«ضد أمازون»... ماذا فعلت العولمة في صناعة الكتاب؟

خبير نشر إسباني يرى أنها تحول القارئ إلى متلقٍ سلبي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«ضد أمازون»... ماذا فعلت العولمة في صناعة الكتاب؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يرصد الباحث وخبير النشر الإسباني خورخي كاريون في كتابه «ضد أمازون» تداعيات العولمة على مهنة النشر وتأثيراتها التي يراها سلبية للغاية بل تكاد تكون مدمرة. ويضرب في الكتاب الصادر عن دار «العربي» بالقاهرة، ترجمة شرقاوي حافظ، مثالا بإحدى المكتبات العريقة التي ظلت لمدة خمسة وخمسين عاما المكتبة الرئيسية لدار النشر «جوستاف جيلي»، والآن بعد التجديدات التي بلغت تكاليفها عدة ملايين من اليوروهات أصبحت المقر الرئيسي لعملاق البيع الإلكتروني «أمازون» في نسخته المحلية بفضل الكفاءة والإنجاز الفوري اللذين يتمتع بهما على مستوى التجارة التسويق ولكن على حساب قيم أخرى مثل العراقة والتاريخ.
ويضرب المؤلف مثالا آخر بمكتبة «كاوندا» الإسبانية التي أغلقت عام 2013 بعد أكثر من ثمانين عاما من إنشائها، وأصبحت الآن مقرا ضخما لمحل «مانجو» للملابس، كما صارت مكتبة كاليفورنيا بعد أكثر من مائة عام فرعا لماكدونالدز بديكور معاصر بسيط فتحولت المصادرة والإحلال أمرا فعليا في الواقع، ورمزا تتناثر في غباره ظلال لإرث ثقافي.
على ضوء ذلك يرى خورخي كاريون مؤلف الكتاب الشهير «زيارة لمكتبات العالم»، أن أمازون ليست بمكتبة بل «هايبر ماركت» حيث تجد في منافذ الكتب المقرمشات والألعاب والزلاجات وترى في منافذها الكتب معروضة بواجهة الكتاب وليس كعبه لأنه لا تعرض إلا 6000 عنوان من الكتب «الأكثر مبيعا»، والتي ليست الأكثر قيمة بالضرورة، حيث عدد عملائها أقل بكثير من العدد الموضوع على أرفف المكتبات الأخرى الأصلية التي تخاطر لإعطاء الكتب الأخرى فرصة.
ويؤكد كاريون أن «أمازون» تدرس تكرار التجربة نفسها عن طريق إنشاء سلسلة من محلات السوبر ماركت، فمن وجهة نظرها لا فرق بين المؤسسات الثقافية ومحلات بيع الأطعمة والسلع الأخرى، مشيرا إلى أنه عندما قدمت أمازون «كيندل» القارئ الإلكتروني للكتب في 2007 نجحوا في تقليد شكل الصفحة المطبوعة ودرجة الحبر ولكن لحسن الحظ أنهم لم يتمكنوا بعد من تقديم ملمس ورائحة الورق، وسواء شئنا أم أبينا فإننا أصبحنا عاجزين عن التفرقة بين الكتاب الرقمي والكتاب الورقي، لكن لحسن الحظ فإن التغيرات الصناعية تتم بسرعة والتغيرات العقلية تتم بصورة أبطأ.
