويصغر، وكأنه يحوم في مدار زمني معزول يخص سيرة أصحابه وحكاياتهم.

وفي حين تنحاز الكاتبة عائشة مختار للنزعة السحرية في بناء عالمها السردي، فإنها في الوقت نفسه تتلمس هُوية ذاتية تتقاطع مع الموروث الشعبي في كثير من محطات المُتتالية، فالشخصيات تنتظر «الكرامات» في مناماتهم، وتقطع المسافات من أجل الحصول على مشروب سحري يضمن لهم الحب، في استثمار لطاقات الغرابة في قواميس الوصفات السحرية الشرقية، التي تفيض برائحة «الأبخرة والأهازيج والتمائم»، في توسّل لأسئلة وجودية مؤرقة لدى أبطال المُتتالية، بداية من الموت، وحتى الحب، والنوم، والأحلام، والاستبدال، وأهوال الخطيئة، وهو الأرق الذي وجد مُتنفسه في طرح الأسئلة التي لا تخلو من غضب، فالراوي يتقمص صوت «الفتاة التي لم يعُد يعرف أحد اسمها»، ويسأل: «أما جمالها فما المغزى منه إذا كان قد حُكِم عليها بالتعاسة؟ والطيور التي حاولت أخذها إلى المجهول لماذا لم تُحاوِل مرّة ثانية؟ والعدل أين اختفى!».