هل غيّرت الحرب الأوكرانية الحسابات الاستراتيجية في أوروبا؟

العلاقة الألمانية ـ الفرنسية محورية... لكنها لا تخلو من الخلافات

هل غيّرت الحرب الأوكرانية الحسابات الاستراتيجية في أوروبا؟
TT

هل غيّرت الحرب الأوكرانية الحسابات الاستراتيجية في أوروبا؟

هل غيّرت الحرب الأوكرانية الحسابات الاستراتيجية في أوروبا؟

بعد ثلاثة أيام على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يوم 24 فبراير (شباط) الماضي، وقف أولاف شولتس، مستشار ألمانيا، أمام البرلمان الفيدرالي الألماني (البوندستاغ) ليكشف عن قرارات «ثورية» اتخذها رداً على ما وصفه بأنه «نقطة تحول» في أوروبا. كان رد شولتس على العملية الروسية بالإعلان عن تخصيص مبلغ 200 مليار يورو لزيادة قدرة الجيش الألماني الهرِم وزيادة الإنفاق العسكري ليصل إلى 2 في المائة، وهي النسبة التي يوصي بها حلف شمال الأطلسي (ناتو) للدول الأعضاء. وكشف شولتس أيضاً عن خطوات لتسريع الخروج من حالة الاعتماد على الغاز الروسي الذي تستورده بلاده، وكان هذان القراران، بالذات، بعيدين تماماً عن التصوّر قبل الحرب في أوكرانيا. إذ إن إضعاف الجيش الألماني عمداً طوال السنوات الماضية، والاعتماد الكبير على الغاز الروسي، كانا من أبرز السياسات التي سعت الحكومات الألمانية المتعاقبة منذ عقود لرسمها وتطبيقها.
لسنوات عديدة، تجاهلت الحكومات الألمانية - من اليمين واليسار - مناشدات حلفائها الذين كانوا يطالبون برلين بزيادة إنفاقها العسكري ووقف الاعتماد على الغاز الروسي. ولكن في لحظة واحدة، لحظة دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، تغيّرت المعادلة.
خطاب المستشار أولاف شولتس، وبالذات، في شقيه التسليحي والغازي، قابله الحلفاء بالكثير من الترحيب والارتياح. وبدا وكأن ألمانيا أوقفت أخيراً ترددها الذي تسبب لسنوات عدة بأرق مزعج لحلفائها ولا سيما في أوروبا. ولكن، مع هذا، لم تمرّ أسابيع معدودة على الخطاب التاريخي، حتى عادت الشكوك تساور الحلفاء بمدى جدية برلين والتزامها بالتحول فعلاً. ذلك أن المستشار الألماني تردّد في دعم عقوبات شاملة تفرض على القطاع المصرفي الروسي، وبدا متلكئاً في تأييد مطالب الدول الأوروبية بحظر الغاز والنفط الروسيين، كما رفض لأسابيع إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا.
كل هذه الأمور عادت لتطرح تساؤلات غير مريحة: هل عادت ألمانيا لتعتمد سياسة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل في المواربة وتأجيل اتخاذ القرارات؟ وهل كان خطاب شولتس حول «نقطة التحوّل» مجرّد كلمات أطلقت في لحظات عاطفية انتهت بعد أيام؟
ارتياح فرنسي
قد يكون أكثر مَن ابتهج بخطاب شولتس الذي تحدث فيه عن «نقطة تحوّل» في أوروبا، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي فاز خلال الأسبوع الماضي بولاية رئاسية ثانية جديدة.
ماكرون كان يحاول أن يدفع ألمانيا للانضمام إليه ودعم رؤيته لأوروبا أقوى وأكثر وحدة وتماسكاً منذ فوزه بالرئاسة في فرنسا عام 2017، بيد أن «سيد قصر الإليزيه» اصطدم آنذاك بمقاومة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التي رفضت الانسياق وراء «حلمه الأوروبي» وتوسيع سلطة «الاتحاد الأوروبي» على ألمانيا، وإصرارها – أي ميركل – على الحفاظ على علاقة «متميّزة» مع روسيا رغم التحذيرات الأوروبية والأميركية من أن موسكو قد تستخدم مزاياها الاقتصادية في ألمانيا للابتزاز السياسي.