وحول تقنيات العمل يرى كاريون أن ما يقوم به العاملون في أمازون هو عمل ديناميكي لا شك في هذا، وهكذا كان دائما منذ عام 1994 حينما بدأ خمسة أفراد في العمل من جراج مديرهم في سياتل حيث كانوا مهووسين بالسرعة واستمر الأمر على هذا المنوال لمدة عشرين سنة عبر قصص مليئة بكثير من الإجهاد والمضايقات والظروف اللاإنسانية في العمل من أجل إنجازه بكفاءة رهيبة لا توفرها إلا آلة.
ويساعد العاملون في أمازون إنسانا آليا اسمه «كيفا» لديه القدرة على رفع حمولة قدرها 340 كيلوغراما ويسير بسرعة متر ونصف المتر في الثانية. ينسق الكومبيوتر العمل بين العاملين والإنسان الآلي، فيجهزون هم البضاعة من على الأرفف لتسهيل جمع المنتجات ومتى جمعوا السلع التي اشتراها العميل جمعتها آلة أخرى اسمها «سلام» على سير الناقل الضخم. إن كيفا وسلام هما نتيجة لأبحاث تمت عل مدى سنوات حيث نظمت أمازون مسابقة لتصنيع الإنسان الآلي في إطار مؤتمر دولي في سياتل وذلك بتصميم إنسان آلي يعمل بتقنية أوتوماتيكية لتجهيز الطلبات!
ويذكر كاريون أنه في إحدى السنوات كان على الآلات التي صممها أكبر معاهد التكنولوجيا مثل معهد، «mti»، أو الجامعة التقنية ببرلين إعداد تقنية ما لجمع بطة بلاستيكية أو لتغليف علبة بسكويت أو تجميع دمية على شكل كلب أو كتاب وذلك في أقصر وقت ممكن، ففيما يخص أمازون لم يكن هناك فروق أساسية بين كل تلك السلع فهي كلها متساوية ولكن الأمر ليس كذلك فيما يخصنا.
لقد تخلصت أمازون من العامل البشري تدريجيا. في السنوات الأولى استخدمت أشخاصاً لكتابة مراجعات عن الكتب التي تباع والآن لا يوجد أي وسيط. من الواضح أن الشيء الوحيد الذي يهم أمازون هو سرعة وكفاءة أداء الخدمة وذلك دون وجود وساطة فكل شيء تقريبا آلي وفوري ومع ذلك يوجد كيان اقتصادي وسياسي ضخم خلف هذه العمليات الفردية، كيان يضغط على دور النشر من أجل زيادة أرباح أمازون من كتبهم كما تفعل مع صانعي الزلاجات ومنتجي البيتزا المجمدة.
كيان كبير هو من يحدد ماذا نرى وما يصل إلينا وما الذي سيؤثر فينا، أي ببساطة أنه كيان يشكل مستقبلنا.
ويخلص كاريون إلى أنه لا يوجد بائع للكتب في أمازون فقد أبعد أي اقتراح لاستخدام أي تدخل آدمي لأنه غير فعال ويعرقل السرعة وهي القيمة الأساسية التي تقوم عليها الشركة. والحقيقة فإن الاقتراحات التي تقدمها أمازون للمشتري على موقعها ما هي إلا لوغاريتمات معقدة غير معتمدة على العنصر البشري وهو ما يضمن أعلى مستوى من السرعة والسهولة فالآلة تحول القارئ وكذلك العميل إلى مجرد ملتق سلبي.



