إيفا جانادان: مسألة الإسلام في فرنسا طُرحت بأسوأ الأشكال أثناء الانتخابات

صدور العدد الخامس من المجلة الفصلية «الإسلام في القرن الحادي والعشرين»

سيران أتيس
سيران أتيس
TT

إيفا جانادان: مسألة الإسلام في فرنسا طُرحت بأسوأ الأشكال أثناء الانتخابات

سيران أتيس
سيران أتيس

صدر أخيراً عدد جديد من المجلة الفصلية المرموقة «الإسلام في القرن الحادي والعشرين» التي تريد تنوير المسلمين عن طريق إخراجهم من عقلية القرون الوسطى وإدخالهم في عقلية الحداثة وأجواء القرن الحادي والعشرين الرحبة المتسامحة من دون إفراط ولا تفريط. وهذا ما فعله أسلافهم العظام من أمثال ابن رشد وابن سينا والفارابي عندما أخرجوا أوروبا من ظلاميات العصور وأناروهم ونوّروهم وساعدوهم على تحقيق نهضتهم المقبلة. وبالتالي فهذي بضاعتنا ردت إلينا. فالتنوير كان عربياً إسلامياً في البداية قبل أن يصبح أوروبياً. نحن السابقون وهم اللاحقون. والسلام على من اتبع الهدى. وقد اشتملت المجلة على عدة فصول. الفصل الأول كتبته إيفا جانادان، الباحثة الضليعة المختصة في شؤون الفكر الإسلامي، قديمها والحديث. وهو عبارة عن استعراض مطول للمداخلات والأفكار التي وردت في مؤتمر المؤسسة، الذي عقد مؤخراً في قصر اليونيسكو. وسوف نعود إليه مطولاً بعد قليل نظراً لأهميته وشموليته وعمقه الفكري. وأما الفصل الثاني فقد كان بعنوان؛ الإسلام والبيئة، أو الإسلام وعالم الحيوان. حقل لاهوتي للاكتشاف أو إعادة الاكتشاف. وقد كتبه الباحث أوميرو مارونغيو - بيريا. وهو عالم اجتماع مختص بدراسة الإسلام في فرنسا. كما أنه عالم دين لاهوتي منخرط في عملية الحوار بين الأديان، وبالأخص بين الإسلام والمسيحية. نذكر من بين مؤلفاته ما يلي؛ لقد آن الأوان لكي نتخلص من الأفكار الخاطئة عن الإسلام والمسلمين. ثم كتاب؛ مسلمو فرنسا... المحنة الكبرى... إلخ.
وأما الفصل الثالث من المجلة فقد كتبه الباحث المغربي الأصل مروان سيناصر، وكان بعنوان؛ هل الحجاب إسلامي حقاً؟ المقصود؛ هل هو محصور بالإسلام فقط، كما يتوهم كثيرون، أم أنه كان شائعاً لدى الأديان والحضارات السابقة أيضاً؟
وأما الفصل الرابع والأخير فهو عبارة عن مقابلة ممتعة ومطولة مع الباحثة التركية الأصل، الألمانية الجنسية، سيران آتيس. وهي ليست فقط كاتبة، وإنما محامية أيضاً، ولها مكتب خاص في برلين. وكانت قد وفدت إلى ألمانيا مع عائلتها عام 1969 وهي في سن السادسة فقط. وهي صاحبة عدة مؤلفات تدافع فيها عن حقوق المرأة وحقوق الرجل على حد سواء. وهي منذ أكثر من 35 عاماً أحد أهم الأصوات المنددة بالعنف اللاهوتي البطريركي التقليدي ضد المرأة. نضيف إلى ذلك المعلومة الهامة التالية؛ لقد دشنت مؤخراً في العاصمة الألمانية برلين مسجداً بعنوان جميل هو؛ مسجد ابن رشد - غوته. غني عن القول إنها تنتمي إلى التيار الليبرالي المستنير داخل الإسلام. وهي تقول ما معناه؛ فكرة تأسيس مسجد ليبرالي باسم «ابن رشد - غوته» خطرت على بالي، بعد أن شاركت لمدة 4 سنوات في أعمال المؤتمر الألماني الكبير عن الإسلام. وقد فعلت ذلك بعد أن لاحظت للأسف الشديد أن معظم المنظمات والجمعيات الإسلامية في ألمانيا متزمتة عموماً ولا تمثلني بصفتي مسلمة ليبرالية متسامحة. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى، فبالإضافة إلى كوني مسلمة روحانية مؤمنة بالله، فإنه كان ينقصني وجود مسجد يتناسب مع قناعاتي الدينية وأسلوب حياتي. هذا، وقد لاحظت أن كثيراً من الأشخاص من مسلمين ومسلمات يرغبون بوجود مسجد ليبرالي مستنير في ألمانيا. ولكن لماذا أطلقتم عليه اسم ابن رشد - غوته؟ على هذا السؤال تجيب الباحثة التركية - الألمانية، قائلة ما معناه؛ صحيح أن ابن رشد العربي المسلم (1126 - 1198) ينتمي إلى عصر مختلف تماماً عن عصر غوته الألماني المسيحي (1749 - 1832). وذلك لأنه تفصل بينهما 7 قرون. لكن هناك تشابهات مشتركة فيما بينهما. فكلاهما كان عالماً كبيراً ذا فضول معرفي واسع جداً. وكلاهما كان يشكل جسراً أو صلة وصل بين الشرق والغرب. وكلاهما كان منفتحاً على عدة أديان وعدة ثقافات وعدة رؤى للعالم. فابن رشد كان منفتحاً جداً على الفلسفة اليونانية وبخاصة فلسفة أرسطو كما هو معلوم. وأما غوته فكان منفتحاً على الحضارة الإسلامية ومعجباً بها جداً. انظروا بهذا الصدد كتابه الشهير؛ الديوان الشرقي. وبالتالي، فكلاهما ركز على ما يجمع بين الشرق والغرب، لا على ما يفصل بينهما. كلاهما ركز على المحبة والتسامح بين الأديان المختلفة، لا على الكراهية والتعصب. وبالتالي، فهما يشكلان رمزاً كبيراً لنا. وهذا الرمز يساعدنا على بلورة مفهوم جديد ومنفتح ومتسامح عن الإسلام. وهو مفهوم أصبح ضرورياً جداً لمواجهة المد الزاحف للمفهوم الظلامي المسيطر حالياً على أوساط الجاليات الإسلامية في الغرب. نعم، إن المثال العالي لابن رشد وغوته يساعدنا على التعايش بعضنا مع بعض، على الرغم من الاختلاف في الدين والعقيدة والعرق والأصل.
لكن لنعد الآن إلى بعض محاور المداخلة المطولة التي تفتتح المجلة، والتي كتبتها الباحثة المرموقة إيفا جانادان. إنها تقول لنا ما معناه؛ عندما نراقب عن كثب الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية، ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أن مسألة الإسلام مطروحة من أسوأ أبوابها، وبخاصة لدى جماعات اليمين المتطرف. إنها مطروحة من زاوية الكره والحقد ورفض الآخر، أي الإنسان المسلم هنا. لا يوجد أحد في الحقل الإعلامي لكي يقول للناس إن الإسلام ليس هكذا. لا أحد يقول للناس إن الإسلام لا يتطابق مع الصورة المخيفة التي يقدمها عنه المتطرفون الشعبويون، وإنما هناك مفهوم آخر للإسلام غير هذا. للحق والإنصاف، فإن معظم القادة الفرنسيين المستنيرين يفرقون بين الإسلام كدين روحاني وعالمي كبير، وبين تيار الإسلام السياسي المتطرف والمتعصب الذي يتعاطف مع «القاعدة» و«داعش». قادة اليمين المتطرف وحدهم لا يفرقون. وبالتالي، فلا ينبغي خلط الأمور بعضها ببعض. لا ينبغي الخلط بين اليمين المعتدل واليمين المتطرف. لقد أصبح الاندماج عملية مؤلمة مرادفة للتفكك والانقسام، في وقت يتزايد فيه التمييز ضد الأشخاص ذوي الأصول المغاربية، بالمعنى الواسع للكلمة. هذا من جهة. ولكن من جهة أخرى، نلاحظ ظاهرة معكوسة، وهي أن فرنسا تظل البلد الأوروبي الأول من حيث الانفتاح على الآخر، على الغريب المهاجر. والدليل على ذلك كثرة الزيجات المختلطة بين الفرنسيين الأصليين والمهاجرين المسلمين. وبالتالي، يوجد هنا تناقض كبير بين انفتاح فرنسا على الآخرين وانغلاقها. وهذا يعني أن فرنسا ليست ذلك البلد العنصري الذي يتحدثون عنه. إنها أكبر من ذلك. فهي تظل على الرغم من كل شيء بلد الأنوار والثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي قدمته كهدية للعالم كله عام 1789. إنها بلد الشعار الشهير المنقوش بأحرف من نور على جميع المباني الرسمية للدولة الفرنسية؛ حرية، مساواة، إخاء.