ومع أن ماكرون لم يُقنع ميركل بتغيير سياساتها، ولم يكن متفائلاً جداً بأن يكون له شريكٌ ألماني يماثل تفكيره السياسي عندما خلف «الاشتراكي» شولتس «المحافظة» ميركل، فإن ما قاله المستشار الألماني في خطابه يوم 27 فبراير عن «بداية عهد جديد» قد يكون أعطاه بعض الأمل في أن الشريك الذي كان يبحث عنه في ألمانيا بات موجوداً. ذلك أن كلام شولتس عن العمل لتحقيق استقلالية أوروبية في مجال الطاقة، وتقوية الأسس الدفاعية لألمانيا وحدود الاتحاد الأوروبي انعكاس لرؤية ماكرون التي عرضها على ميركل بهدف تجديد الاتحاد الأوروبي، وهي التي رفضتها.
من ناحية أخرى، مع أن العلاقة بين أكبر قوتين اقتصاديتين في أوروبا لطالما كانت نقطة محورية داخل الاتحاد الأوروبي، فهي لم تكن يوماً خالية من الخلافات. وهذه خلافات تمتد من رؤية كل دولة لشكل الاتحاد الأوروبي ودوره، إلى مقاربة القضايا الدولية وإدارتها. وماكرون، الفائز للتو بولاية ثانية جديدة، قد يجد نفسه مرة أخرى مصطدماً بحواجز ألمانية تمنعه من تحقيق العديد من أهدافه الأوروبية، بعدما كان بدأ يأمل في إمكانية العمل مع برلين «المتحوّلة» إثر الغزو الروسي لأوكرانيا. ومن ثم، فالتردد الذي عاد ليتسرب إلى صناعة القرارات في برلين، لن يسهم بزيادة ثقة الرئيس الفرنسي بـ«شريكه» المستشار الألماني.
توريد السلاح نقطة خلافية
أيضاً، بينما حاول ماكرون - مثل شولتس - في بداية الحرب في أوكرانيا، مد يده إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإبقاء خط اتصال مفتوح معه، فإنه توصل بسرعة إلى قناعة بأن بوتين غير قابل للنقاش... وأن إبقاء خط اتصال مفتوح معه لن يساعد على إنهاء الحرب في أوكرانيا. وعليه، لم تتأخر باريس باتخاذ قرار ببدء إرسال أسلحة ثقيلة فرنسية الصنع إلى أوكرانيا. إلا أن شولتس، الذي استنتج أيضاً قلة جدوى الاتصالات التي كان يجريها مع بوتين، ظل متمسكاً بتحاشي توريد الأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا حتى لم يعد باستطاعته ذلك.
لقد بقي المستشار الألماني لأسابيع يدافع عن قراره بألا يتجاوب مع مطلب كييف التسليحي. وبرر ذلك تارة بالقول إنه يريد تفادي تصعيد الصراع خوفاً من توسيعه ليطول دول «ناتو»، وطوراً بالإشارة إلى أن ألمانيا تسعى لإرسال أسلحة بسيطة من بقايا العهد السوفياتي في ألمانيا الشرقية يجيد الأوكرانيون استخدامها، تفادياً لتورط الجيش الألماني أكثر بعمليات تدريب على أسلحة جديدة. ولكن في النهاية، قبل شولتس أخيراً بإرسال أسلحة ثقيلة ألمانية الصنع بعد حملة انتقادات داخلية وخارجية ما عاد باستطاعته احتواؤها.