كاميل كلوديل تتحرر من رودان في برلين

كاميل كلوديل
كاميل كلوديل
TT

كاميل كلوديل تتحرر من رودان في برلين

كاميل كلوديل
كاميل كلوديل

في حين كنت أتأمل منحوتات كاميل كلوديل في المتحف الوطني القديم ببرلين، خُيل إليّ أن إيزابيل أدجاني تتجول هي الأخرى بين تلك الأعمال الفنية. عام 1988 تعرَّف العالم على كلوديل من خلال أدجاني في فيلم حمل اسم «النحاتة الفرنسية» التي كانت مجهولة قبله؛ بسبب وقوعها تحت سطوة شهرة عشيقها النحات أوغست رودان، الذي مثل جيرار دوبارديو دوره في الفيلم. الشقيقة الكبرى للشاعر بول كلوديل وكانت تكبره بـ4 سنوات قضت الـ30 سنة الأخيرة من عمرها في مصح بعيدة عن الأنظار؛ بسبب إصابتها بالجنون. لم تعرف الشهرة في حياتها على الرغم من أن بعض نقاد الفن يعتقد أن عدداً من منحوتات رودان تحمل بصماتها.

عام 1905 نظم يرجين بلو، وهو صاحب قاعة فنية بباريس، معرضاً مشتركا لكاميل كلوديل (1861 - 1939) ونحات ألماني شاب هو برنهارد هوننغر (1871 - 1949). لم ينل ذلك المعرض الطليعي حظه من الاهتمام الكافي؛ بسبب عصف التحول الذي كان يتعرَّض له تاريخ الفن في تلك المرحلة التي مهّدت لظهور مدارس فنية سيكون لها أثرها في صياغة الرؤية الفنية في القرن العشرين مثل، «الدادائية» و«التكعيبية» و«السريالية»، إضافة إلى ما نتج عن تأثير الرسام الفرنسي بول سيزان من انقلابات جذرية في الرؤية الفنية. بعد 120 سنة تتم استعادة ذلك المعرض ليكون مناسبةً لإنصاف المرأة التي غدر بها الحب ولم يعفها الجمال من جنونه.

من أعمالها

لم تفلت من قدرهاذهبتُ إلى المتحف الوطني ببرلين أملاً في رؤية أعمال كاميل كلوديل. لم أرَ لها منحوتة من قبل. رأيت عشرات من أعمال مُعلمها وحبيبها أوغست رودان، سواء في متحفه الشخصي بباريس أو في المتاحف الأوروبية الأخرى، وفي مقدمتها «متحف فيكتوريا وألبرت» بلندن. رغبتي الملحة في رؤية أعمال كلوديل حالت دون أن أقف مطولاً أمام منحوتات برنهارد هوننغر الذي لا تقل أعماله مستوى وقيمة عنها.

المرأة التي لم تتحرَّر من هيمنة النحات والرسام الانطباعي إلا عن طريق الجنون، نجحت في التحرُّر منه بوصفها فنانة. 12 عملاً من كلوديل تكفي لتأكيد مصداقية عنوان المعرض «التحرُّر من رودان». لقد بدت كلوديل في منحوتاتها فنانةً مستقلةً في موضوعاتها ومعالجاتها الشكلية ومفرداتها وتقنياتها. وكان منسقو المعرض قد لجأوا إلى عرض عدد من منحوتات رودان، وبالأخص منحوتته الشهيرة «المفكر» من غير أن يعلنوا أنهم يقومون بذلك من أجل تأكيد نظريتهم المستلهمة من شخصية كلوديل المستقلة.

انتمت كاميل، أو «كامي»، إلى محترف رودان لتتدرج من متدربة، إلى مساعدة، إلى عشيقة، إلى ملهمة. لم يكن في إمكانها أن تفلت من قدرها الذي سلّمها إلى الجنون. وعلى الرغم من إعجابها برودان فناناً وإنساناً، فإنها نجحت في صنع مسافة تفصلها عنه على المستوى الفني وقد يكون ذلك واحداً من أهم أسباب انهيار العلاقة العاطفية بينهما. كان رودان نحاتاً كلاسيكياً برؤى انطباعية، بينما حرصت كامي على أن تفلت بفنها من المعايير الكلاسيكية لتخلص لانطباعيتها في مشاهد، لم تكن من خلالها تستعرض مهاراتها التقنية كما كان يفعل مُعلمها. تفوَّقت بإنسانيتها عليه على الرغم من أن رودان نفسه كان قد حاول أن يفجّر عاطفته الإنسانية كما في تمثال «القبلة».

