ساحة «جامع الفنا» في مراكش تستعيد نشاطها تدريجياً

مظاهر التعافي تعود إلى ساحة «جامع الفنا» تدريجياً
مظاهر التعافي تعود إلى ساحة «جامع الفنا» تدريجياً
TT

ساحة «جامع الفنا» في مراكش تستعيد نشاطها تدريجياً

مظاهر التعافي تعود إلى ساحة «جامع الفنا» تدريجياً
مظاهر التعافي تعود إلى ساحة «جامع الفنا» تدريجياً

التجول في ساحة جامع الفنا بمراكش هذه الأيام، لا يمكن إلا أن ينقل شعوراً يمتزج فيه تعب الخروج من أشهر طويلة من الأزمة الصحية، التي طالت تداعياتها القطاع السياحي عبر العالم، وتفاؤل حذر بتجاوز الوضع الذي أثر بشكل واضح على مختلف المتدخلين والفاعلين في القطاع السياحي.
وشكلت هذه الساحة الشهيرة، على مدى العقود الماضية، القلب النابض لمراكش على المستوى السياحي، بحيث لا يمكن لمن يقصد المدينة الحمراء للسياحة والاستجمام أن يعطي لزيارته معنى وقيمة دون النزول ضيفاً عليها، وهي الزيارة التي لا تتوقف عند حدود الساحة بمطاعمها ومنشطيها الحكواتيين والفكاهيين ومروضي الأفاعي وغيرهم، بل تمتد إلى عمق المدينة القديمة، حيث الأسواق على غرار «سوق السمارين»، والمآثر التاريخية والمزارات السياحية على غرار «مدرسة بن يوسف» «ومتحف مراكش» و«القبة المرابطية».


زوار ورواد ساحة «جامع الفنا» يعودون إليها كما في السابق

وبعد تفجر الأزمة الصحية جراء تفشي وباء (كورونا) عبر العالم، وما ترتب عنها من إعلان حالة الطوارئ وإجراءات شملت تقييد حظر التجول وتقييد التنقل بين المدن وإغلاق الحدود، لتقفر الساحة لأشهر من روادها وزوارها، في سابقة كانت الأولى من نوعها في تاريخها، يبدو أن الأمور في طريق العودة إلى نصابها هذه الأيام، بشكل يمكّن هذه الساحة من استرجاع عافيتها والعودة إلى ما كانت توفره لزوارها من متعة استجمام وبهجة حكي وأكل وشرب، ولمسيري المطاعم وحرفيي الحلقة والفرجة والتراث ومختلف الفنون، فرصة العودة إلى نشاطهم الاقتصادي والفرجوي المدر للدخل.
وعُرف عن ساحة جامع الفنا، إلى لحظة تفشي وباء (كورونا) قبل نحو سنتين، أنها الساحة الوحيدة في المغرب، وربما في العالم، التي لم يكن يؤثر في نشاطها لا برد الشتاء ولا حر الصيف، ولا مباريات المونديال أو منافسات الأولمبياد، وغيرها من الأحداث والتظاهرات المحلية والعالمية. وحدها «كورونا»، وما فرضته السلطات من تدابير احترازية للحد من تفشي الوباء، أجبر «جامع الفنا» أن يغير عادته، على مضض، لتتحول، على مدى أشهر، إلى ساحة خالية من عناصر الحياة التي عرفت واشتهرت بها.
لا شك أن الرواج السياحي هذه الأيام، في مراكش بشكل عام، وفي ساحة «جامع الفنا» بشكل خاص، ليس كما كان قبل تفشي (كورونا)، فالتأثير الكبير للجائحة لافت ولا تخطئه العين؛ لكن هذه الدينامية البطيئة للنشاط الاقتصادي والإقبال المحدود إلى حد ما، على المنتوج السياحي، كلها أشياء تبقى، كما يؤكد زوار الساحة وروادها على حد سواء، أفضل بكثير من لحظات الحجر القاسية. فالأهم هو أن يترك العالم «كورونا» وراءه، وأن تستعيد الساحة حيويتها ونشاطها المعهودين شيئاً فشيئاً، وتتزايد أعداد السائحين، من داخل المغرب وخارجه.
وتزامنت بدايات التعافي النسبي للساحة والمدينة على مستوى استعادة النشاط الاقتصادي، واستقبال السائحين من الداخل والخارج، مع حلول شهر رمضان.


                    تشكل ساحة «جامع الفنا» القلب النابض لمراكش على المستوى السياحي

للتجول في ساحة جامع الفنا، خلال هذا الشهر الكريم، طعم خاص وطقوس مختلفة عن معظم أحياء مراكش، بحكم توجهها السياحي الذي يجعل منها قبلة لزوار من ثقافات مختلفة.
وبقدر ما يدفع شهر رمضان المغاربة إلى تغيير نمط حياتهم اليومية لتلائم طقوسه، لا يجد السائح الأجنبي صعوبة للتأقلم مع الوضع، في مدينة لا توفر فرصة التعامل مع وضعيتها كوجهة سياحية عالمية تتطلب منها أن تكون عند أفق تطلع زوار من ديانات وأعراق وخلفيات ثقافية متنوعة ومختلفة، لذلك يعمل عدد من المطاعم والمقاهي على فتح الأبواب للسائحين خلال ساعات النهار والصيام، فيما تواصل ساحة جامع الفنا عملها بتقديم خدماتها وفرجتها بنفس الإيقاع اليومي، تقريباً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)