السفير الأوكراني في برلين أندريه ميلنيك - الموجود في منصبه منذ عام 2014 حين احتلت روسيا شبه جزيرة القرم - لا يتردد بتوجيه انتقادات لاذعة للحكومة الألمانية، وهو ضيف دائم على برامج الحوار في القنوات الألمانية والصحف اليومية والأسبوعية. وقبل بضعة أسابيع قال ميلنيك إنه «لا حوار مع برلين حتى حول الأسلحة التي تحتاج إليها كييف». وجاء كلامه هذا رداً على وزيرة الدفاع كريستين لامبريشت، التي تنتمي لحزب شولتس (الديمقراطي الاشتراكي)، إذ قالت لامبريشت إن عدم إعلام الحكومة عن نوع الأسلحة التي تُرسل إلى أوكرانيا «لا يعني أنه لا أسلحة ترسل، بل هو تجاوب مع طلب أوكراني بالإحجام عن إعلان ذلك».
غير أن السفير الأوكراني لم يتردد بتكذيبها، ولم يكتفِ بذلك فقط، بل قال أيضاً: «لا حوار حتى حول نوع الأسلحة التي تحتاج إليها بلاده للدفاع عن نفسها». وبعد مجزرة بوتشا، قال السفير الأوكراني: «باستطاعة ألمانيا فعل المزيد... وستكون هناك بوتشا جديدة» ما لم تحصل بلاده على المزيد من الأسلحة الثقيلة.
من جهة أخرى، لم ينسَ ميلنيك أن المستشارة السابقة ميركل كانت قد رفضت تزويد بلاده بالسلاح بعد عملية روسيا الأولى عام 2014، بل نجحت حتى في إقناع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بالتصرف بالمثل. وللعلم، قبل أن تغيّر الحكومة الألمانية، قبل أيام، قرارها وتوافق على إرسال أسلحة ثقيلة وتدرب الجيش الأوكراني على استخدامها - في قرار صوّت عليه نواب البرلمان بغالبية كبيرة - كانت برلين تكتفي بإرسال أسلحة من مخزون الجيش الألماني من مخلّفات الاتحاد السوفياتي المتروكة في ألمانيا الشرقية سابقاً.
إلا أن فضائح كثيرة نشرت حول هذه الأسلحة التي قيل إن الكثير منها لم يكن يعمل، ووصلت إلى أوكرانيا تالفة. وحتى إن الصحافة الألمانية تداولت أخباراً حول لائحة أسلحة طلبتها أوكرانيا من ألمانيا، وعندما وصلت اللائحة إلى مكتب المستشار تقلصت من أكثر من 10 أنواع أسلحة مختلفة إلى مجرد ثلاثة.
انتقادات داخل الحكومة
ولم تقتصر الانتقادات الموجهة لشولتس فقط على كييف والسفير الأوكراني في برلين، بل كانت الأقوى تلك الآتية من داخل شركاء شولتس في الحكومة من حزب «الخضر» والحزب الديمقراطي الحر الليبرالي، إلى جانب المعارضة التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.
الحزبان الشريكان في الحكومة التي يرأسها الاشتراكيون، دفعا منذ تفجّر الأزمة لتسليح أكبر لأوكرانيا ويحاولان الآن جر الاشتراكيين لصفهم. وقبل موافقة شولتس على إرسال أسلحة ثقيلة قبل أيام، قال النائب عن حزب «الخضر» أنتون هوفرايتر «إن المشكلة في المستشار. على أولاف شولتس أن يثبت وجوده في أوروبا. أينما أسافر في أوروبا أتلقَّ السؤال نفسه: أين هي ألمانيا؟. وانتقادات شبيهة عبرت عنها ماري-أغنس شتراك-زيمرمان، عضو البرلمان عن الحزب الديمقراطي الحر، التي قالت إن على شولتس «الإمساك بالعصا وضبط الإيقاع»، ملمحة إلى أنه لا يتخذ موقفاً قيادياً في الأزمة.