أنوثة جرى تغييبها

تعلمت كامي التقنيات الخفية لفن النحت من مُعلمها رودان، هل كان مسموحاً لها بأن تتفوَّق عليه نحتياً؟ كان ذلك السؤال الهدام جزءاً غير معترف به من العلاقة العاطفية الملتبسة التي أفقدتها عقلها. لقد قاومت المتدربة تأثيرات مُعلمها، الذي كانت وما زالت ملهمته، وهوما أوحى له بأن يدفع بها إلى المنطقة التي تتخلى فيها عن فنها. كان الجنون بسبب الحب الفاشل مصيرها. غير أن التاريخ يثبت أن الفن يبقى. ما لم يكن يفكر رودان فيه أن يُقام احتفال لكامي في المتحف الوطني ببرلين. ولا أظن أن كلوديل نفسها كانت قد فكَّرت في إمكانية وقوع حدث من هذا النوع بعد أكثر من 90 سنة من وفاتها. وليس من باب المبالغة القول إن كامي كانت قد انفردت في سنٍّ مبكرة بفنها بعيداً عن رودان. وهو ما كان مسكوتاً عنه، وبالأخص حين عُرضت أعمالها في باريس عام 1905. كان رودان يومها مهيمناً على عالم النحت بمنحوتته «عالم البرونز». أما في الأعوام التالية فقد طوى النسيان كاميل وفنها، بحيث إن مؤرخي فن النحت في القرن العشرين لم يذكروها إلا بشكل عابر. المرأة التي أضفت على قوة التعبير وصلابته نوعاً من الرقة، واستلهمت الشهوة الخفية التي تسيل في شرايين كائناتها في بناء عالم إنساني بملامح أنثوية جرى تغييبها في سياق رؤية ذكورية كان رودان بقبلته الشهيرة وتمثاليه «المفكر» و«بلزاك» عنوانها. اليوم إذ يُعاد الاعتبار إلى كاميل كلوديل فإن قراءة نقدية جديدة لتاريخ النحت تحل محل القراءة القديمة.

يؤكد المؤرخون أن هناك تمثالين على الأقل وقّعهما رودان نحو عام 1885 كانا من صنع كلوديل

هل نحتت كاميل أعمالاً لرودان؟

لم تكن مدرسة الفنون الجميلة تقبل النساء بين منتسبيها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لذلك انتسبت كاميل إلى «أكاديمية كولاروسي»، التي كان يشرف عليها النحات بوشيه ولكنه بعد فوزه بجائزة «صالون باريس»، اضطر للسفر إلى إيطاليا عام 1882 فبحث عن بديل له. يومها عهد بتلاميذه الصغار إلى رودان، الذي أُعجب بالأعمال الأولى التي عرضتها عليه كاميل كلوديل. صارت واحدة من مساعداته، ويُقال إنها أبدعت في نحت الأيادي والأقدام التي صارت جزءاً من عالم رودان، وهي في ذلك لم تقف عند حدود تأثيره. كان إعجابها بأعمال دوناتيلو وسواه من نحاتي عصر النهضة قد قادها إلى العثور على مصادر إلهام بعيدة.

عام 1889 كتبت رسالةً إلى وزير التعليم العام والفنون الجميلة تقول فيها: «لقد كنت أصنع المنحوتات لمدة 7 سنوات وأنا تلميذة السيد رودان». الخلط بين مهارتَي كاميل ورودان كان محتملاً نظراً لتشابه حساسيتهما وتقاربهما الأسلوبي. يؤكد المؤرخون أن هناك تمثالين على الأقل وقّعهما رودان نحو عام 1885 كانا من صنعها. مع ذلك فقد ظُلمت كلوديل حين جرى حصرها في مجال المقارنة برودان. في نهاية حياتها الفنية انصبَّ اهتمامها على سرد تفاصيل سيرتها العاطفية التي أدركت أنها في طريقها إلى النهاية. تلك هي المرحلة التي استقلت فيها، وهي ذاتها التي بدأ فيها انهيارها العقلي.

لا يزال «الفالس» مسموعاً

في لحظة ما شعرت كاميل بأن رودان كان يتآمر عليها فنياً. عام 1893 قدَّمت عمل «الفالس» في «الصالون الوطني للفنون الجميلة». كان ذلك العمل يصوّر زوجين راقصين، يدوران معاً على محور قطري في عناق وثيق. ويبرز الشعور بالحركة من خلال الستارة التي تبدأ من وركي التمثال وتمتد إلى أحد جانبيه. للوهلة الأولى يبدو التمثال غير متوازن، غير أن ذلك لم يكن سبباً لرفض عرضه في الصالون. فالعضلات القوية للرجل وجسد شريكته المتين يتركان انطباعاً بإثارة حسية شديدة كانت هي السبب. لقد انتقدت السلطات «الفالس» «إحساسَه العنيفَ بالواقعية» وعدّته غير مناسب للعرض في معرض مفتوح للجمهور. كان رفض التمثال الذي هو واحد من أهم أعمالها ضربةً قاسيةً ألقت بظلالها على علاقتها برودان الذي كان على علاقة وثيقة بأعضاء اللجان الحكومية.