حكيم القروي

لتشخيص المشكل بشكل أعمق، يقول لنا الباحث الكبير المطلع حكيم القروي ما يلي؛ لأن بعض الشباب المسلمين الفرنسيين لم يجدوا لهم مكانة في المجتمع الفرنسي، ارتموا في أحضان الجماعات «الإخوانية» والسلفية المتطرفة. لو أنهم وجدوا فرص العمل والعناية والرعاية والمكانة اللائقة لما انخرطوا في صفوف الجهاديين الدمويين. ثم يطرح الباحث هذا السؤال؛ كيف يمكن أن نفهم أن 90 في المائة من المتطرفين هم ذوو جنسية فرنسية ولغة فرنسية وثقافة فرنسية، على الرغم من أن أصولهم مغاربية؟ ثم بالأخص كيف يمكن أن نفهم أن 30 في المائة منهم هم من أصل فرنسي قحّ؟ لقد اعتنقوا الإسلام لأول مرة، ثم أصبحوا جهاديين متطرفين. على أي حال، لا ينبغي أن نتحدث بعد اليوم عن المناطق التي خسرتها الجمهورية الفرنسية، وإنما عن المناطق التي أهملتها الجمهورية الفرنسية. فهناك ضواحي كثيرة وأحياء فقيرة محرومة من التعليم والمعلمين، من رجال الأمن والشرطة، من الأطباء والمشافي الصحية... إلخ. وبالتالي، فالحل الوحيد لعلاج مشكلة التطرف هو استثمار الأموال الضخمة في ضواحي الإسلام المحيطة كزنار بالمدن الفرنسية وتطويرها وإشعارها بالأمل. فهنا سوف يُحسم مصير فرنسا، هنا ينبض قلبها. ولكن هنا أيضاً يمكن أن يتوقف قلبها عن الخفقان إذا لم تنتبه الدولة إلى هذه المسألة الضخمة؛ إخراج الضواحي المهمشة من عزلتها وفقرها وكآبتها، حيث يكثر العاطلون عن العمل، وحيث ينعدم الأمل، وحيث انسدت في وجوههم الآفاق. هذه مسألة هامة جداً جداً. ولكن هناك مسألة أخرى لا تقل أهمية تتعلق بضرورة مكافحة ظاهرة التطرف الديني وتحجيمها ووضع حد لها. فالمسألة ليست مادية فقط، وإنما فكرية أيضاً. وهنا ينبغي على المثقفين أن يبلوروا فكراً جديداً مستنيراً عن تراث الإسلام الكبير. فهو تراث ضخم حمال أوجه، ولا يمكن اختزاله في التيار الظلامي الذي يؤمن «بالعنف المقدس» ويحلل التفجيرات العشوائية شرعاً. هذا ليس من الإسلام، وإنما من الإجرام. فالإيمان بالله والعنف شيئان متناقضان لا يجتمعان. والفهم الصحيح للإسلام يحرم العنف الديني، ولا يعتبره مقدساً على الإطلاق. إنه يرفض ارتكاب العنف باسم الدين رفضاً قاطعاً. فالإسلام جاء رحمة للعالمين، لا نقمة عليهم. ينبغي على المثقفين أن يبلوروا فكراً جديداً مستنيراً قادراً على مواجهة التيار المنحرف الخاطئ الذي شوّه صورة الإسلام في شتى أنحاء الأرض. ينبغي أن يعيدوا قراءة النصوص التراثية على ضوء المنهجية الحديثة التاريخية - النقدية. وإلا فلن نخرج من المشكلة، ولو بعد ألف سنة! هذا التجديد الرائع للفكر الديني هو الحل والمنقذ والخلاص. وهذا ما تحاول أن تفعله مجلة «الإسلام في القرن الحادي والعشرين».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!