كذلك، الانتقادات التي تحيط بشولتس توجهها إليه الصحافة الألمانية التي تدعو في افتتاحيات لمواقف أكثر تشدداً من روسيا. وتنتقد تردده في اتخاذ قرارات حول تسليح ووقف واردات الطاقة الروسية. فكتبت «دير شبيغل»، قبل أيام، إن «المستشار الألماني ليس أبداً الأول، وغالباً الأخير عندما يتعلّق الأمر بالرد في هذه الحرب، أما السبب خلف تصرفاته، أو غيابها، فيبقى لغزاً». وأردفت: «في الأشهر الماضية، أظهر شولتس أمراً واحداً، هو أنه لا يتخذ قراراً إلا عندما لا يعود أمامه خيار آخر».
وفي هذا الوصف الكثير من السمات التي طبعت ميركل قبله، فهي أيضاً كانت تماطل في اتخاذ قرارات صعبة، وكان أسلوبها تأجيل اتخاذ قرار إلى أن لا يعود أمامها خيار آخر، وغالباً ما كانت تأتي قراراتها متأخرة وكرد فعل على حدث بعد وقوعه.
وحقاً، حاول شولتس التشبه بميركل في حملته الانتخابية، إذ قال إن انتخابه سيكون «إكمالاً» لسياستها. وهو يعتمد الأسلوب الهادئ ذاته في الكلام، متجنباً ردات الفعل السريعة والقرارات المستعجلة. لكن سرعة اتخاذ قرارات بعد بدء الحرب في أوكرانيا، إن كانت حول زيادة الإنفاق العسكري أو وقف مشروع «نورد ستريم 2»، أعطت الانطباع بأنه مختلف عن ميركل التي ما كانت لتتخذ قرارات مثيلة بهذه السرعة، بحسب محللين.
دفاع عن ميركل وشتاينماير
شولتس دافع في مقابلة «دير شبيغل» أيضاً عن سياسات ميركل والرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير (اشتراكي) المتهم أيضاً من كييف، التي رفضت استقباله، بالحفاظ على علاقات وثيقة داخل روسيا. إذ قال إنه لا يمكن تحميل أي منهما مسؤولية ما يحدث اليوم في أوكرانيا، «لقد بذلا ما في وسعهما لمنع ما يحدث وخلف نظام في أوروبا، حيث لا تحتل أي دولة الأخرى». وتابع: «الواقع أن هذه السياسة لم تنجح في تحقيق أهدافها، ليس بسبب ميركل أو شتاينماير، بل بسبب إمبريالية بوتين الذي ضرب - على حد قوله - بعرض الحائط كل الاتفاقيات والتفاهمات التي تم التوصل إليها».
وبالفعل، فإن هذه السياسات من التقارب والوفاق التي اعتمدتها ألمانيا في العقود الماضية، دمرتها لحظة دخول روسيا إلى أوكرانيا. وحتى وإن كانت ردود فعل شولتس بطيئة بنظر منتقديه، فهي غيّرت سياسة ألمانيا الخارجية والدفاعية والاقتصادية بشكل كبير.
قد يستغرق وقف الاعتماد على الغاز الروسي سنوات، لكنه في النهاية سيحصل. وعندما يحصل، ستكون ألمانيا قد أعادت كتابة علاقتها مع روسيا وألغت عقوداً من التقارب عملت عليها الحكومات ال - وهو تحدٍّ سيواجه الرئيس الفرنسي أيضاً في السنوات المقبلة - هو إبقاء ألمانيا ملتزمة بأوروبا أقوى وبميزانية دفاعية تصل إلى 2 في المائة التي يوصي بها «ناتو» للدول الأعضاء. فجيش ألماني قوي «لم يعد يخيف أوروبا»، بكلمات شولتس نفسه، الذي قال أيضا إن «الديمقراطية في ألمانيا التي نتجت عن الكارثتين في الحربين العالميتين كفيلة بإبعاد هذه المخاوف».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».