وقفتُ أمام «الفالس» الذي تم عرضه باهتمام لافت، وشعرت بقوة ما انطوى عليه من تعبير ومن مهارة نحتية، جسّدت الفنانة من خلالها استقلالها عن أسلوب رودان وتحرُّرها من معالجاته التقنية وأسلوبه في النظر إلى موضوعاته. فبالإضافة إلى الجرأة الحسية التي كانت سبباً في منع عرضه فإن التمثال لا يزال ينطق بجماليات قل نظيرها في تاريخ النحت العالمي.

في هذا المعرض تستعيد كاميل كلوديل مكانتها المستقلة في تاريخ النحت على الرغم من أن حياتها المضطربة تظل تذكر بعلاقتها المتشنجة بواحد من أعظم النحاتين عبر العصور.


«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة
TT

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

يبدو ديوان «تجرحني بخفة وتعلو»، للشاعر المصري جمال القصاص، منذ عنوانه مفتوحاً على احتمالات تأويلية متعددة، فإذا كان المفعول به في هذه الجملة الفعلية واضحاً، وهو ياء المتكلم، الذي يعود على الذات الشاعرة، فإن الفاعل يظل دالاً عائماً، فهو ضمير غائب، يمكن حمله على تقديرات لا نهائية، لا يحدها شيء سوى كونها مؤنثة، فهي المرأة، والحياة، والقصيدة، والموسيقى، والشيخوخة والطفولة، والطبيعة، إلى آخر الدوال المشابهة، وكلها تطل برأسها على مدار الديوان، وتمارس حضورها في الذات الشاعرة، في وجودها وكينونتها، وحتى في الندوب التي تتركها في الجسد، ومن ثم فإن هذه الدوال الغائبة كلها في حالة لعب حر مع بعضها من ناحية، ومع الذات الشاعرة من ناحية أخرى، هذه الذات التي تعشق الحواف، وتقف على حافة كل شيء، ولا تنحاز كلية لشيء سوى الحب والشعر، وحتى هذين الأخيرين تبدو العلاقة معهما مسكونة بكثير من المراوغة واللعب والإرجاء.

هذا العنوان المخاتل تتعدد تمثيلاته داخل قصائد الديوان، وكل منها يشير إلى دلالة مغايرة عن الأخرى، فمرة يقول «هي نفس الموسيقى/ تجرحني بخفة... وتعلو»، فالإحالة هنا إلى الموسيقى، لكن هذه الإحالة ليست نهائية، فسرعان ما نجد في قصيدة أخرى إحالة مغايرة، حين يقول «أشياء كثيرة لا أحبها في الشعر/ لا تجرحني بخفة/ لا تعلو ولا تسقط/ لا تفتح في جسدي كتاب الليل أو النهار/ تضع في كفي متاهة تشبهني»، غير أن هذا الاقتران بالشعر ليس نهاية المطاف، فسرعان ما تنفتح دالة تجرحني على إحالة أكثر اتساعاً «سأرحل../ كل شيء يجرحني بخفة ويعلو/ كأني محض رغبة/ محض شبح». فالجملة المفتاحية التي تأتي في العنوان تنزاح دلالاتها من قصيدة لأخرى، وتظل في حالة لعب حر، وفي كل مرة تكتسي دلالات جديدة، ليصبح المعنى في المقطع الأخير أكثر اتساعاً، ولا يقتصر على الموسيقى أو الشعر، إنما أكثر نزوعاً نحو ظلال وجودية وفلسفية.

الديوان الصادر أخيراً عن دار «بتانة للنشر» في القاهرة، في أكثر من ثلاثمائة صفحة، يتكون من اثنتي عشرة قصيدة، كل منها تتكون من مجموعة مقاطع. وعلى مدار هذه القصائد، وفي كل قصيدة على حدة أيضاً، نرى الذات الشاعرة وقد جمعت الحياة من طرفيها، من لحظة الطفولة التي ما زالت حاضرة، كمعنى ونزق ورغبة في الاكتشاف، وحتى شيخوخة الذات، وما بينهما من استعادات للحظات جوهرية في هذه المسيرة الوجودية والعاطفية والجسدية وحتى السياسية، حتى إنه يمكن قراءة الديوان بوصفه سيرة شعرية مشفرة لهذه الذات التي تستعيد الماضي من جهة، ولا تكف عن البدء من جديد، سيرة لمراوغة العالم، لترويضه، لشعرنته، لمحاولة جعل الوجود أكثر ألفة، لإعادة تنظيمه في كلمات، فالشاعر صياد قديم - ومفردة صياد تتكرر أكثر من مرة في عدة قصائد - والقصيدة شبكته التي يلقي بها في لجة الوجود الصاخبة، محاولاً في كل مرة أن يظفر بغنيمة شعرية.

الالتباس والتداخل هو جوهر هذا الخطاب الشعري، فتتقاطع الذات الشاعرة مع الذات الشخصية لجمال القصاص، الذي يحضر باسمه في أكثر من نص، والذاتي يلتبس بالموضوعي ويتداخل معه، والعاطفي يمتزج بالأيروتيكي، والأحداث السياسية بالأزمات الصحية، والشيخوخة بطفولة جديدة. هنا، ذات تدرك تعددها، تدرك أن العالم عجينة نيئة، ألوان متعددة، ظلمة مسكونة بالنور، ونور مشوب بظلمة، ظلال لا متناهية، تتداخل كلها داخل الذات، فتحاول ترويض هذه المتاهة، متاهة الأنا ومتاهة العالم:

«الحياة متاهتنا الصغيرة نشبكها في أصابعنا

نحدثها عن ماض كان يشبهنا عن ظل دائماً يسبقنا

حين نتعب نتمسح في غباره»

رغم ضخامة الديوان، وإمكانية قراءة كل مقطع بشكل منفصل، فإنه محكم البناء، ويبدو مترابطاً منذ بدايته وحتى نهايته، كوحدة واحدة، وسؤال كبير مفتوح على إجابات شتى. فالشاعر يستهل الديوان بمساءلة ذاته بهذا السؤال الوجودي: «ماذا فعلت في هذه الحياة/ لا شيء يحرس عريك/ يؤنس وحدتك/ يضع شمعة صغيرة فوق الرف»، وإذا كان هذا المقطع هو ما أول يطالعه القارئ في الديوان، فإن إجابة السؤال تأتي في نهاية الديوان، ليس في القصيدة الأخيرة، لكن في المقطع الذي اختاره الشاعر ليكون على الغلاف الخلفي «ما زلت أحلم/ أتعرف على جسدي/ على نفسي/ على اسمي/ على حياة/ تركتها خلفي/ لم أودّعها/ فقط.../ نزّت الدموعُ من يدي/ وأنا أعلق الكتاب». وبين سؤال البدء، وإجابة الختام، تتناسل على مدار الديوان عشرات الأسئلة الأخرى المعلقة، عن الشعر، والحياة، والحب، والحرب، والمرأة، والجسد، وعن وجود ظل معلقاً على الحافة، وعن طفل يسكن الذات، ولا يتوقف عن محاولة البدء من جديد، فتصير النهايات بدايات أخرى، ليتحول الزمن إلى بنية دائرية، وليس خطاً فيزيائياً مستقيماً، فهو زمن شعري لا متناهٍ، زمن تعيد القصيدة والحب خلقه من جديد، لتمنحه طفولة لانهائية:

«ربما نحلم ببداية جديدة

في هذه السن الطائشة المجنونة

ربما تعرف النهايات كيف تسند القلب

توهمه بسعادة مؤجلة

تشبه الحنين أو النسيان»

وإذا كان الديوان مترابطاً بشكل بنائي، فإنه أيضاً يبدو مشدوداً ومترابطاً مع الدواوين السابقة للشاعر نفسه، فإذا كان الشاعر على مدار الديوان يراوع الحياة والزمن، فإن دواوينه السابقة قادرة على مراوغة النسيان وممارسة الحضور في القصائد الجديدة، مكتسبة حياة أخرى ووجوداً جديداً، فتحضر كثير من عناوين دواوين السابقة، بل بعض مقاطع من تلك الدواوين، في أكثر من قصيدة داخل هذا الديوان، وكأنها تولد من جديد، لتعيش طفولة نزقة - هي الأخرى - داخل القصائد الحديثة، فنرى حضوراً لدواوين «من أعلى بمحاذاة الموسيقى» و«السحابة التي في المرآة»، و«خصام الوردة»، و«بالكاد أعبر الشارع».

ثمة مرتكزان رئيسان في الديوان: الشعر والمرأة، وكلاهما يفضي إلى الآخر، ويسكنه، أو إنهما يندغمان أحياناً ليصيرا شيئاً واحداً، فالمرأة قصيدة متجسدة، والقصيدة امرأة لغوية، وكل منهما تستمد جدارتها من تشكيلها وتفاصيلها المغايرة للمعتاد، وتمثلان معاً الفضاء الآمن للذات، والملاذ من قسوة العالم وحروبه وأوبئته وغباره، فالشعر هو حارس الذات، ومرشدها إذا تعثرت الخطوات في الطريق «ببساطة شديدة أحب شعري/ يحرسني حين أنام/ وحين تتعثر خطوتي في الطريق/ يشدني من أذني ويهتف:/ انتبه... تشعبت قرون المشهد». أما المرأة، فإنها تعيد تشكيل هذه الذات، التي تتماهى معها، وتصير جزءاً من تجلياتها، وتعترف أنها صنيعة هذه الأنوثة: «يمكنني أن أواجه الظلمة برائحتك/ أضحك حين أصطدم بصدى صوتك/ ببقايا ظلك (....) كأن الكلمات كلها تخرج منك/ كأنني محض رائحتك». هكذا تتجلى مركزية كل من الشعر والمرأة في وجود الذات الشاعرة وعالمها، بل تذهب هذه الذات إلى القول إنهما معاً هما العالم، ولا تحقق لهذا العالم من دونهما:

«لا أعرف شكل العالم بلا شعر

لا أطيقه

تماماً مثل جسدي الفارغ منكِ»

هذه المركزية للشعر والمرأة تتجلى جمالياً في استخدام الضمائر على مستوى قصائد الديوان، إذ يغلب استخدام ضمير «أنتِ» المخاطبة، وكأن ثمة حالة حوارية دائمة مع امرأة ما، فتصير القصيدة بيتاً للحب غير المتحقق في الواقع، وفضاء للاتصال المؤجل في الحياة. أما الضمير الآخر الذي يقارب «أنتِ»، فهو ضمير الأنا، وكثيراً ما يكون استخدامه - أيضاً - في مقاربة علاقة الذات بالقصيدة أو بالحب، مقدماً مفاهيمه عن كليهما، فكثير من قصائد الديوان يمكن قراءتها بوصفها «ميتا شعر»، فإذا كانت الأنثى تخلق الذات، فهذه الأخيرة تخلق الشعر، وتكشف عن طبيعة مطبخها الشعري «بوسعي أن أخلق القصيدة/ من منفضة سجائر/ من حفرة عرجاء/ من صرخة فأر»، ولا تتوقف عند هذه الحدود، وتتعداها إلى وصف طبيعة اللغة الشعرية، وانحيازها إلى اللغة التي تولد من رحم الحياة وصخبها ومواضعاتها، وليس من متاحف القواميس والمعاجم، دلالة على انتماء الشعر للعالم، للحركة، للواقع المعيش:

«أكره الألفاظ المحنطة في المعاجم

اللغة حيث أمشي

حيث أرى

حيث ألمس

حيث أحس...

تلتحف قدميّ كعشبة

كبصقة...

كبقعة ضوء

فرت من غبار الرصيف».


تأملات قاهرية بعيون مصري مغترب

تأملات قاهرية بعيون مصري مغترب
TT

تأملات قاهرية بعيون مصري مغترب

تأملات قاهرية بعيون مصري مغترب

عن المركز القومي للترجمة بمصر، سلسلة «الإبداع القصصي»، صدرت طبعة جديدة من ترجمة رواية «قاهرة النسيان» للكاتب والمترجم المصري المقيم بباريس خالد عثمان التي كتبها بالفرنسية وترجمتها إلى العربية سحر سمير يوسف، ويتناول فيها تجليات العاصمة المصرية بسحرها وخذلانها ومفارقاتها الدرامية عبر عدد من النماذج والشخصيات المتناقضة اجتماعياً وأخلاقياً على نحو مثير للتأمل والدهشة.

يحدث ذلك من خلال حبكة درامية تتناول نظرة مصري مهاجر يعود إلى مسقط رأسه بالقاهرة بعد سنوات طوال قضاها في أوروبا، غير أنه بعد وقت قصير من وصوله يصاب بصدمة تُفقده الوعي ليكتشف عند عودة الوعي إليه أن ذاكرته قد طُمست تماماً مع فقدانه التام لأية دلائل على هويته الحقيقية.

تبدو القاهرة في هذه الرواية مدينة مخيفة وجذابة في آن معاً، تعج بالحياة وبنوع من الفوران الصاخب المتفرد، مدينة لا تحول العلاقات الاجتماعية المتشابكة فيها ولا قسوة الظروف الاقتصادية دون نشوء روابط وأواصر مجتمعية حارة.

ويرصد العمل نبض أماكن مميزة كميدان التحرير، مع مظاهر الاحتقان السياسي التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 ومصادرة الحريات الشخصية من قبل بعض التيارات الدينية التي لا تلبث أن تتخذ موقع الصدارة إبان التظاهرات التي كانت توشك على الاندلاع.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كان لديه انطباع بأنه خرج لتوه من بئر عميقة لا قرار لها كأنه قد استمر في السقوط بها لعدة قرون، وفي قمة البئر كانت شمس ساطعة تنشر أشعتها عالياً في السماء. كان مستمراً في الترقي نحو القمة، وقد تعلقت عيناه بقاع البئر فلم يكن يجرؤ على رفعها لأعلى خوفاً من أن يصاب بالعمى بشكل نهائي. وعلى الرغم من ذلك فإنه كان يسمع أصواتاً أليفة: مصراع نافذة تضربه الريح، متاع ينقل ويرفع من مكانه ليوضع في مكان آخر، كميات كبيرة من الماء تُصب على مساحات مبلطة أو صوت تتابع قطرة وراء قطرة. بدأ يرمش بعينيه ويفتحهما تدريجياً لتعويدهما على الضوء الذي غمر الغرفة، جسده ممد فوق فراش وسط غرفة بها أثاث بسيط لكن به ذوق. النافذة مفتوحة على مصراعيها والشيش المدهون باللون الأخضر هو وحده ما يمنع أشعة الشمس من خطف بصره. بالقرب من هذه النافذة، ثمة فتاة شابة ترتدي ثوباً ريفياً تجلس القرفصاء وفي يديها ممسحة وهي تدندن في هدوء. انفلتت خصلات بنية اللون من تحت المنديل الأصفر المكدس بالحلي الذهبية الذي عقدته دون عناية على رأسها، بينما يزين أحد كاحليها خلخال ثقيل. تلمع مربعات البلاط الكبيرة بالماء فتعكس بقعاً من الضوء على عينيه لدرجة أنه اضطر إلى وضع يده كحاجز أمام جبهته عندما هم بالاعتدال في الفراش. أصدرت قوائم الفراش صريراً جعلها تنتفض في مكانها وتستدير وقد انفرجت أسارير وجهها قائلة:

- صباح الفل والياسمين... سيدنا الأفندي صحا أخيراً!».